موسْكو وبِكين معاً لِصَدِّ هَجْمة واشِنْطُن عليهما

 


 

 

* أمْريكا تَدْفَع العِمْلاقين الأسيويين، روسيا والصين، لِتَحالُفٍ لَمْ يَكُنْ مَنْظوراً
؛؛؛...؛؛؛
هل تتّجِه الصين بالفِعل لقيادةِ العالمِ، أو لعب الدور الرئيس في قيادته بدلاً من الولايات المُتّحِدة الأمريكيّة أو على الأقل مُقاسمتها هذا الدور؟ وأين روسيا وموقعها من تقاسُم النفوذ؟ لا ريب أنّها أسئلة تنْطَلِق من العواصِم الثلاثة، واشنطن موسكو وبكين، وتفرِض نفسها على العديد من عواصِم العالم الصاحية وعلى المُراقبين في وسائلِ الأعلام وبالأخص الأوروبيّة حيث تقف عاصِمة الاتحاد الأوربي بروكسيل لا مُراقِبة ومتحفِّزة فقط، وإنّما نشِطة تتحرّك بدورها. وكيف لا تفعل بروكسيل ذلك والنِزاع حول أوكرانيا بين موسكو وواشنطن التي تخوضه أيضاً باسم حلف شمال الأطلسي، تتأثّر أول ما تتأثّر به القارة العجوز أوروبا، كما أنّ عزم واشنطن الحدّ من نفوذ بكين في جوانِبه الأكثر أهميّة، أي الاقتصاديّة، سيمُرّ عبر أوروبا، فللصين الكثير من الاستِثمارات التي لها وزنها في العديد من الدول الأوربيّة.

