أزمة الواقع السودانى السياسى الراهن و ضرورة التغيير .. إعداد: أمين زكريا إسماعيل

 


 

 

أزمة الواقع السودانى السياسى الراهن و ضرورة التغيير

تحالف كاودا نموذجا وطنيا لاسقاط نظام الخرطوم

إعداد: أمين زكريا إسماعيل

متطلبات التغيير السياسي فى السودان:

إن الحاجة الى تغيير سياسى حقيقى  و مفيد للسودان  تتطلب درجة عالية من الوعى الى تغيير اجتماعى ثقافى كبير و يجب ان تدور فضائياته فى ثلاثة محاور  رئيسية:
1- الفرد و وعية الذاتى.
2-  المجتمع و أغراضة و كيفية التخلص من تناقضاته.
3- المواطنة و كيفية ترجمتها واقعيا.
و فى هذا المجال اسمحوا لى أن أشير الى بحث و كتاب اعد فيه الان و هو عبارة عن محاولة فكرية حول بناء نظرية الدائرة الثقافية بعنوان أثر تثقيف الثقافات فى بناء الهوية السودانية المشتركة وعلاقتهما بالسلطة.
فكما يقول مشيل روكار (اذا رغبنا ان نحترم فعلينا ان نكون محترمين، فالدولة التى لا تحمى سكانها ليست محترمة و لا جديرة بالاحترام)
مقدمة:
لكى نتعرف على ثقافاتنا السودانية بإيجابياتها وسلبياتها، وندرك قدرتها على التحاور والتجاور و التبادل و التعايش السلمى مع الآخرين، فلا بد من دراسة و معرفة الثقافات الأخرى سواء كانت سودانية او غيرها، بجانب نظرة الثقافات الاخرى لثقافاتنا أيضا فى إطارها العمومى و الخصوصى، و هو ما يمكن وصفه بأن الثقافات أو المجموعات الثقافية مهما كان حجمها و زمانها و مكانها فهى تشكل العمود الفقرى للإنسانية جمعاء، بل ما يسمى فى عالمنا المعاصر بالعولمة، ماهو إلا إمتداد طبيعى لتراكمات ثقافية، بدأت بثقافة إنسانية واحدة ثم توسعت ديمغرافيا و جغرافيا وبيئيا و إجتماعيا و إقتصاديا و سياسيا ...الخ، وشكلت ما يعرف بالعولمة أو الثقافة العالمية، التى بنيت على معطيات، لكنها يجب ألا تتجاوز النظرة النشوئية للثقافات و تاريخ و ماضى تشكلها، كما عليها ألا تتجاهل أى ثقافة مهما كان حجمها و تاريخ و عوامل تكوينها، و إلا فإن الصراع و النزاع سيكون النتيجة الحتمية لذلك
لذلك علينا المحافظة على التنوع الثقافى و تشجيعة، و التعامل مع الواقع الثقافى السودانى بسماته  و خصائصه و عوامله  المختلفة كرصيد إنسانى واقعى و طبيعى لا يمكن تجاهله بأى حال من الاحوال، إذا أردنا أن ننعم بمجتمع مستقر و عادل و ديمقراطى
لذلك فإن الإستثمار فى جانب التنوع الثقافى يعد أكبر رصيد لتطور و تنمية المجتمعات، ليس على المستوى المحلى أو الإقليمى فحسب، بل على المستوى العالمى، فالحضارة العالمية لا تشكل واقعيا طبقا لذاك المفهوم إذا لم يحدث تضامنا على كافة المستويات الثقافية بما يخدم الانسانية
فالثقافة تعتبر اساس الإتصال والتفاعل الإجتماعى، كما انها تشكل أيضا مصدرا للسيطرةوالفنون والعلوم والدين وكل الانساق الرمزية متضمنة اللغة نفسها هى التى تحقق فهم كما نجد ان الأفراد والمجتمعات يشكلون الحقائق، وتشكل أساس الإتصال الإنسانى، كما أن الثقافة تساعد على نشوء الهياكل الإجتماعىة و المحافظة عليها
فالثقافة تتضمن المعتقدات والعادات والقيم واللغة، كما أنها عبارة عن وسائط عملية تربط  الأفراد والجماعات بالمؤسسات الهرمية، وبالتالى تلعب دورا مهما فى تشكيل الهوية
و مهما كانت درجة المقاومة للنظم  أو المؤسسات فنجد أن الثقافة تجسد بناء علاقات السلطة، بالاضافة إلى ان الممارسات الثقافية تشكل مساحة أو ميدان ذاتى ومستقل للصراع من اجل التمييز، إلا أننا نجد أن المثقفين والمنتفعين من أى وضعية ثقافية فى أى ظل ثقافى متعدد ومتنوع هم المنتجين والناقلين المتخصصين للثقافة، ويلعبون أدوارا فى تشكيل هذا الميدان وتأسيس  هياكله.                                     
و من هنا نلاحظ  الإستمرار التاريخى لجدلية الثقافة و السياسة و أيهما سابق للآخر و مؤثر فية، فالثقافة تعنى بالقيم و الأخلاق، و السياسة تعنى بالأفعال العملية، و مهما كان الاختلاف فإن بناء الهياكل السياسية يحتاج الى ثقافة، و الثقافة من جانب آخر لا بد ان تراقب الجانب القيمى و الأخلاقى فى الهياكل و المؤسسات السياسية، و يمكن القول أن كل منهما مكمل للآخر و مؤثر فيه. و السؤال الذى يطرح نفسه لماذا و كيف يتحكم طرف على الآخر؟ و ما هو تأثير ذلك على المجتمع؟
السودان بلد متنوع ثقافيا وإقتصاديا وسياسيا وبيئيا، إلا أن هذا التنوع ينقصه التعامل الراشد للاستفاده منه اجل تطور وتنمية حقيقية تساهم فى خلق نقلات نوعية تقود إلى دولة المواطنة والدستور والقانون، و من ثم خلق هوية و وطن موحد و مستقر
حيث نجد تعقيدات ثقافية وإقتصادية وسياسية أصبحت واقعا بفعل العديد من السياسات الخاطئة  و إهمال الدولة الرسمى لأهمية الثقافة وتنوعها فى خلق دولة بالمفهومين العلمى والعملى الصحيحيين، وتحديد هوية سودانية بفهم جمعى متفق عليه الى حد ما
فالسودان بلد ملئ بالتعقيدات المتافيزيقية والنفسية والاجتماعية والبيئية ذات الابعاد السياسية المصطنعة، مما أثر فى التطور الطبيعى للخارطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية،  لأن  النخب السلطوية المركزية مستفيدة من هذه الوضعية لخلق تميز مزيف يضمن استمراريتها وسيطرتها على مقاليد الامور و إقصاء الآخرين او إعادة إنتاجهم بما يخدم مصالحهم الذاتية. ومن ثم فإن ديناميكية التحرر والتحول الفكرى والسلوكى القادمة من الاطراف يقابلها شراسة إستاتيكية وجمود فكرى مركزى يسيطر عليه ما يسمى بالنخب او الصفوة المركزية.             
وتنيجة لتلك التناقضات تظل المعادلة السياسية غير موزونة ولا تنبأ بتغيرات جادة تصب فى مصلحة الشعب السودانى، وللأسف فإن هذه النخب قد استخدمت العلم لخدمة استمرارية دوافعها الأنانية، وبالتالى فإن دوائر الصراع الثقافى وصراع الهوية ودولة الدستور والقانون والمواطنة سوف تدور فى دوائر مفرغة ولن يحدث تغيير ملموس إلا بتغيير أجهزة الدولة ونظرية المؤآمرة  والأدوات التى تستخدم لأستمراريتها، لأن ما يدور فى جهاز الدولة بشكلة الحالى سوف يعيق من وحدة استقرار السودان آنيا ومستقبلاً، وبالتالى فإن الحاجة الى فهم جديد ووعى مستنير يتطلب مناقشة هذه التعقيدات بتجرد بعيدا عن اى تعصب عرقى او دينى او سياسى وذلك للخروج من واقع الأزمة السودانية المعاشة
فرغم الظروف التاريخية المأساوية التى مر بها الشعب السودانى الغنى بثرواته وتنوعه الإجتماعى و الإقتصادى و السياسى والبيئى والدينى واللغوى .....الخ، ورغم الإفقار المتعمد له نتيجة اخطاء ساسته، إلا أن هذا الشعب ظل بإستمرار متمسكا بآماله المستمرة نحو تحسن حالة وهو لا يدرى ان ساسة السودان بضيق افقهم والجرى وراء مصالحهم الانانية قد ضحوا بهذا الشعب وتطلعاته ونالوا  جائزة الاخفاقات والتبرير اللامنطقى، حيث نلاحظ أن الغالب المسيطر على العقلية السودانية السياسية هو المصلحة الانانية الضيقة بمعنى القصور الذاتى فى التفكير وحب الذات مما ساعد فى تعميق الازمة السودانية.                                                      
كما ان إصرار ساسة السودان على الإخفاقات وتكرارها ما هو إلا إستغلال لبساطة الشعب السودانى المؤمن بقدره بجانب تكوينه الإجتماعى وتفشى نسبة الجهل والامية وتركيبته النفسية وتعدد بئآته الجغرافية، وهو بالطبع إستغلال سئ من الصفوات المركزية التى ما فتأت تعيد تكرار نفس الأزمة.                                                                                       
العنوان المطروح امامنا هو عبارة عن محاولة اولية لتحليل تعقيدات الأزمة السودانية من خلال قراءة الواقع السودانى كمدخل لحوارات عميقة تتناول تداخل العوامل المختلفة لإستمرار العقلية السلطوية فى المركز وتبادلها للأدوار تحت أشكال ومسميات مختلفة لا تنجو حتى الديمقراطية بمفهومها الليبرالى من تعقيداتها هذه، و من ثم طرح مفهوم تثقيف الثقافات كمحاولة بحثية نأمل أن تكون مدخلا  لتفادى تلك المشكلات مستقبلا خاصة فى دولة بحجم السودان مساحة وتنوعا ثقافيا
التعقيدات الميتافزيقية:
