في صحبة عاشق النخيل .. د. عوض العيسابي (2)

 


 

 

 

صيف عام 1968م 


صالة المغادرة مطار الخرطوم الدولي :

جلس د.عوض في مقعد أمام نافذة تطل على ساحة المطار بعد أن أكمل أجراءات السفر متوجها للولايات المتحدة و بجانبه زوجه الحاجة نفيسة.
بدأ يرسم صورة في ذهنه لمستقبله العلمي الذي بدأت ملامحه تتشكل عندما تم قبوله لبرنامج الماجستير في تخصص شجرة النخيل في جامعة كاليفورنيا .
كان من المعهود في تلك الفترة بين أقرانه في هيئة البحوث الزراعية بمدينة مدني و الذين طلبوا أكمال دراساتهم العليا بالخارج أن يقوموا بالتقديم لعدد من الجامعات لضمان الحصول على القبول .
أما عوض العيسابي فقد أصر و قرر بعد بحث طويل في كليات الزراعة بالجامعات علم فيها أن دراسة النخيل لا تتوفر ألا في مكان واحد كان في في جامعة كاليفورنيا في منطقة ريفر سايد ، قرر أن يقدم فقط فيها ، وقد أكرمه الله بالقبول وبدأت منذ لحظتها بداية رحلة عشق جديدة مع النخيل .
نظر الى مدرج المطار و في يديه أوراق بدأ يقلب فيها و كأنه كان يبحث عن شيء ما ، أو أنه أراد أن ينشغل قليلا بها حتى يمضي وقت أنتظار أقلاع الطائرة سريعا .
أخرج مفكرته الخاصة وقلمه و كتب عبارة فيها سؤال واحد دار بخلده في هذه اللحظات وهو هل الأنسان مسير أم مخير ؟
نظر لمن حوله من الركاب الذين كانوا مثله ينتظرون بشغف مواعيد أقلاع طائراتهم ثم سرح بذهنه في البحث عن أجابة مقنعة لهذا السؤال تتوائم مع قصة حياته مع النخيل .
بعدها بدقائق قليلة كتب د.عوض هذه العبارة في مفكرته الخاصة :
أعتقد و بالنسبة لقصة حياتي فأنني كأي أنسان في هذه الحياة بدأت شخصا مسيرا لقدر ما ، وبعد جملة من الأحداث والأقدار الألهية ماكان لي إلا أن أعيشها حتى بلوغي مرحلة معينة ، أصبحت فيها على مقدرة للأختيار الذي هداني إليه الله ، لتتشكل حياتي بعدها على نحو كانت فيه النخلة و علومها رأس سنامه و عود أساسه .
بدأ ينظر لمواكب المسافرين من حوله ، فلاحظ طفلا يلاعب والده على مرآى من أمه فتذكر على التو لحظتها مشهد وفاة والده أمامه ، أو ما خيل له وأعتقده كطفل وقتها كذلك في عام 1941م .
في ذلك اليوم آدى والده صلاة الصبح في وقتها كعادته ثم ماتبعها من تلاوة للقرآن الكريم قبل و بعد الصلاة ، وقام بعدها بأعداد التجهيزات الأولية لشاي الصباح ثم أستلقى على عنقريبه في غفوة ما قبل الشروق .
بعد أن تم أعداد الشاي لاحظت والدته أن بعلها لم يتحرك من سريره ، وهو يتذكر جيدا كطفل كيف كان يرقد في ذلك اليوم متمددا و مغطيا نفسه بفراش أبيض كان كأنه كفن له .
مر الأمر طبيعيا وقتها حتى أكتشف الجميع أن والده على غير عادته لم يتجاوب مع كل النداءات التي حثته على النهوض لتناول الشاي ، ثم عرفوا أخيرا أنه أسلم روحه لبارئها و بدأت بعد ذلك موجات عاتية من الصراخ والعويل و النحيب بين الرجال و النساء في كل أرجاء قرية العيساب .
تذكر المشهد المحزن جيدا و هو يمر بين الرجال المنتحبين و النساء المولولات في الحوش دون أن يتمكن من المشاركة معهم في حزنهم على والده لأن أحدا في تلك اللحظات لم يتفطن ليخبره بوفاته !
نظر بعدها لمجموعة من الرجال تحلقوا حول عنقريب والده بشكل دائري وبينهم قطع من القماش الأبيض ، الكل يساعد في الأعداد لما علم فيما بعد أنه كفن والده محمد أحمد العيسابي .
