منطق الأشياء في السودان

 


 

 

 

عندما يحتج الشعب ويخرج إلى الشارع مطالبا الحكومة، أي حكومة وغض النظر عن لونها السياسي، بتوفير الأساسيات الضرورية المتعلقة بحياته ومعيشته، فمنطق الأشياء يقول ما على الحكومة إلا الإستجابة الفورية بخطوات وتدابير علاجية، بدلا عن المكابرة والملاسنة والقمع. وعلى مر التاريخ، أبدا لم ينجح ثلاثي المكابرة والملاسنة والقمع في حماية الأنظمة، فبالأمس القريب، لم يحصّن هذا الثلاثي أنظمة مبارك وبن علي والقذافي ضد إنتصار غضبة الشعب. ومنطق الأشياء يؤكد أيضا، أن العالم اليوم يسعى نحو بسط المزيد من الحريات والحقوق، ونحو تقليص مساحة الفردي الخاص والقلة لصالح المجموعة.

لكن، من الواضح أن حكومتنا في الخرطوم تسير مندفعة بعناد في الإتجاه المعاكس لمسار منطق الأشياء، وتمارس كل ما يؤكد أنه لا يربط بينها وبين الشعب أي ود أو محبة أو كلمة شرف أو كلمة حق. فهي تجابه السخط والاحتجاجات الشعبية ضد الغلاء والتدهور الإقتصادي بالقمع والعنف المفرط، وبالمزيد من التكبيل لحرية التعبير، والمزيد من الإجراءات الهادفة إلى تقليص وتحجيم حركة الأحزاب السياسية، عبر إعتقال قياداتها وكوادرها ومحاصرة مقارها.
وفي تقديرنا، بهذه الاجراءات وهذا السلوك، يؤكد نظام الخرطوم إنقلابه على هامش الحريات المتاح في البلاد منذ التوقيع على الإتفاقات بين الحكومة وقوى المعارضة، مثلما يؤكد أنه يحتفي فقط بالشرعية القائمة على العنف وقمع الآخر. وحكومة الخرطوم تسير عكس مسار منطق الأشياء حتى في محاولاتها الخروج من مأزق إنهيار العملة السودانية، والذي يعد، حسب الخبراء، من أهم مظاهر الإنهيار الاقتصادي الذي يعصف بالبلاد، خاصة في الأيام الأخيرة التي وصلت فيها هذه الظاهرة إلى مرحلة ما يطلق عليه في أدبيات إقتصاد أسعار الصرف «السقوط الحر للعملة»، فكان منهجها لعلاج الظاهرة هو التصدي لها بالعقلية الأمنية القابضة، حيث تعزي الأسباب إلى التجار المضاربين في العملة والمهربين ومخربي الإقتصاد الوطني وسط أطراف المعارضة، إضافة إلى أنشطة المخابرات الأجنبية كمسبب من مسببات الأزمة..!. وبالطبع لم يفلح هذا النهج في إنقاذ الجنيه السوداني، بل تواصل تدهوره بدرجة غير مسبوقة. وترجح كل توقعات الخبراء، إستمرار «السقوط الحر» للجنية السوداني في ظل الإنسداد السياسي والإقتصادي الحالي في البلاد. وهكذا يواصل نظام الخرطوم السير، بعناد أخرق، ضد مسار منطق الأشياء، في حين أننا، وفي هذه اللحظة تحديدا من عمر الوطن الذي يترنح، نحتاج إلى الإستجابة والتوافق مع مسار منطق الأشياء هذا، حيث الشعب هو الآمر الناهي للحكومة، فتستمع إلى أصوات خبرائه وعلمائه وهم يطرحون البدائل السياسية والإقتصادية للخروج بالبلاد من شفا حفرة الإنهيار.
