الإحتجاجات المطلبية والسياسة

 


 

 

 

خلال السنوات الماضية، وفي إتجاه مقاومة سياسات الحكومة السودانية، العاجزة تماما عن توفير إحتياجات الناس الأساسية، تفتقت عبقرية الشعب السوداني عن إبتداع شكل جديد للإحتجاج الجماهيري السلمي يطالب الحكومة بتنفيذ مجموعة من المطالب الضرورية للحياة الآدمية، مثل توفير مياه الشرب النقية، تأهيل المستشفيات أو توفير مركز صحي للخدمات الصحية الأساسية، توفير المدارس، توفير الكهرباء ولو لمدة محددة يوميا، وتعويض عادل عن الأراضي والمنازل التي تغمرها بحيرات السدود التي تبنيها الحكومة دون استشارة أهل المنطقة. شكل الاحتجاج الجديد هو افتراش سكان المنطقة المعينة الأرض في أكبر ميادين عاصمة الإقليم المعني، وبدء اعتصام مفتوح، تتعدد جولاته، وتتنوع طبيعته من رفض التعامل مع أجهزة الدولة ومسؤوليها، الإضراب عن العمل والطعام، مقاطعة الانتخابات…الخ، في صورة جعلت هذه الاعتصامات بمثابة ترجمة أخرى لشعار الإضراب السياسي العام. ومن أشهر هذه الاعتصامات اعتصام قبائل المناصير في مدينة الدامر في شمال السودان، احتجاجا على بناء الحكومة لسد «مروي» على نهر النيل، والذي بسببه فقدوا مساكنهم وأراضيهم الزراعية، واعتصام سكان مدينة لقاوة المتآخمة لمناطق الحرب الأهلية في جنوب كردفان، المطالبين بمياه الشرب ومستشفى وطريق مواصلات! والاعتصامان استمرا لأكثر من ثلاثة شهور، ونجحا في تحقيق جزء من مطالبهما.

ورغم أن كل الاعتصامات والاحتجاجات المطلبية، واجهها النظام بالعسف والعنت وممارسات الطاغي المستبد، إلا أنها لم تتنازل عن شعار السلمية ورفض حمل السلاح. ومع ذلك، ومقرونا بإصرارهم الشديد على عدم تسييس قضاياهم المطلبية ورفضهم الشديد لتدخل الاحزاب السياسية، فإن المعتصمين كانوا يعلنون، جليا أو في الضمير المستتر، أن استهتار الحكومة المتواصل بقضيتهم سيولد من هذه الاعتصامات شرارة إسقاط النظام. وفي الحقيقة، فإن رفض التسييس والاستغلال الحزبي للقضية المطلبية، لا يعني رفض السياسة أو الأحزاب، مثلما لا يعني أن تتوهم الاحتجاجات المطلبية، أو نتوهم نحن، أنها بعيدة عن السياسة. لكن، ربما تود هذه الاحتجاجات إرسال إشارتين تحذيريتين، إحداهما إلى الحكومة بألا تبتذل الأمر وتتهرب منه، وتتحلل من مهامها وواجباتها عبر اختزال القضية ووصمها بأنها أحد أوجه الصراع السياسي، متهمة الاعتصامات والمعتصمين بتنفيذ مكائد ودسائس المعارضة. والثانية إلى الأحزاب والقوى السياسية، ناقدة ورافضة لسلوكها وتعاملها تجاه القضايا المطلبية لهذه المناطق. ولكن، الخوف من اتهامات التسييس، لم يمنع لقاوة، المتاخمة لميدان الحرب التي تتشظى فيها امتدادات صلة الدم والعشيرة، من استقبال برقية التضامن معهم من قائد العمليات العسكرية لقوات الحركة الشعبية/شمال المعارضة والتي تقاتل الحكومة. استقبلوا البرقية بكل هدوء واحترام، ودون أي تخوف باتهامهم بالانتماء للحركة، بل وكأنهم يرفضون مواقف الحكومة التخوينية الدامغة لمثل هذه الحالات.