ونقصد بها التعقيدات والتى تأتى من وراء الطبيعة والخاصة بإيمان الناس بقدرهم خيره وشره كمحاولات تبريرية يسوقها السياسيون الفاشلون مستفيديين من الوازع الدينى المغروس فى المعاد انتاجهم بفهم خاطئ عبر وسائل الإعلام والمنهج و الإقتصاد والبيوتات الطائفية والتنظيمات السياسية الدينية، وهو ما يؤكد أن ساسة السودان قد جمدوا وعطلوا الفكر الحر للشعب السودانى  بدلا من الاستفادة منه علميا وتحويله الى واقع عملى يكون جوهره النجاح. ولإقناع الناس وتبرير إيهامهم فإن ساسة السودان يستخدمون آيآت وأحاديث وأشعار نزلت او كتبت فى مواقع وبمسببات تختلف تماما عن الوضع الراهن. وبالتالى فإن القناعات التى يصوغها الشعب السودانى فى أن قدره وإبتلاءاته هى التى جعلته يعيش حالتة المزرية، ما هى إلا صناعة وبضاعة سياسية رخيصة يسوق لها الساسة بصورة علمية مدروسة لإبقاء عامة الناس فى وضعهم القدرى الميتافيزيقى والتسلق على اكتافهم للأستمرار فى السيطرة عليهم تاريخيا، ودائما ما يتفنن الساسة فى خلق الخزعبلات بإسم الدين والأقدرار والكرامات فى إقناع بسطاء الشعب السودانى بإدعاء أنهم خلفاء الله فى الأرض بتبريرات متافيزيقية كنزع القرود للألغام ومحاربة السحب والملائكة معهم وأن الموسيقى الصاخبة التى يتغنى بها الصبية هى موشرا لتسيير العريس الى الجنة ....الخ، كل هذه الأشياء يهندسها مهندسو التطبيل والتدجيل بعناية  فائقة لأبطال التفكير العقلانى وإستلاب العقول لبقاء إستمراريتهم، وكل من يخرج عن هذه القبضة فهو كافر وملحد ونصرانى ووثنى يجب إهدار دمه. بمعنى أن الأنظمة الدينية السياسية والطائفية تستخدم الترغيب التضليلى أو الترهيب المتافيزيقى والمادى لتضمن قيادة بسطاء الشعب وعزل وإستبعاد ومحو عقلائه، وهو ما يؤكد العقل الباطن لساسة السودان الذين يستخدمون الدين وغيره من العوامل المتافيزيقية والاثنية للسيطرة، وما يؤكد ذلك أن سلوك معظم هذه النخب السياسية عمليا لا يشبه حتى إعتقادهم فى وجود إله، فتجدهم منافقون، كذابون، نهابون، قاتلون....الخ ولكنهم يملكون قدرات الابداع فى إيهام الناس وتضليلهم وتبرير فشلهم بأشياء يربطونها بالقدر تارة وبالإبتلاءات الربانية تارة وبالعمالة وغيرها تارة أخرى. لذلك خلى روح الشعب السودانى من المحاسبة والمساءلة وظل بإستمرار يندب حظة ويرمى اللوم على القدر، ولا يعلم أن حظه أخفق فيه ساستة وجهاز الدولة، حيث ظل الأعتقاد بسوء الحظ وسوء الطالع وعدم التطور والفقر والمرض والجوع والجهل مربوط بعوامل قدرية، وهو فى واقع الأمر ليس صحيح لان الدول التى تقدمت يفوقها السودان  فى تاريخة وموارده وتنوعه ولكن لماذا تقدمت؟ بكل بساطة لأنها سعت الى لبناء إنسانها بمعنى التنمية البشرية بجانب مواردها وثرواتها اى التنمية الاقتصادية بمفهومها الكبير وتحديد هويتها وفقا لتنوعها وصياغة ذلك فى دستور وقوانيين إرتضاها شعبها وحققت عدالة على أساس المواطنة ووظفت مواردها التوظيف الأمثل بدل نهبها، ولم تعطى مجالا للمتافيزيقيا إلا فى الأمور المتعلقة بحرية العبادة الشخصية المتنوعة وفى  داخل أماكنها فقط وليس فى مؤسسات الدولة والإنتاج والعلم والإقتصاد ...الخ، بمعنى فصل الدين عن السياسة والدولة. لذلك فإن هذه الحلقة المغلقة للتضليل لم ينجو منها حتى حملة الشهادات العليا سواء كان بعدم وعى أو بوعى مصلحى مما عقد التطور الطبيعى للإستفادة من العقل الإنسانى لبناء دولة بالمعايير العلمية الصحيحة.
التعقيدات السيكوسوسيولوجية:
ان السودان بلد متعدد المجموعات الأثنية واللغوية والدينية، ولكن بدلا من الاستفادة من هذا التنوع لخلق شعب ذو هوية متميزة عن غيره، إلا أن إصرار النخب الأقلية التى حكمت السودان وتتطلع لحكمه آثرت على الإبقاء على نظرية التعالى الثقافى المتوهم وتذويب الآخرين داخل المنظومة الإسلاموعربية المسيسة مستغلة جهل الناس وقدريتهم لابقاءهم فى أسفل درجات السلم الإجتماعى لضمان تبعيتهم الأبدية، وهى محاولات نجحت الى حد كبير من خلال ممارسات الخداع السياسى ولم تواجه إلا فى العشرين سنة الأخيرة من قبل عامة الشعب السودانى المخموم والذى عبر عن سخطة بالثورة فى مواقع مختلفة من السودان، شرقه وغربه وجنوبه وشماله ووسطه
ولكى يضمن اصحاب ذاك الخطاب السياسى الإسلاموعروبى إستمرار اجندتهم الخفية فإنهم يتصيدون المتميزيين من أبناء الريف والهامش السودانى عبر وسائل مختلفة منها المال والوظيفة والمصاهرة وغيرها للإستفادة من تميزهم وإعادة إنتاجهم بما يخدم منظموتهم. لذلك فإن معظم أبناء الأطراف أو الهوامش المتميزيين كانوا أدوات إستخدمت ضد التطور الطبيعى لاهلهم وأعيد إنتاجهم عبر أنظمة سياسية دينية أو طائفية، ولقد استفادوا كأشخاص بفهم أنانى ضيق، بل لعبوا أدوارا سلبية وبتبريرات غير منطقية  لجر أهلهم لتلك التنظيمات بإقناعات غير واقعية لم يجنى منها الريف والهامش السودانى بلا إستثناء إلا سوءا فى احواله المعيشية والتعليمية والتنموية، وكلما أحس المركز بتراخى أو تراجع المعاد إنتاجهم من الريف فإنه يحركهم بأدواته لزيارات ميدانية ماكوكية لأهلهم وخاصة فى زمن الأزمات والحروب والإنتخابات، لذلك فإن دائرة التطور التلقائى والطبيعى مفقودة لأن مفاتيح المجتمعات يعاد إنتاجهم بطريقة ذكية ويستغل فيها ثقة أبناء المنطقة المعينة فى إبنهم المعاد إنتاجه لإقناع الجماهير بأن مصلحتهم مرتبطة بذاك الخطاب السياسى، بل يذهبون الى أكثر من ذلك فى التشكيك و القتل السياسى والاعلامى للمقتدرين على التغيير من أبناء الهامش،  مما أثر فى كثير من مثقفى الهامش:
فتجد بعضهم هاربين أو خائفين أو منزويين او متطرفيين بفهم غير منطقى، وهو ما يساعد على إعادة إنتاجهم
فالرسالة والخطاب السياسى الذى يستخدمه اصحاب السلطة لاحتواء تطور الاطراف يختلف بين كل مجموعة و إثنية ودين،  فخطاب الشمال يختلف عن خطاب الجنوب ويختلف خطاب الشرق عن الغرب وعن الوسط فكل يفصل له مقاسا يتناسب مع الخم السياسى الذى يترآئ فى مظهره منطقيا ولكنه فى واقعه خبيثا، وحتى داخل المجموعة الواحدة او الاتجاه الجغرافى الواحد يستخدم المركز عدد من خطابات التباعد بينهم، وهو نوع من التذاكى السياسى المكشوف
كما ان النخب المركزية قد كسرت حاجز الإختلافات السياسية بينها حتى ولو كانت تنتمى الى تنظيمات سياسية مختلفة عبر المصاهرة والقرابة والمصلحة الإقتصادية وفاقدى الهوية والمعاد إنتاجهم، وهو ما يظهر جليا داخل الأحزاب الطائفية والدينية والعقائدية الشمالية حيث نلاحظ الكثير من التقاطعات تؤكد ان منهاج التفكير الاسلاموعروبى المسيس لا خلاف جوهرى بداخلة، وبالتالى فإن درائرة اللعبة السياسية مغلقة ومتداولة على المستوى البنائى التنظيمى وعلى مستوى أجهزة الدولة وصناعة القرار سواء كان ذلك عبر الانظمة الشمولية الدكتاتورية او الديمقراطيات الهشة، لذلك يفتقد او يتم تناسى عامل المحاسبة حتى فى حالات القتل والابادة لأنها جميعا تتم فى الأطراف وبأبناء الهامش نفسهم، بمعنى السناريو فى مسرح العمل السياسى هو مسألة تسليم وتسلم للسلطة ولعل المتابع لمسيرة السلطة منذ ما يسمى بإستقلال السودان الذى جوهره إستغلال السودان يدرك  كيف تم تسلم السلطة فى 1956م وكيف سيطرت هذه القلة على على نسبة 98.4% من مجموع 800 وظيفة قيادية على مستوى المركز وكيف حدث إنقلاب  1958 وكيف ثارت الجماهير الثائرة فى ثورة 1964 وكيف سرقت من خلال نظام ديمقراطى هش فى 1965 وكيف سلمت لإنقلاب عسكرى فى مايو 1969 وثورة 1985 التى حركت الجماهير فيها بفهم خم سياسى أعطى شرعية لنظام ديمقراطى متهالك سلم السلطة لنظام دكتاتورى عسكرى خلخل ما تبقى من أمل للأطراف بفهم إنتقامى وصل حد الابادة العرقية فى جبال النوبة وجنوب السودان وشرقه وغربه و توجه للمهمشين فى الشمال، وتمكن من إعطاء نفسه الشرعية عبر إتفاقيات وقعها بفهم نظرى لا بأس به ويطبق فيها بفهم لا يشبه بعده النظرى، وعمل على تزوير الإنتخابات لفرض شرعية ديمقراطية زائفة أو تدمير الاتفاقيات إذا أحس بفشله ديمقراطيا فلجأ الى الحرب كما فعل الان بجنوب كردفان و النيل الازرق