* ثلاثة قِمم افتراضيّة:
الشاهد أنّ الأسئلة نفسها كانت وراء عقد ثلاثة قِمم ثنائيّة افتراضيّة عبر تقنية الفيديو بين الرؤساء الصيني شي جين بينغ والأمريكي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين. ففي غضون شهر واحد نجحت العواصِم الثلاثة في فتح خطوط مباشرة بين الرؤساء ليتحدّثوا عن أهم القضايا لكل منهم وبالتالي، وبدون التصريح بذلك، وضع الخطوط الحمراء والتي حتماً ستتقاطع وتتصادم إذا لمْ يتمّ حولها حواراً وربّما تسويات، وإلّا فالعواقب ستكون وخيمة.
ولأنّ القِمّتين التي كان طرفهما الرئيس جو بادين وجمعته مرّة مع شي جين بينغ يوم 15 نوفمبر الماضي والأخرى مع فلاديمير بوتين يوم 7 ديسمبر الجاري، لم يتمخّض عنهما سوى تبادل تحديد المواقِف من العديد من القضايا أو بالأصح الخِلافات، فإنّ القِمّة التي جمعت الرئيس الروسي مع نظيره الصيني كانت غير، وفيها الجديد الذي تجاوز اسْتِعْراض المواقِف، ولعلّ السبب وراء ذلك أنّ هنالك ما يجمعهما وهو التصدّي لما يطْلِقا عليه الهجْمةِ الأمريكيّةِ على بلديهما، والضرورة المُلِحّة لمواجهتها.
جاءت قِمّة واشنطن بكين وسط تصاعُد التوتّر بين أكبر اقتصادين على مستوى العالم حول خِلافاتهما بشأن تايوان، والشئون التِجاريّة، وحقوق الإنسان. ولعلّ أهم عبارة اهتمّ بها المُراقِبون، كانت قول الرئيس بايدن "على الدولتين مسؤوليّة ضمان أنّ المُنافسة بينهما لن تضلّ طريقها لتتحوّل إلى صِراعٍ مفتوحٍ". وفي القِمّة الثانية كان الرئيس بوتين أكثر وضوحاً في حديثه مع بايدن ولمْ يحدّد فقط موقِفه من بعض الخِلافات، بل طلب ضمانات أمنيّه لبلاده تجاه تمدّد البنية التحتيّة لحلف شمال الأطلنطي وحدّد بالتالي ألّا يتوسّع الناتو في أوكرانيا.
إذن، دعونا نركِّز في القِمّة الافتراضيّة الثالثة التي جمعت الرئيسان الروسي والصيني ونستعرض ما دار فيها، والخلفيّة التي يبدو أنّها حتّمت اللِّقاء، والتحديّات التي دفعتهما ليتّفِقا على ما لمْ يراوِد أحد، أو حتّى أيّ منهما في وقت سابق. فهل تأكّدت مقولة "المصائب يجمعنّ المُصابينَ"؟
فبينما شكّل زعيم البيت الأبيض تحالُفاً من الدول الغربيّة في مؤتمرٍ دولي حول الديمقراطيّة نظّمه بمشاركة نحو 110 دولة ومنطقة، ولم تُدع له تركيا ولا الدول العربيّة باستثناء العراق، ألمحت روسيا والصين إلى أنّهما سيعملان كفريقٍ واحدٍ، لبناء جبهة مُشتركة في مواجهة التوتُّرات المُتزايدة بشأن العلاقات مع الولايات المُتّحِدة ، لصد هجومها عليهما. وبذا تَمّ دفع العملاقين، روسيا والصين، لتحالُفٍ كان سيُنْظر إليه بأنّه، بالمَرّة، "غير طبيعي".
وفي قِمّة ثنائيّة عقداها عبر الفيديو، هدف الاجتماع بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ، لإظْهار القوة والتضامن بين اثنين من الأوتوقراطيين الذين يقاومون الضغوط الغربيّة، وكشف الزعيمان خلالها عن نوع الشراكة التي يسعيان لها بين بلديهما.
ولمواجهة مُقاطعة دوليّة مُحْتملة من قبل جو بايدن ورؤساء دول آخرين لدورة الألعاب الأولمبيّة الشِتْويّة في بكين، حصل شي جين بينغ على وعد بوتين العلني بحضور الحدث، وأصبح بذلك زعيم الكرملين أول رئيس يصْدُر مثل هذا الإعلان.
وتحت ضغط التهدّيد بعقوبات غربيّة غير مسبوقة في نِزاعه مع أوكرانيا، حصل بوتين من نظيره الصيني على اقتراح تعاون بلديهما لـ "حماية المصالح الأمنيّة لكلا الجانبين بشكل أكثر فعاليّة".

* كيمياء شخصية تفعل فعلها على مستوى العالم:
تُمَثِّل القِمّة الافتراضيّة الثنائيّة التي عُقِدت يوم 15 ديسمبر الجاري الاجتماع السابع والثلاثين بين الزعيمين، مُنْذ عام 2013. وفي تحليل نشرته صحيفة (جورنالول ناتسيونال) في عدد الجمعة الأسبوعي الواسع الانتشار، يرجِّح الكاتب الصحفي شيربان ميهايلّا، إنّ الكيمياء الشخصيّة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ هي العُنْصُر المُهم في تطور العلاقات الحاليّة بينهما، وهما زعيمان عزّزا سيطرة كل منهما على الأنظمة السياسيّة في بلديهما.
في الواقع، خاطب شي نظيره بوتين باستخدام عبارة "صديقي القديم"، بينما وصف الرئيس الروسي نظيره الصيني بأنه "صديق عزيز" بَلْ "صديق خاص".
والملاحظة الثانية ذات الأهميّة البالغة، فعلى عكس القِمّة الثنائيّة الافتراضيّة التي عقدها زعيم الكرملين الأسبوع الماضي مع الرئيس بايدن، عندما كان خلف بوتين العلم الروسي فقط، تمّ وضع العلمين الصيني والروسي بجوار كل من الزعيمين خلال لقائهما الافتراضي يوم الأربعاء الماضي.