والحق يقال، أن نظام الإنقاذ، بمختلف طبعاته، قد مارس التشويه والتشويش على السياسة بدرجة غير مسبوقة، مبتدرا ذلك، في بدايات انقلابه العسكري، بحملته الشعواء على الديمقراطية وعلى الاحزاب السياسية، معلقا كل أخطاء تجربة الحكم بعد الاستقلال على الحزبية، كأنما الوجود الحزبي هو حالة متخلفة تجاوزتها الشعوب، علما بأن رفض الديمقراطية وقمع الآخر هي الحالة المتخلفة. ثم بدمجه الحزب في الدولة، بعد أن حوّل الحزب إلى نادي لمجموعات المصالح. وباحتكاره المطلق لإدارة البلاد ولأي نشاط في المجتمع، حتى ولو نظمه فرد واحد!، بما في ذلك مساعيه المحمومة للتحكم في سياسة المعارضة، من خلال هجومه المركز والمدروس بعناية على الأحزاب مفسدا فيها وفيما بينها حتى أصابها داء التشرذم والانقسامات، وتمكن منها العجز وتدني الفعالية. وأيضا بصبغه السياسة بلون الدم والعصبية القبلية، وحقنها بالإحن والضغائن، حتى أصبحت السياسة لعنة تصيب من يمارسها بالاعتقال أو التشريد أو الموت أو سكتة الضمير، وحتى بتنا نتساءل، هل تتوهم الإنقاذ إنها، بتشويش السياسة وبتفكيكنا إلى شعوب وقبائل متحاربة، قد كسبت تحدي الجلوس الدائم في ركام وطن؟.

لا أعتقد أن المعتصمين في ميادين الاحتجاجات المطلبية في مختلف مناطق السودان، قد دارت بخلدهم كل هذه «الدوشة» التي أثرتها حول تشويش وتشويه السياسة، ولكني أعتقد أن رفضهم إقحام التحزب والحزبية في قضية الاعتصام، إضافة إلى أنه يأتي تخوفا من تصدي الحكومة الشرس والمتوقع حال ظهرت الاحزاب في الصورة وبالتالي ضياع الحقوق، فهو في الأساس ينبع من فكرة تمتين وحدة وتوحد أهل المنطقة حول القضايا المطروحة، وتحصنا ضد مرض التجيير الحزبي الذي كثيرا ما يفضي إلى الصراعات المضيعة للحقوق، مثلما يفضي إلى الاستجابة لإغواءات كراسي السلطة والسلطان. وأعتقد أن أحاديث قادة المعتصمين حول الحزبية والقيادات السياسية، تعكس أيضا وعيا متقدما يتجلى في إدراك أن تنمية منطقتهم لن تتأتى من خلال مسؤول حاكم، ولو كان متبوئا رتبة رفيعة في الدولة، ما دامت التنمية ليست من هموم الدولة وليست ركنا من أركان استراتيجياتها، كما يتجلى في رفضهم الانضمام لصفوف الحزب الحاكم بهدف تحقيق مطالبهم، ومقاومتهم لاستخدام النظام لابناء المنطقة المنتمين للحزب الحاكم لكسر شوكتهم. ومن هنا اعتقادي بأن الاعتصامات المناطقية تحمل بذرة فعل سياسي جديد سيتعلم بسرعة كيف يضع السياسي / نائب الدائرة / المسؤول في قفص الاتهام، ويجهز له ما يستحق من صحائف ولوائح المحاسبة.

أخيرا، أرى أن الاعتصامات والاحتجاجات المناطقية، تؤكد ما ظللنا نكرره، من ضرورة ربط الديمقراطية بتوفير لقمة العيش والحاجات الأساسية للمواطن، حتى لا تصبح الديمقراطية مجرد شعار أجوف. وأن انطلاق الحراك السياسي، والذي حتى فترة قريبة كان يقتصر على المركز، يمكن أن ينطلق الآن من الأطراف أيضا. وأن التغيير الحقيقي في البلاد يتطلب، ضمن متطلباته الأخرى، تمتين التحالف بين قوى التغيير في المركز، وقوى التغيير في الأطراف، وأنه في إطار التصدي لعلاج الأزمة السودانية العامة، سيتم حل قضايا الأطراف التي عانت طويلا من الإهمال والظلم.


نقلا عن القدس العربي

 

آراء