ورغم الدهاء أو التذاكى السياسى للنخب المركزية فى تقاطعات علاقاتها داخليا، إلا أن إستمراريتها مربوطة عسكريا وإقتصاديا بالهامش عبر الذين يعاد إنتاجهم  ليحركون اهلهم  كحطب للنار فى الأزمات التى تخلق فى الأطراف لزعزة أمنه وإستقراره وإيقاف تنميته وبالتالى تطوره الطبيعى.  لذلك فإن الثورات التى قادها ثوريين من الأطراف ضد المركز  فى الاطراف جند لهم نفس أبناء جلدتهم ليقاتلونهم، وبالتالى فإن القتلى من الطرفين هو تدمير لطرف واحد عمليا وخلق نوع من التباعد النفسى والالتقاء مما يسهل من عملية الاستقطاب بمسميات دينية أو إثنية أو مصلحية، ويستفاد من الفئة المهمشة المنبوذه طرفيا فى تحقيق منعة عسكرية و أمنية وتدوير العملية الاقتصادية فى مزارع ومصانع ومؤسسات الصفوات الحاكمة
وبالتالى فإن سياسة ضرب العبد بالعبد والمهمش بالمهمش وغيرها من مسميات العقل الباطن للنخب المركزية السياسية الفاشلة ما هو إلا محاولات متكررة لتغييب الأطراف عن حقوقها وتفكيكها وتخلفها وإبعادها عن بعضها البعض لتكون أداة طائعة تخدم بالوكالة الأجندة الضيقة للنخب السياسية الزائفة فى المركز
فالتعقيدات المتافيزيقية والسيكوسيوسولوجية فى طابعها الجماعى وممارساتها اليومية الشفهية والباطنية خلقت نماذج نفسية شائهة للنخب السياسية المركزية وأدواتها المعاد إنتاجها طرفيا
فبالنسبة للنخب المركزية السياسية الشمالية فإن قواعد اللعبة الثقافية وتمسكها بالعروبة والإسلام كخطاب سياسى هو ذو بعد نفسى أكثر منه واقعى، فكثير من البحوث التاريخية والانثروبولوجية أكدت فيما لا يدع مجالا للشك الإنتماء الافريقى الأصيل لمعظم مدعى العروبة فى الشمال، و رغم التفوق الفكرى للانسان السودانى مقارنة بالتخلف الكبير فى كثير من الدول العربية، إلا اأن الجانب النفسى فى شكل التميز العرقى إرتبط بالعروبة كدرجة أسمى توهما مقارنة بالإفريقية أو السوداناوية، ورغم رفض كثير من الدول العربية لعروبة السودان وهو ما أحرج الاستاذ/ محمد أحمد المحجوب رغم فردوسه المفقود   وما ذكره أحد المستشارين السعودىين  فى التشكيك فى عروبة السودان والصومال وجيبوتى، ورغم ما يعانيه عروبى السودان من إحراج فى الدول العربية حيث يوصفون بالعبيد،  ورغم تقطيعاتهم الأفريقية من أنف  وشعر ولون ...الخ، فإن إصرارهم على عروبيتهم ما هى إلا محاولات للإسقاط النفسى لانهم لا يتحدثون الا العامية السودانية ولا يعترف بها العرب لا حديثا ولا تذوقا فنيا أو   غيره بل يطلق عليها لغة العبيد فى الجزيرة العربية كما ورد فى بعض الأبحاث، ورغم ذلك فإن تقرب هؤلاء للعروبة عبر الاسلام لهو تقربا أيديولوجيا أكثر منه دينيا.                                                                                     
و رغم ذلك فإن الانتماء الاثنى او الدينى او الايديولوجى حق مشروع للافراد او الجماعات ان اعترف به الاخرين او لم يعترفوا ولكن ينبغى على يتنقص من انتماءات الاخرين وحرياتهم وهو ما يصب فى جوهر الاستفادة من التنوع الثقافى لاسراء وطن كالسودان
وهذا الجانب النفسى المعقد لأجل التمييز جعل الكثيريين يخفون أمهاتهم و آبآءهم وأجدادهم وجداتهم فى كثير من أحياء أمدرمان والخرطوم إلى أن يتوفوا، وجعل الكثيرين من الذين تم إعادة إنتاجهم وإبتعدوا عن اهلهم يغيرون أسماءهم وينكرون أصولهم وأحيانا يغيرون ألوانهم ويتزوجون من  المركز او الأجانب خوفا من وضعهم فى دونية سلم التراتبية الإجتماعية الموضوع بصورة نفسية زائفة
هذه التعقيدات النفسية خلقت تراتبية إجتماعية مشوهة وتركيبة ثقافية فاقدة للهوية، وبالتالى أصبح طابع الإنتماء لتنظيمات النخب السلطوية المركزية ذو إرتباط نفسانى أكثر من هو واقعى، وبالتالى إنصب التفكير فى التطور الذاتى للنخب أكثر منه للشعب لتضمن سيطرة إقتصادية وإستمرارية فى السلطة  حتى ولو كان بصورة تداولية وهو ما حدث فى السودان
أما كمبارس العملية السياسية المركزية من الهامش فهم نخب فقدوا الثقة فى أنفسهم من أجل التغيير بأبناء الهامش الذين هم الأكثر عددا، وبالتالى إتخذوا أقرب الطرق النفسية لتؤكد قربها من المجموعة الأولى وتميزها عن أبناء الهامش أنفسهم، رغما أن إعادة الأنتاج لا تخرجهم عن دائرة النظرة الدونية حتى لو تم تزويجهم أو مصاهرتهم والدليل على ذلك ما نراه من وضعيتهم على مستوى التدرج فى المنظومة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية حتى لو كانوا متفوقين فكريا وعلميا وعمليا، وهم يدرون ذلك، وما فرفرات أبناء دارفور وكردفان داخل المنظومات الطائفية والدينية والعقائدية السياسية الشمالية للوصول الى رئاسة تلك التنظيمات والحصول على مواقع مؤثرة وصانعة للقرار فعليا لا شكليا ما هو إلا محاولة فاشلة تنقصها الجرأة السياسية الثورية فى قيادة تنظيمات بنفسها أو الانضمام لتنظيمات الهامش التى أضعفت بسببهم، فهم فاقدى الثقة فى ذواتهم على الرغم من أنهم خلقوا قاعدة جماهيرية هشة لتلك التنظيمات، ومع أنها تمت عبر طرق خداعية انانية فإنها تكسرت نتيجة للوعى الشعبى التلقائى وأصبح هذا الكمبارس  المسخر كادوات لخدمة النخب المركزية يواجه من قبل الشعب، ورغم تخلخل وضعيتهم النفسية إلا أنه يساورهم الخوف الكبير للتخلى عن تلك النخب المركزية خوفا من ضياع وضعيتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الشائهة.  فإنه بجانب ما ذكر نجد أن النخب المركزية تستخدم معهم أساليب الترغيب والترهيب لأنهم يمتلكون جزء من اسرار النخب المركزية بما فيها المخططات ضد أهلهم بينما تمتلك تنظيماتهم الاسرار الكلية عنهم لاستخدامها فى أغتيال شخصياتهم وجعلهم كبش فداء بسناريوهات حتى أمام أهلهم، وبالتالى فإنهم يستسلمون للظلم والمرارة والجلوس  فى أدنى درجات السلم الاجتماعى والسياسى وتأتى البيوتات الطائفية والأحزاب الدينية بأبنائها وبناتها لتدربهم لخلافتهم ويظل هؤلاء المعاد إنتاجهم يتظاهرون بمعارضة هذه الوضعية شكليا وينعتون هؤلاء فى جلساتهم الخاصة بأولاد البحر والجلابة وينتقدونهم من خلفهم ولكن تنقصهم الجرأة للإفصاح عن ذلك فى إجتماعاتهم العامة أو مبارحة تلك التنظيمات، مما خلق فى دواخلهم شخصيات متضاربة وصراعات فى دواخلهم تنتهى بالأمراض  والأزمات القلبية، ودائما ما يقنعون أنفسهم بمبررات واهية يربطونها بتاريخ آباءهم واجدادهم داخل تلك التنظيمات وهى محاولات تطمينية ذاتية اكثر منها واقعية.                                                                              
التعقيدات الجيوبولوتيكية:                            
أثبتت الدراسات العلمية الجغرافية ان الانسان يتأثر ويؤثر فى البيئة الطبيعية والجغرافية التى ينشأ فيها، وبالتالى فإن أحجام الناس وألوانهم و أشكالهم وسلوكهم وعلاقاتهم الاجتماعية وأنماط الإقتصاد وطرق التفكير تتحكم فيها عوامل متداخلة من بينها البيئة والجغرافية.