والأزمة السياسية الإقتصادية الخانقة في البلاد، صاحبتها العديد من القصص والأحداث المعبرة. فعلى جدران وسائط التواصل الإجتماعي، كتبت معلمة المرحلة الإبتدائية، الأستاذة فاطمة ضيف: (عُدت إلى مدينة لقاوة، في ولاية غرب كردفان، بعد غياب دام أكثر من ستة أشهر متواصلة، فلم أجد سوى المعاناة والبؤس والكآبة. وعندما دلفت إلى الفصل الضيق والذي تتكدس فيه أكثر من ثمانين طالبة، واجهني البؤس والكآبة ومظاهر الألم والمعاناة الحقيقية التي تخيم على كل الطالبات وهن يجلسن على كراس بدون أدراج، قديمة ومهترئة، ومتلاصقة بحيث لا مساحة لأي ممر أو حركة غير الجلوس في ذات الوضعية منذ بداية الحصة. ألقيت التحية على طالباتي، وكتبت عنوان الدرس المقرر حسب المنهج، وكان «الثورة الفرنسية 1789»، والصدفة وحدها هي التي جعلتني أدرّسه في هذا الوقت بالتحديد من عمر الوطن!.
وكمعلمة ملتزمة بحدودي التربوية، درّست المادة وفق المنهج المرسوم من الوزارة. وقبيل إنتهاء الحصة، ولقياس مدى إستيعاب الطالبات للدرس، سألتهن إن كان لديهن إستفسار أو إضافة. وكانت المفاجأة أن نهضت إحدى الطالبات لتقول لي، بلهجة مشبعة بالحزن والغضب: «يا استاذة أليس نحن أحق بالثورة الآن؟!». ودون أن تترك لي مجالا للرد، واصلت الطالبة حديثها قائلة: «يا أستاذة نحن الآن نعيش كل مقومات الثورة وعلى رأسها الجوع…، والجوع أصعب شيء يا استاذة»…! كدت أنهار بسبب تأثري الشديد بكلمات هذه الطالبة التي نبعت من داخل قلبها، وهي كلمات جسدت فعلا المعاناة الحقيقية للمواطن. ولكن، وبحكم إلتزامي بالمهنة وقواعدها، قلت للطالبة: «نعم من حقكن أن تثرن! لكن، الثورة انواع، وما اطلبه منكن كطالبات صغار في السن، وفي المرحلة الإبتدائية، أن تبدأن بثورة ذاتية داخل كل واحدة فيكن، ترتب حالها وهي خارجة الصباح متجهة للمدرسة، تتأكد انها نظيفة مهندمة مرتبة تحمل كل متطلبات الدراسة، وفي داخل المدرسة تلتزم باللوائح وتنضبط في الفصل وتجتهد في الدروس، وترسم في خيالها طموحا معينا تحاول أن تسعى للوصول إليه». قلت هذا الكلام وأنا ممزقة داخليا، لأن طالباتي جعلن مني شخصا آخر.خرجت من الفصل وانا أتمتم، فعلا نحن أحق بالثورة. واقولها الآن وأنا خارج الفصل والمدرسة، يا شعب السودان عموما، ويا أهلي وشعب غرب كردفان، لماذا لا نثور ونحن نرزح تحت الفقر والجوع والمرض ونقص الخدمات المُريع وسوء الإدارة؟.كيف لا نثور والبترول والتعدين العشوائي دمرا البيئة وجلبا لنا الأمراض، بينما لا نرى أي عائد منهما لصالح منطقتنا؟. كيف لا نثور والغلاء الفاحش انهك كاهل المواطن الغلبان، بينما أصحاب المناصب الدستورية لا يحسون بمعاناتنا؟!. كيف لا نثور والمركز يصدّر لنا الحروب العبثية، وينتهج معنا سياسة التهميش المتعمد، فلا يتذكرنا إلا للحشد أو الانتخابات؟! كيف لا نثور وطلاب المدارس يجلسون على الحجارة؟!. كيف لا نثور والمستشفيات لا تسعف المريض والطرقات الوعرة تعيق الوصول إليها؟! كيف لا نثور والإعلام لا يساعدنا لنعرف ما يدور حولنا؟! كيف لا نثور ونحن لا نعرف مياه الشرب النظيفة ولا الكهرباء؟!.. نعم، الجوع كافر، ولكنه الوقود الذي سيحرك الجميع للثورة). إنه منطق الأشياء!!.

نقلا عن القدس العربي

 

آراء