* هيكلة ماليّة مُستقِلة وتحالُف مع الهِنْدِ:
على الرغم من أنّ بوتين وشي يتحدثان عبر الهاتف في كثير من الأحيان، لا يزال هناك العديد من الخِلافات بين روسيا والصين، وهُما مُنْذ وقت ليس ببعيد دولتين متنافِستين، ولهما حدود بريّة مُشتركة يزيد طولها عن 4100 كيلومتر، ومن بين القضايا المُخْتلف عليها استغلال الغابات أو تاريخ سيبيريا. بيد أنّه، فيما يتعلق بالتِجارة والأمن والجُغرافيا السياسيّة، فإن موسكو وبكين تسيران بشكلٍ مُتزايدٍ على نفسِ المَوْجَةِ، وتشكِّلان كُتلة تسعى لِمُواجهة النفوذ الأمريكي مع تَعْمُّقِ الاشْتِباكات بين العِملاقين والولايات المُتّحِدة .
ومع ذلك لا يوجد تحالف رسمي بين الصين وروسيا، ووفقاً لمستشار الكرملين الذي أطلع الصحفيين على اجتماع يوم الأربعاء الماضي، قال شي لبوتين "إنّ هذه العلاقة، بقربها وفعاليتها، تتجاوز مُجَرّد تحالف"، وتلك عبارة غير مسبوقة في العلاقة بين الرئيسين وبين البلدين. وفي الواقع، ناقش الزعيمان تشكيل "بنية تحتيّة ماليّة مُسْتقِلة" لتقليل الاعتماد على البنوك الغربيّة، فضلاً عن احتِمال تعرضهما لعقوبات غربيّة مُتزايدة.
علاوة على ذلك، وكدليلٍ على الطموحات الجيوستراتيجيّة العالميّة، اقترحا أيضاً عقد قِمّة ثلاثيّة مع الهِنْدِ، عِلماً بأنّه في الأسبوع الماضي، التقى بوتين في نيودلهي رئيس الوزراء الهِندي ناريندرا مودي.

* الردّ على "قِمّة الديمقراطية:"
وقال بوتين لنظيره شي، في إشارة إلى الضغطِ الغربي على روسيا والصين حول مسائل احتِرام حقوق الإنسان "تمّ تشكيل نموذج جديد للتعاون بين بلدينا - نموذج يسْتنِد إلى أساسيّات مِثل عدم التدخُل في الشئون الداخليّة واحتِرام مصالح بعضهما البعض".
بدت الجبهة المُشتركة التي هندسها الزعيمان في اجتماعهما بمثابة ردّ على "قِمّة الديمقراطيّة" التي نظمها جو بايدن الأسبوع الماضي باعتبارها محاولة لبناء تحالف ضد الحكومات الشِموليّة الاسْتِبْداديّة، مثل الروسيّة والصينيّة، بحسب وصف الدول الغربيّة للدولتين.
ومن جهته قال شي: "تحت ذريعة الديمقراطيّة وحقوق الإنسان تتدخّل قوى دوليّة مُعيّنة في الشئون الداخليّة للصين وروسيا". وأضاف: "يمكن فقط لشعبِ أي دولةٍ أنْ يقرِّر ما إذا كانت دولته ديمقراطيّة، وكيف تتحقّق الديمقراطيّة على أفضل وجه في دولته".