و على سبيل المثال  فأن أصحاب الخلفية البيئية الصحراوية يمتازون بالدهاء بنوعيه الأبيض والأسود لأن عامل الطبيعة يحكم عليهم هذا التعامل لكى يقاموا ظروف الحياة القاسية، وهذا النوع من التفكير والسلوك ينتقل مع الشخص إلى أى بيئة أخرى مغايرة إذا لم يعى ذلك وينعكس فى ممارسة حياته اليومية، وكذلك فان سكان المناطق الإستوائية او المخضره والجبلية لهم ما يميزهم من سلوك اهم خصائصة البساطة والصدق والشجاعة والتعاون ولكنهم يوصفون احيانا بالخمول نسبة لما تجود به البيئة من معطيات الحياة، وهنالك مميزات لبيئات نيلية ومدارية ومختلطة وشبه صحراوية تلعب دورا كبير فى تشكيل سلوك الناس وطريقة تعاملهم وتفكيرهم وبناء شخصياتهم
ورغم ما ذكر فإن هذا التنوع البييئى يمكن ان يستقل بصورة إيجابية لتفادى جوانبه السلبية. فإقتصاديا فإن التنوع البيئ خلق تنوعا فى المنتوجات وبالتالى فإن التبادل او التسويق الجيد جعل القطر او القارة أو العالم يستفيد إقتصاديا من المنتوجات المتنوعة بيئيا، وبالتالى قلت ندرة الموارد الاقتصادية عن طريق التسويق والاستيراد والتصدير وهو ما حقق إكتفاءات ذاتية على مستوى الأقطار فى كثير من المنتوجات وسوقا عالمية تتبادل فيها الدول منتوجاتها  مما ساهم فى استمرار الحياة بصورة أفضل وخلق علاقات تجارية نزيهة بين الدول
هذا التنوع يمكن ان يستخدم ايضا فى الجانب الفنى والرياضى والاجتماعى والثقافى والدينى واللغوى ...الخ إذا كان هنالك قادة سياسيون حريصون على ذلك، ويتم ذلك بسهولة عبر المنهج والاقتصاد والاعلام والدستور والقوانين التى تنظم ذلك. ولكن هذا لم يحدث فى السودان مما عقد التطور الطبيعى وجعل بلد كالسودان غنى فى تنوعه و فقير فى  تغيير نقلات حقيقية فى مجتمعة إقتصاديا وإجتماعيا وسياسيا وفى هويته كذلك. حيث كان الفهم السطحى للذين إستغلوا جهاز الدولة فى تمرير أجندتهم الخفية والخاصة هو بمثابة إعاقة حقيقية للإستفادة من التنوع فى إثراء العمل السياسى والإقتصادى والإجتماعى فى السودان
هذا التكبيل المقصود لمقدرات الوطن بما فيها القدرات الفكرية وإعادة إنتاج الناس والأزمة عبر جهاز الدولة قاد الكثيرين من أبناء الهامش تاريخيا فى التفكير فى تنظيمات من الاطراف لإحداث تغيرات وبرزت تنظيمات ذات تاثير نسبى خاصة فى الستينيات كمحاولة إيجابية لكسر ذاك الطوق رغم ما واجهته من صعاب لشلها خاصة من طرف القوى المسيطرة على جهاز الدولة عبر المنهج والاعلام والاقتصاد والنعوت العنصرية والجهوية كالطابور الخامس والمارقين والمتمردين والخونة كمحاولات تخويفية مستغلة أبناء الهامش المعاد إنتاجهم مركزيا للوقوف ضد هؤلاء تفاديا لصياغة دولة المواطنة التى يحكمها الدستور والقوانيين، لذلك فإن أى محاولة يقوم بها أبناء الهامش للتغيير توصف بالإنقلابات العنصرية وما يقوم به صفوات المركز أو مؤسساتة توصف بالثورات. وهو ما قاد الثوريين من أبناء الهامش للثورة وأحداث التغيير من الاطراف وخلق دولة بمفهومها الصحيح يتساوى فيها الجميع فى الحقوق والواجبات
وبالتالى فإن ثورات الاطراف أو الهامش لم تكن ثورات تحررية خاصة بالهوامش ومطالبها فقط كما يروج لذلك المركزيين، ولكنها تحمل أطروحات فكرية عميقة لحل الأزمة السودانية عبر قراءة وتحليل عميق لجذور الأزمة السودانية تاريخيا و إجتماعيا وثقافيا وإقتصاديا وسياسيا وعبر فكر ونظرية لسودان جديد متنوع، لأن الشكل الشائه من خلال السرد والطرح المذكور سابقا سيعقد الأزمة ويذيد من درجات الغبن الأجتماعى والسياسى ويقود الى بلد يعيش الناس فيه جغرافيا ولكن يفتقد بينهم اوجه التلاقى
رغم صلاحية  الافكار والرؤية القادمة من الأطراف لبلد متنوع كالسودان إلا أن تداخل تعقيدات العوامل المتافيزيقية والنفسية والاجتماعية والبيئية والسياسية التى تطرقنا لها ، بجانب المحاولات المستمرة لعصبة جهاز الدولة فى الاستمرار ومع سيطرتها للأدوات الاقتصادية والأعلامية والأمنية و استاتيكية عقلية المعاد إنتاجهم مركزيا، فإنها ستظل تتمسك باطروحاتها الأنانية  مستقلة فى ذلك الفهم السطحى غير المتطور او المتعمد إبقاءه على هذه الحالة بإستخدام الميتافيزقيا للتشوية والتشويش الدينى والسوسيولوجيا والثقافة للتعالى والتميز الثقافى والسيكولوجيا للإشباع النفسى المريض والدهاء البيئى للتشويه السياسى والفقر للتبعية الإقتصادية والجهل والأمية للتضليل الإعلامى، وهى محاولات خبيثة ولكنها مدروسة عبر أوراق علمية يضعها متخصصون بعناية فى كافة المجالات المذكورة
فالتشويه الميتافيزيقى يلغى العقل اى ما يسمى بالغسل العقلى الأ فى أطار الاسلام إسما وبفهم سياسى لا دينى وبالتالى فهو إلغاء للبشر وتنوعهم والخلق الالهى نفسه الذى خلق وإعترف بالتنوع  وعلاقات البشر والمعاملة وليس بالإلغاء والإقصاء، وبالتالى نجد استخداما لآيات  وأحاديثا فى غير موضعها للخم السياسى باسم الدين. ومن ثم فان التنوع والتسامح الدينى هو مرفوض عندهم واقعيا لأنه يتعارض مع  جل  قضاياهم ومصالحهم السياسية الضيقة
أما الجانب الإجتماعى والثقافى والنفسى من خلال تلك التراتبية المتوهمة لصفوات المركز هى محولات لتضرب على نفسها طوقا من التميز والتعالى  عبر دوائر واوصاف تهميشية نسبية تبدأ ببنى جلدتهم وتطرف بشدة كلما إبتعدت عن دوائر المركز، حيث نجد أوصافا رغم واقعية بعضها إلا أن طبيعة مكان وزمان وموقف التعبير بها يؤكد دلالات غير معناها كالغرابى والكردافى وأدروب والعربى والحلبى والبقارى والجنوبى والنوباوى والطقش والخادم والعب و أن البعض قد خلقوا بعد الذباب (الضبان) وغيرها ما هى إلا مسميات لتثبيت دونية الآخرين وإنطلقت تاريخيا من المسيطريين على أجهزة الدولة، وتم تثبيت هذه الادعاءات عبر المنهج والتناقل الشفهى والمكتوب وتستخدم بعناية فى مستويات توحى للفئات المذكورة ان هذا هو قدرها فى درجات السلم الإجتماعى وهو ما يسمى بالقهر الثقافى والإجتماعى المكتسب، وبالتالى فإن الصعود الى درجة أخرى مرتبط بالتقرب من جهاز الدولة وإظهار الطاعة له كأداة تستخدم تحت أغراض متنوعة وقد تم ذلك فى حالات كثيرة، ولكن الواقع يؤكد ان برمجة درجات السلم الإجتماعى والتدرج السياسى لها حدودها وسقوفها لأبناء الأطراف مهما كان ولاءهم وإنتماءهم بل وإقتتالهم لأهلهم وإنهم فى خاتمة المطاف سيكنون ضحايا الأنظمة المركزية وخاصة  أمام المجتمع الدولى وهو ما نشاهده هذه الايام رغم الإصرار غير المنطقى.                                                                              
مفهوم إعادة تثقيف الثقافات الذى تمت الاشارة إليه فى هذا البحث هو مفهوم مغاير الى حد ما لمفهوم التبادل الثقافى المعروف الذى يتم وفق شروط محددة، بل هو مرحلة سابقة للحوار الثقافى نفسه، ومختلف بدرجة عن الصراع الثقافى، ومن ثم فإن المفهوم من خلال هذه الدراسة يهدف الى إضافة علمية جديدة  وتقديم حلول من منظور ثقافى لتعقيدات المشكلة السودانية و ازمة الهوية المشتركة.