نعم أنه أبي !
لقد مات أبي !
شعر بغصة شديدة في حلقه جعلت زوجه نفيسة التي كانت تجلس بجواره في صالة المغادرة تسأله بقلق عن الأمر ، بعد أن حست أنه ليس على مايرام .
ربت على يدها بحنان دافق ثم طلب من النادل قدح شاي و كوبا من الماء ، فناوله له النادل سريعا من مقهى الصالة ثم جلس للحظات يعاود التفكير في ذكريات و قساوة لحظات فقده لوالده في عمر غض مبكر .
لقد لازمه أحساس المرارة بفقد والده و اليتم عمرا طويلا كان يبحث فيه كل يوم عن الأمام القدوة و الملهم الذي يمكن أن يجسر له وعثاء الطريق في هذه الحياة النكدة و المريرة التي قاسها وحيدا مع أمه .
كل ما يذكره عنه أحداث متفرقة علقت بذهنه رغم أنه لم يتبين جيدا بسبب صغر سنه معالم شخصيته جيدا ، فقد رحل سريعا عنه وهو طفل يافع . ظلت مشاهد رفقته له الى الكرشة البيضاء أمام المنزل وهي نخلة ترتفع قليلا من طول والده ، و منظر عصاته و هو يلامس بها الرطب ليتساقط ثم يتناوله من الأرض و ينظفه من التراب و يأكله ، مازالت كل هذه الصور و المشاهد تترائى أمامه من وقت لآخر .
تذكر أيضا معاناته و أمه بعد وفاته و كيف كان يتنقل معها في فترة ما بعد هدم الفيضان الى منزل الأسرة الكبير بحلة تنقسي مع أحدى أخواتها و والدتهما ، ثم في فترة أخرى الى منزل آخر أنتقل له مع أسرة أحدى أخواته في قرية العسياب.
أمسك بمفكرته مجددا حتى يهزم دمع سخين أراد أن ينحدر من مقلتيه أمام الناس ، وبدأ يكتب هذه العبارات .....
قفر زماني لا ظل و لا شجر ... ومهمة بعدت فيها المسافات . يا نيل كنت أفهم إذا ضحكت على الصخور ... و للأمواج حنات . إذا همى الظل من شجراء وارفة.... فرت عن الظل في القيظ الحمامات . النخل من حولك زرافات جماعات على الضفاف ... و الخضر الخميلات . والناس عطشى تجاورك مساكنهم ....وهم يتحدثون بكلام كله رطانات .بكيت زماني لعشق نخيلك ... فهامت على القلب أشجان و أحلام . طلبت الدرس عن عوز و مسغبة .... فنالني العلم أيام و سنوات .هرمت لتلك اللحظة العجلى وأنا على نفاثة ... تسير بحلمي أشواط و أميال .
مدرسة القولد المتوسطة :
جاء النداء الأخير لركاب الرحلة التي كانت متجهة الى الولايات المتحدة عبر لندن ، فتحرك د.عوض و حاجة نفيسة نحو البوابة التي تفتح على ساحة المطار .
وماهي ألا دقائق معدودات حتى كان د.عوض بصحبة زوجه داخل مقعده في الطائرة مسلما ظهره للكرسي مسترخيا و سارحا في غياهب ماضيه يسترجع منه كل تفاصيل قصة حياته .
المرحلة المتوسطة كانت أيضا كالأولية أربع سنوات ومثلها أيضا للثانوية وقد أستمر هذا السلم التعليمي حتى جاء محي الدين صابر وزير التربية و التعليم في عهد مايو ( جعفر نميري ) و قام بتغييره الى ست سنوات للأولية و ثلاث سنوات للمتوسطة و مثلها للثانوية .
كانت أقرب مدرستين ( مرحلة متوسطة ) لمدينة الدبة وقتها مدرسة القولد و مدرسة مروي ، وكانت الأولى أهلية لاتنتظم بالجدولة الدراسية الحكومية ، تعقد أمتحانات القبول أليها قبل أربع أسابيع تقريبا من موعد أمتحان الوزارة للشهادة المتوسطة .
ربما لهذا السبب كان هنالك مجال رحب لأدارة المدرسة لأختيار الطلاب المتميزين إليها ، فقد كانت معروفة بأن جل تلاميذها يتم قبولهم للمدارس الثانوية و تحديدا مدرسة وادي سيدنا أم درمان ، التي تم قبول اربع و عشرين طالبا من دفعة د.عوض قادمين من مدرسة القولد .