* أولويات مختلفة:
والى ذلك، جاء شي وبوتين إلى اجتماعهما بأولويّات مُختلِفة جِدّاّ على المدى القصير. بالنِسبة لزعيم بكين، كانت القِمّة فُرْصة لمواجهة الانتِقادات المُتزايدة لقمعِ الصين الحركة المؤيّدة للديمقراطيّة في هونغ كونغ، وتهديد تايوان، والقضاء على الأقليّة المُسلِمة في غرب الصين.
وأراد شي أن يُظهر أنّ بلاده ليست معزولة دبلوماسيّاً، خاصة عشيّة دورة الألعاب الأولمبيّة الشِتويّة، والتي تهدِف إلى إبراز القوّة العالميّة العظمى للصين، وبطبيعة الحال لا يَنْتَظِر شي أنْ تؤدي إلى تشويه خطير في صورة العلاقات بين العِملاق الآسيوي وكثير من دول العالم.
وبالنسبة لبوتين، جاءت المُحادثات في وقتٍ ينطوي على مخاطر كبيرة لمعركته ضد النفوذ الغربي في أوكرانيا، حيث تشعر الولايات المُتّحِدة والناتو بالقلق من تحرُّك القوات الروسيّة بالقرب من الحدودِ الأوكرانيّة، خوفاً من غزوٍ جديدٍ تقوم به روسيا. ولمْ يتمّ ذِكر أوكرانيا أو الناتو في تقارير وسائل الإعلام الصينيّة التي تناولت الاجتماع، بلْ جرى تقديم تلميحات إلى مخاوف روسيا الأمنيّة بشأن الوضع على حدودها. ونقلت وسائل إعلام في بكين عن شي قوله لبوتين "يتعين على الصين وروسيا اتخاذ مزيد من الإجراءاتِ المُشتركةِ لحمايةِ المصالحِ الأمنيّةِ لكلا الجانبين بشكلٍ أفضل".

* علاقات وثيقة ولكن في حدود:
لقد عزّزت روسيا والصين العلاقة التي شابتها، على مدى عقود، العديد من الشكوك، والتي تحوّلت عام 1969 إلى صرِاعٍ حدودي.
وعندما واجهت روسيا العقوبات الغربيّة عقِب ضمِّها عام 2014 شبه جزيرة القرم الأوكرانيّة، وجّه بوتين انتباهه إلى الصين للتخفيف من آثار الضربات الاقتصاديّة. وكثّفت بذلك روسيا التِجارة الثُنائيّة مع الصين في عُدة مجالات، من الطاقة إلى صِناعةِ الأخشابِ.
ومُنْذ العام نفسه، تحسّنت وجهات نظر روسيا بشأن الصين بشكلٍ كبيرٍ. ووفقاً لمسحٍ أجراه مركز "ليفادا" المُسْتَقِل، فإنّ 70% من الروس لديهم الآن موقِف إيجابي تجاه جارتهم الآسيويّة الصين، وهي نسبة أفضل بكثيرٍ من آرائهم حول الولايات المُتّحِدة أو الاتحاد الأوروبي أو أوكرانيا.
وفي غضون ذلك، كثّف جيشا البلدين تدريباتهما المُشتركة بل وحتى عملياتهما، بما في ذلك تلك الجويّة. وفي أكتوبر، ولأول مرّة، جرى تسيير دوريّات بحريّة في المحيط الهادئ. كما التزمت روسيا والصين باسْتِكْشاف الفضاء الخارجي معاً.
ومع ذلك، هناك أيضاً حدوداً للشراكة التي يروِّج لها بوتين وشي. على سبيل المِثال، لمْ تعْترِفْ بكين بضم شبه جزيرة القرم، ولمْ تنْحاز روسيا إلى الصينيين في مطالِبهم التوسُّعيّة في بحر الصين الجنوبي. وعلاوة على ذلك، تجنّب الجانبان الدخول في تحالف رسمي، يُنَصّ عليه في مُعاهدةٍ، مُفَضِلين الاحتفاظ بقدرتهما على التصرُّف بشكلٍ مُسْتَقِلٍ من أجل مصلحتهما.
على الأرْجح، لنْ تتسرّع بكين في الموافقة على عمل روسي محفوف بالمخاطِر في أوكرانيا، ولنْ تقْتنِع موسكو بغزو صيني مُحْتمل لتايوان. وفي مُقابِل ذلك، وضِمن هذه السيناريوهات، قد يُظهر حليفا ضرورة صدّ الهجمة الأمريكيّة والغربيّة عليهما، حياداً مطلوباً تجاه بعضهما البعض، ولا غرو أنْه سيكون حياداً مقبولاً في موسكو وبكين.

isammahgoub@gmail.com
/////////////////////

 

آراء