ويعنى مفهوم إعادة تثقيف الثقافات فى تفسيره البسيط تطوير معرفة الثقافات بالثقافات الاخرى، بمعنى تطوير  الوعى بتنوع و خصوصية وعمومية الثقافات وعوامل تشكلها وتإثيرها فى توجيه سلوك و أفكار الافراد والمجتمعات وكنمط معيشى ايضا، مع ضرورة الإعتراف بواقعية هذا التنوع والتعامل معه، ومن ثم محاولة قياس مقدرة تلك الثقافات المتنوعة او المتعددة فى التحاور و الالتقاء والتبادل بعيدا عن الانانية والتعالى والدونية، لخلق جو تصالحى يعترف بالمعرفة الثقافية المتنوعة، و إعطائها فرصة للتعايش السلمى، مما يساهم فى وحدة وطنية حقيقية وهوية مشتركة تحقق المصلحة العامة للمجتمع. والمفهوم نفسه لا يركز فقط على الجوانب الإثنية أو اللغوية او الدينية، بل يتعداها ليشمل الحياة بزاواياها المختلفة إجتماعيا، وإقتصاديا وسياسيا ..الخ.                     

فكثيرا ما يقع العديد من دارسى وكتاب حوار الثقافات فى أخطاء معالجة الثقافات المتنوعة او المتصارعة، لانهم قلما يرجعون الى تشخيص دقيق لجذور الأزمة الثقافية، ومن ثم فإن إنتقالهم الى مرحلة الحوار الثقافى مركزين على الصراع الثقافى دون مراعاة  خصوصية وعمومية الثقافة وظروف واقعها الإجتماعى والإقتصادى والسياسى .....الخ، قاد العديد من الكتاب والدارسين الى إصدار أحكام قيمية مسبقة لا تتماشى مع تفسير الواقع المعاش، مما جعل من الحوار والحلول محاولات تهدئة آنية للنزاعات وسرعان ما تعود بصورة أكثر تعقيدا.
و الملاحظ أن كثيرا من النتائج التى يصل اليها بعض الباحثين وخاصة السياسيين تشير الى إعتقاد بعضهم انه يمكن أن تتغير قناعة المجتمع تجاه قيمه وثقافته بصورة مفاجئة أو سريعة أو عبر إستخدام وسائل ترغيبية او ترهيبية عبر السلطة، متناسين أنها تكونت نتيجة تراكمات تاريخية أخذت زمنا وستبقى إذا لم تطرأ عليها تغيرات أيجابية يحسها المجتمع نفسه ويقتنع بها.