كانت مدرسة القولد أحدى ثلاث أو أربع مدارس وسطى في كل المديرية الشمالية ، تلاميذها ينقسمون فيها الى ثلاثة مجموعات رئيسية سكانية و قبلية ، محس و دناقلة و مجموعة ثالثة كنا نسميها مجموعة العرب وفيهم الشايقية و الجعليين و بقية القبائل الأخرى ، و كانت اللغة العربية هي لغة الدراسة المعتمدة رغم أن المخاطبة أثناء اليوم الدراسي كان يغلب فيها أستخدام اللغة النوبية التي يتكلم بها الطلاب المحس و الدناقلة .
لم تكن هنالك أي نعرات عرقية بين الطلاب ، وقد هيأت أدارة المدرسة جوا تعليميا راقيا لهم تعلى فيه راية الوطنية و تخفض في راية القبلية لذلك كان الأختلاط بين المجموعات الثلاثة عامرا و كثيفا و يذكر عوض أن معظم أصدقائه كانوا من المتكلمين بالرطانة في مجموعتي المحس و الدناقلة ، تواصلت صداقته معهم الى مابعد المرحلة المتوسطة و بعضهم الى مابعد المرحلة الجامعية .
يا حليل مديرنا ناظر المدرسة أستاذنا عبدالله البشير فقد كان من الأساتذة الأفذاذ الذين كانوا يهتمون بالسلوك العام لطلابه قدر أهتمامه بتحصيلهم العلمي .
مر يوما في المساء في جولاته غير المعلنة على الداخليات ، وبينما هو في جولته هذه سمع ضحكة من أحد التلاميذ داخل أحدى الغرف شعر أنها فيها ميوعة لا تشبه الرجال ، فما كان منه إلا و قد دخل على الطلاب في الغرفة و أنتفض كل الطلاب من رعب المفاجأة .
لم نستطع أن نتدارك الأمر وقتها فقرر على التو كل التلاميذ المتواجدين في الداخلية وكان نصيب كل واحد منا سبع جلدات ّ.
أستطاع أستاذنا عبدالله البشير أن يجعل المدرسة كخلية النحل من الضبط و الربط و المثابرة و العمل ، و جاءت نتائج المدرسة في أمتحانات الشهادة المتوسطة خير شاهد .
أنني أذكر جيدا لحظة أنتظارنا للنتائج وقبل إعلانها بدقائق معدودات ، ذهبت أحوم و أجول و أصول حول فناء مبنى وزارة التربية و التعليم فقابلني أحد الأساتذة الكبار فسألته عن أخبار النتيجة ؟ فسألني في أي مدرسة أمتحنت ؟ فقلت له القولد ، فرد علي سريعا بطريقة أظهرت ملمح غيرة من أسم مدرستي : أذهب يا أبني فأنت بأذن الله مقبول للمرحلة الثانوية !
ثم جاء الأنتقال لمدينة أم درمان أو ضواحيها في مدرسة وادي سيدنا الثانوية التي قضينا فيها أربع سنوات كانت مليئة بالنشاط و العمل والدراسة و التأهيل النفسي لفترة الجامعة .
ثم جامعة الخرطوم كلية الزراعة ، مجمع شمبات دخلنا الكلية و عددنا واحد و ثلاثين طالبا فقط أكملنا في سنتها الأولى دراسة العلوم الطبيعية وبعد أنتهاء هذه السنة أصبح عددنا واحد و عشرين طالبا ، وأذكر جيدا كيف كانت دهشة المصريين عندما سافرنا في رحلة علمية للكلية لمصر عندما عرفوا أن هذا البلد القارة الذي يعتبر أكبر بلد زراعي في أفريقيا و والوطن الزراعي عدد طلاب كلية الزراعة في الدفعة واحد و عشرين طالبا فقط !
ربما كنا في مرحلة بناء الدولة و الكوادر المؤهلة التي سوف يكون عليها تبعات النهوض بهذا الوطن الجريح .
مرت الأيام و أنتظم دكتور عوض في هيئة البحوث الزراعية حتى جاءت هذه اللحظة التي سوف يبدأ حياته العلمية في الولايات المتحدة طلبا للعلم حول ما أحبه و عشقه دوما ..... شجرة النخيل .

teetman3@hotmail.com

 

آراء