وما قاد الى هذه المحاولة البحثية هو التعقيدات والواقع المرير الذى تعيشه كثيرا من البلدان المتنوعة ثقافيا وخاصة السودان من صراعات وحروب تتذايد حدتها يوم بعد يوم، ساهمت السلطة المركزية و مؤسساتها بدرجة كبيرة فى إخفاق دور التنوع الثقافى و أهميته فى لعب دور هام وكبير فى إثراء الوطن إجتماعيا و إقتصاديا وسياسيا مما يحافظ على وحدته و أمنه
لذلك فإن سطحية المعرفة بمكونات الوطن كان حجر عثرة فى الاستفادة من تنوعه، ومن ثم فإن إحادية او ثنائية أى فهم فى حل المشكلة السودانية سيكون عاملا مؤججا للصراعات ودافعا للحروب، مما يساهم فى استمرار الإزمة.                                                                  
فبالرغم من اهمية كل العوامل مجتمعة فى حل المشكلة السودانية، إلا أن تجاهل المكون الثقافى المتنوع فى دولة بمساحة السودان ذاد من تعقيد المشكلة وسيقابل برفض مستمر قد يطيل مرحلة الاقتتال والحروبات
وما تمت الاشارة اليه هو جزء من واقع الأزمة السودانية المعاش الذى تشكل منذ إستقلال السودان وقبله، و إنعكس على كثير من الممارسات الإجتماعية والإقتصادية و إستمر إلى يومنا هذا
وعلى الرغم من الدور الكبير الذى يلعبه العامل الثقافى بجانب عوامل اخرى فى تجنب وفض النزاعات و الوقاية منها، إلا أن الوقائع الآنية للنزاعات كواحد من جذور الأزمة فى السودان قد تنبئ بتفجر الوضع بصورة أكثر تطرفا لاحقا إذا لم تتم معالجته عاجلا وعقلانية لخلق تعايش يستوعب التنوع فى السودان بكل مستوياته، ويتيح مجالا تثقيفيا للثقافات ومن ثم حوارات هادفة مبنية على أسس معرفية بالتنوع وتبادل ثقافى طوعى يقود الى هوية سودانية مشتركة.

فالواقع الثقافى غير المتوازن الذى يظهر على مستواه الإجتماعى الشعبى بصورة ينظر إليها المجتمع بدرجة قبول نسبى، هو واقع غير مؤسس ولن يقود الى إستقرار دائم فى ظل الممارسات الرسمية المنعكسة على حياة الناس.

هذه الدراسة والبحث هى محاولة تهدف الى مخاطبة تلك القضايا بالتركيز على إعادة تثقيف الثقافات كمدخل علمى بإعتبار أن الثقافة تلعب أدوارا متعاظمة فى تشكيل أوجه الحياة المختلفة، كا ان تثقيف الثقافات سيذيد من درجات الوعى بالتنوع و تحويله من عامل سلبى إلى إيجابى يساهم فى إستقرار الوطن بصفة عامة.
و لقد انطلقت الدراسة من فرضيات علمية قابلة للقياس النسبى و تركزت حول الاتى:

1- أثرت التنشئة الاجتماعية الرسمية و غير الرسمية فى السودان فى تأخر الوعى الشعبى باهمية التنوع الثقافى.
2- الإنحياز الاثنى و الدينى الضيق و التفكير الأيدولوجى الأحادى فى بلد متنوع كالسودان، جعل فهم المصالح السياسية بأبعاد ضيقة، مما كان سببا لعدم الاستفادة من التنوع الثقافى فى بناء دولة ذات هوية مشتركة.
3- إنعدام دستور دائم و عادل ذاد إلى مذيد من الصراعات ذات الأبعاد المختلفة سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا.
4- النظرة الضيقة لمعالجة جذور النزاعات أو الصراعات ذادت من تعقيد المشكلة.
5- إعادة تثقيف الثقافات بفهم يحافظ على خصوصية الثقافات و الإعتراف بتنوعها، سيقود إلى إستقرار دائم و هوية مشتركة تعتمد على المواطنة، و سيقلل تدريجيا من التأثيرات الإثنية فى تسيير شئون الدولة إجتماعيا و ثقافيا و سياسيا و إقتصاديا. (1) 
لذلك كان تركيزنا فى القضايا الثقافية باعتبارها سابقة للسياسة، كما ان السياسية لا يمكن فصلها عن الاطر الثقافية التى تراعى التنوع و التعدد و التاريخ و البيئة و الانسان كعوامل اساسية، و انتقال الثقافة عبر الحمل و الاتصال و الاشعاع لا يعتمد على مبدأ قوة السلطة، بقدر ما يعتمد على الانتخاب الطبيعى فى ظل اتاحة فرص متكافئة للثقافات للتجاور و التحاور و التبادل و تثقيف بعضها ببعض دون تحيزيات، و هو ما يجنب حدوث صراعات مستقبلية، و يقلل من مكانيزمات جدلية المركز و الهامش للحفاظ على الترابيات الاجتماعية المزيفة و التى  يركز فيها المركز على  الاتى:
1- أعادة الانتاج: و هو عملية اعادة انتاج الناس داخل البنية الهيكلية المؤسسة على التراتبية الاجتماعية للحفاظ على العقلية المركزية، و استمرارها فى وجه التناقضات التى يعززها الصراع التلقائى بين المركز و الهامش، واستيعاب هذه التناقضات من خلال تحويل محددات الثقافة- الثوابت- الى اسلحة ايديولوجية لتبرير التراتبية الاجتماعية، و فى حالة ظهور افراد متفوقين بين افراد الهامش او العامة يتم استيعابهم فى المركز او هامشه، ليتحولوا الى جزء من المركز و يبقى وضع العامة فى حاله.
2- الترميز التضليلى: و هو فى الواقع عملية تمثيلية يستعملها المركز عند استشعاره ببوادر التمردات و التغيرات لاضفاء شرعية و استمرارية الاوضاع، و ذلك من خلال شكلين:-
أ‌-    تمثيل العدل: كأن يقوم الحاكم مثلا بالانتصار لفرد من العامة فى قضية معينة، أو مشاركة العامة فى بعض امورهم مثل الطقوس الاجتماعية و الدينية كإظهار زائف بان درجات المساواة و العدل مكفولان، فى الوقت الذى تظل توجهات الواقع هى هى.
ب‌-    إدخال بعض مكونات ثقافة الهامش فى الخطاب الرسمى للمركز، لاعطاء انطباع بالمشاركة الثقافية و إخفاء حقيقة القهر الثقافى.
ج- الاستقطاب و القمع: فى حالة ظهور التمردات و محاولات الثورة التى تهدد الاوضاع برمتها، فإنه يتم الاستقطاب و القمع للافراد و الجماعات الثائرين و ذلك من خلال محاربتهم أيدلوجيا بتشويه حقيقتهم، أو ماديا من خلال استعمال الجيوش.
أما ميكانيزمات الهامش لمواجهة المركز فيمكن اختصارها فى الاتى:-
1- المقاومة السلبية: من خلال الاحساس بوطئة الواقع و الاحساس بالظلم يبدأ التمرد عليه، و السعى للحصول على اوضاع أفضل، من خلال وسائل سلبيه مثل الهروب و الهجرات، او محاربة الواقع من خلال الاساءة اليه عبر المأثورات الشعبية مثل الامثال و النكات او عبر الاداب و الفنون، او الاستنجاد بالالهه و الدعاء ضده و الامنيات و الاحلام بزواله.
2- إستشعار الذات و الوعى بالظلم و العمل على تغييره من خلال التنظيم و المطالبة للضغط على المركز لتغيير الاوضاع.
3- الحرب: عندما تشتد وطأة الواقع و تتعمق التناقضات تقوم بعض الجماعات بالعمل على الانقلاب على الاوضاع بالقوة و من ثم الحرب.
4- الثورة: عندما تنضج عوامل المقاومة تقوم الثورة، و هى التغيير الشامل الذى يهدم التراتبية الاجتماعية القديمة و معاييرها ليقيم على اثرها تراتبية جديدة على اسس و معايير جديدة. (2)                                    
لذلك فان التغيير السياسي و مبرراته التي لم تعد تحتمل الانتظار، مرتبط الى درجة كبيرة بالتغير الاجتماعى و الثقافى  حتى لا نعيد نفس تكرار الاخطاء السياسية التى مر بها السودان و لم تصب فى الاستقرار و التنمية  المطلوبين لاحداث سلام مستدام. الحديث بطبيعة الحال، يتركز حول التغيير السياسي المنشود، ويطمح إلى تغيير إيجابي متوقع. وقبل الدخول في عوامل التغيير وأسبابه واحتمالات حصوله، لابد من التوقف عند مجموعة من النقاط من بين أهمها:
1. أن التغيير الذي نتحدث عنه هو ذلك الذي يتناول التغييرات النوعية البنيوية، وليست تلك الشكلية  التي تقف عند السطح، وترفض الغوص عميقاً في صلب النظام الذي هو في أمس حاجة للتغيير الجذرى.
2. إن التغيير الذي نطمح هو ذلك الذي يتم عبر كل القوى الحية المؤمنة بالتغيير، سواء كانت عسكرية او سياسية او منظمات مجتمع مدنى.

تعريف الثورة:
اما التعريف أو الفهم المعاصر والاكثر حداثةً هو التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته " المسلحة" أو من خلال  تنظيمات لتحقيق طموحاته لتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه الطموحات ولتنفيذ برنامج من المنجزات الثورية غير الاعتيادية.والمفهوم الدارج أو الشعبي للثورة فهو الانتفاض ضد الحكم الظالم
الثورة ظاهرة مهمة جدآ في التاريخ السياسي. الثورة هي حركة سياسية في البلد حيث يحاول الشعب أو الحركات أو مجموعات أخرى فيه إخراج السلطة الحاكمة.
كيف تحدث الثورة:

في لحظات معينة تحت وطأة عوامل معينة وبعد نضوج ظروفها الذاتية، تشعر فيها المجتمعات الإنسانية بحاجتها الجماعية لإعادة النظر في طريقة حياتها، وفي علاقتها بكل ما يحيط بها. وفي ضرورة صياغة أشكال جديدة في التعامل معها، وهي ما يمكن اعتبارها باللحظة التاريخية، التي تؤسس لأحداث حاسمة من بعدها، تؤدي إلى بزوغ حقبة تاريخية جديدة. و يمكن تسميتها مرحلة ما بعد الحداثة، والتى تبشر بسقوط النظريات الكبرى، وتفتح الباب أمام الأنساق الفكرية المفتوحة، و تركز على الهوامش الاجتماعية والسياسية،. وهو تيار فلسفي أصبحت له آثار سياسية بالغة العمق." . ويعتبر أننا نعيش عصر العولمة، حيث تكشف الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عن مدى تأثرها وتأثيرها على بعضها ليس على المستوى المحلي أو الإقليمي، بل على المستوى الكوني الكلي، بمعنى آخر ظهور مرحلة جديدة تسمى «العولمة» التي هم سماتها هيمنة التكنولوجيا وثورة الاتصالات والمعلوماتية، وعولمة المشكلات المحلية والإنسانية، وهذه هي اللحظة التي يطلق عليها الزمن العالمي. وبالتالي فإن الحروب والأزمات السياسية والاقتصادية التي تعيشها شعوب الأرض في هذه المرحلة ناجمة عن أزمات العولمة، وأن الثورات التي تخوضها الشعوب المظلومة تأتي في زمن العولمة، وبالتالي لا بد لها أن تفكر بطريقة العولمة وأن تستخدم أدواتها، أي بجملة واحدة عليها أن تقتحم الزمن العالمي.
اسباب الثورات: هى نسبية و يمكن اختصار بعض اوجهها فى الاتى:
1- غياب الديمقراطية.، والذي كان يعني سيطرة النظام الواحد والرئيس المخلد الذي يورث الحكم لابنه من بعده، وانسداد الأفق السياسي الذي كان يحرم الجماهير من حقها في المشاركة السياسية، مع ممارسة القمع والتنكيل وتكميم الأفواه.
2-  تردي الأوضاع على نحو خطير في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الأمر الذي كان يعني انتشار البطالة والفقر والتخلف واتساع الهوة مع العالم الخارجي حضاريا وتقنيا.
3- فساد الأنظمة وغياب العدالة الاجتماعية، بشكل غير مسبوق وغير محتمل، حيث نشأ تحالف طبقي حاكم دأب على امتصاص دماء وعرق الشعوب واستغلالها، في الوقت الذي كان ينهب ويسرق ويراكم الثروات، بينما الناس تتضور جوعا وقهرا.
سمات الثورات الشعبية

1. الطابع السلمي:

2. المحتوى الديمقراطي: تجارب الثورات الحديثة خارج الاطر التنظيمية نموذجا جديدا لافتقاد معظم التنظيمات التقليدية للديمقراطية بداخلها و تفريطها فى فترات تاريخية للمحافظة عليها( بإدعاء أن ايديولوجيتها هى الافضل) لذلك كانت شعارات مثل الشعب يريد اسقاط النظام و الشعب جعان و عطشان و عيان .. هى شعارات التفاف جماهيرى كبير باعتبارها عملا سياسيا و ليس ايديولوجية سياسية.
و بالتالى نجحت بعض الثورات فى انها اخذت منحنى شعبى غير مرتبط بالكارزيما السياسية التى لها حساباتها الخاصة فى التعامل مع الاحداث، و لكن خطورتها انها تتحين ساعة الانتصارات لتظهر ببطولات مزيفة.

3. غياب الأحزاب:
كان الغياب المدوي للأحزاب التقليدية واضحا، ولكنه ليس محيرا، لأن منطق التاريخ يخبرنا بأن الجماهير الشعبية كعادتها، تكون هي السباقة في خلق الحدث، وغالبا ما تكون متقدمة على قياداتها. الأحزاب لها حساباتها وتحالفاتها وفهمها للمعادلات السياسية وتقييمها لموازين القوى، وقراراتها تخضع لرؤية قياداتها... أما الجماهير الشعبية فلها حدسها السياسي الذي لا يعبأ بالحسابات، وإحساسها بكرامتها وإدراكها لمصالحها، ومتى ما حانت لحظة الانفجار تهب بجموعها الغفيرة غير آبهة بالنتائج، دون أن تنتظر موافقة أحد، وهي تبدأ بمجموعات صغيرة ما تلبث حتى تكبر وتجمع أعدادا متزايدة أكثر فأكثر، إلى أن يلتف كل الشعب من حولها.
4. إمكانيات التغيير وآفاق المستقبل:
ليس بالإمكان الإدعاء أن الثورات الشعبية ستحقق اهدافها الكلية مرة واحدة، اى بمجرد أن نجحت بإسقاط بعض الأنظمة تكون طرق التغيير قد فتحت أمامها بدون عناء ومن غير خسارات. ذلك أنه هنالك العديد من الأسئلة المربكة والمحيرة لم تتم الإجابة عليها، وهناك احتمالات مقلقة لا بد من أخذها بعين الاعتبار. كل الثورات والانعطافات الكبرى في تاريخ الشعوب احتاجت إلى بعض الوقت كي تحقق غاياتها. وليس صحيحا أن التغييرات الجذرية تحدث فورا بعد الثورات الكبرى، فالثورة في التاريخ الإنساني لم تقتصر على هذا الشكل من التغيير، بل إن أهم التغيرات التاريخية حدثت من خلال تراكم تغييرات هادئة عبر سنوات طويلة، لتؤسس لتغيرات عميقة فيما بعد، بَـيْد أنه علينا التأكيد بأن التغيير قد حصل فعلاً، أو بكلمة أخرى قد بدأ فعلا، وأنه من المستبعد، العودة إلى حالة ما قبل التغيير. وأهم معطى لهذه الثورات، هو أنها جعلت الكثيرين يستعيدون الثقة بأنفسهم مرة أخرى، لينـزعوا عنهم، رداء اليأس والإحباط، وليفكروا بجدّية بمشروع المستقبل، وليحلموا بحياة حرة كريمة.
تكامل الادوار لاسقاط النظام
عناصر القوة:
1- الارادة.
2- الابداع.
3- السرعة.
دور  الانتلجنسيا فى التغيير 
Intelligentsia
"الانتلجنسيا" تعطي ولاءها للأفكار والمعرفة، وتمثل الجانب الخلاق في الفكر الاجتماعي السياسي، إنها تراقب، تدرس وتتأمل وتنظر وتحلل وتنشغل نقدياً بالأفكار والقيم والتصورات الأيديولوجية التي تجاوز المشاغل والمقاصد بالأفكار والتحليل الفكري والوقائع يكون منظراً، والذي ينشغل فقط بالأفكار المعيارية والتقويمية يكون أخلاقياً، وهو يصبح جزءاً من الأنتلجنسيا عندما يهتم بالنوعين ويوحدهما في إطار يرفض الأوضاع القائمة عن طريق الفكر المنضبط والمنظم. الانتلجنسيا تتميز إذاً عن المثقفين الآخرين في كونها كما يقولون في بعض الأوساط الفكرية الفرنسية لا تشكل "كلاب حراسة" لهذه الأوضاع، للنظام القائم، لما هو موجود، بل بالأحرى قوة نضالية في خدمة ما يجب أن يكون.(3)
المثقف الذي يرتبط بالوضع الراهن لا يستطيع فصل نفسه عنه وعن قيمه وافتراضاته ومنطلقاته ومؤسساته، وبالتالي لا يستطيع القيام بتحليل موضوعي علمي نقدي حوله، أو ممارسة النقد الجذري له. إنه يكون ملتزماً به بشكل مباشر أو غير مباشر، ويجد عقلنة له في ضوء تبرير فكري يضفي عليه الشرعية الأيديولوجية، وهذا يعني أن يكون مثقفاً دون الوعي الأصيل الذي يميز أو يجب أن يميز المثقف وليس الانتلجنسيا فقط، وذلك لأن هذا الوعي، الوعي غير المزور الذي كان القوة المحركة لتطور الفكر الإنساني نفسه يعني في ذاته فيما يعنيه ما يلي:
قدرة الإنسان على الخروج من الذات والوسط الخارجي ككل أو في بعض جوانبهما الأساسية وكأنه ليس جزءاً منهما لتحليلهما وتقويمهما، ومن ثم رفضهما جزئياً أو كلياً في ضوء جديد، هذا هو عنصر الوعي الأساسي.
فواجب رجل الفكر إذاً أن يحافظ على كيان الفكر وأن يصون وجوده الذاتي حراً مستقلاً.
والأنتلجنسيا في قاموس علم الاجتماع مصطلح له عدة استخدامات، فهو في المجتمعات الغربية يقصد به صفوة داخلية صغيرة تشمل المؤلفين وذوي الثقافة الراقية، وهي جماعة لها كيانها المستقل وقد يكون لها في أوقات معينة بعض التأثير السياسي والاجتماعي. وعلى الرغم من أن الهيبة التي تحصل عليها هذه الصفوة تتفاوت بين المجتمعات الغربية إلا أنها لا تتمايز عن القطاعات الأخرى من الطبقات التي تتالف أساساً من المهن الفنية العالية، وإذا كانت هذه الصفوة أيضاً تمثل الذين ينقدون الروح العامة التي تشترك فيها مع جماعات الطبقة الوسطى الأخرى، فإن الصفوة المثقفة تنمو مع المجتمع ككل. أما في المجتمعات النامية، فإن الصفوة المثقفة الحديثة لا تنمو بنمو المجتمع ككل. ولا تشترك مع الطبقات الوسطى في أية روح جماعية عامة. والمصطلح يستخدم في هذه المجتمعات للإشارة إلى صفوة ظهرت استجابة لقوى خارجية سواء عن طريق تقليد المجتمع الغربي من أجل اكتساب مهارات خاصة تمكنهم من التنافس مع الغربيين في المجالين الاقتصادي والعسكري، كما هو الأمر بالنسبة لروسيا واليابان، أو من خلال سيطرة الغرب على المجتمع وفرض ثقافته ونظمه التعليمية كالهند. والملاحظ أن الثقافة الحديثة المتميزة التي تتحقق لدى هذه الصفوة تفصلها عن بقية أعضاء المجتمع.
وجدير بالذكر أن هذا المصطلح ظهر في البداية في روسيا واستخدم في منتصف القرن التاسع عشر حينما كانت الطبقة العليا في روسيا منقسمة إلى قسمين هما: البيروقراطية الحاكمة، وصفوة المثقفين التي تتألف أساساً من المتخصصين في العلوم وأصحاب المهن الفنية العليا، وتسيطر عليها أيديولوجيات غربية تقدمية. واتسع نطاق المصطلح بعد ذلك فأصبح يشير إلى المثقفين الذين يتبنون آراء راديكالية تناهض النظم السياسية الأوتوقراطية.

التغيير السياسي في السودان ( التكامل بين النضال العسكرى و السياسى- كاودا نموذجا) :
قبل الخوض فى تحالف كاودا و اهدافه الواضحة و مكوناته الحالية و المطلوب فى تكامل  العمل النضالى العسكرى و السياسى، لا بد من  الرجوع الى بعض التجارب السابقة حيث كان اول تفاعل جمعي بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والتجمع الوطنى الديمقراطى كان في القاهرة (أبريل 1990م)، من بعد لقاءات ثنائية عديدة تمت بين الطرفين في اديس ابابا ونيروبي. في إجتماع القاهرة إلتقى وفد التجمع الوطني وفداً من الحركة الشعبية، وأوردت الحركة خلاله أفكاراً بدت لوفد التجمع أمراً غير مألوف.
فحين كان يرى ممثلو التجمع أن قضية السودان ستحل بعودة الديمقراطية بشكلها المعروف: استرداد الحقوق المدنية (حرية التجمع، حرية التعبير، حرية الضمير)، ثم الانتخابات، رأت الحركة أن في منظومة حقوق الإنسان حريات تعلو على الحقوق المدنية على رأسها الحقوق الطبيعية. ما أرادت الحركة قوله هو أن الإنسان قبل أن يتمتع بحقوقه المدنية، لابد له من أن يكون (To be)، أي يتمتع بحق الحياة (security of life) وهو أول الحقوق الطبيعية. ولربما رأى البعض في إثارة ذلك الأمر سفسطة فلسفية، ولكن الذين ظلوا خلال أربعين عاماً منذ الاستقلال يحاربون في الجنوب، و الشرق والغرب، لم يفعلوا ذلك من أجل استرداد الحقوق المدنية بل من أجل حقهم في البقاء، دون تقليل من أهمية الحقوق المدنية. لا نريد بهذا إنكار دور قوى وطنية عديدة في الدفاع عن، وحماية مصالح المستضعفين، وإنما نود فقط التنبيه إلى المغالطة الكامنة في الظن أنه متى ما أتيحت الفرصة، عبر الانتخابات، لهذه القوى لكي ما تستولي على، أو تسترد السلطة سيصبح حال البلاد لبناً وعسلاً. هذا الظن دحضه سعى تلك الجماعات لأخذ حقها بيدها، بالعنف حيناً (الحروب الأهلية)، وبالسياسة أحيانا أخرى (تحالفات قوى الريف في البرلمان). وذلك خير دليل على عدم ثقة هذه الجماعات في منهج التغيير عبر الانتفاضات بتحالفاتها اللوبية ومواثيقها التي تعنى الشئ وضده. الخلاف الثاني كان حول تقويم الانقلاب. فحين كانت قوى التجمع من الأحزاب الشمالية والنقابات تتحدث باعتبارها صاحبة حق تاريخي في الحكم والسياسة ، لم تأخذ تلك القوى في الاعتبار أن القوة التاريخية لا تعني شيئاً في موازين السياســة.القوة الحقيقية في السياسة هـي تلك التي تتمتع بها الجماعة فـي اللحـظة الحاسـمة (in the material time). في ذلك قال قرنق أن انقلاب البشير أحدث تغييراً نوعياً لأنه انقلاب قام به حزب ذو أيديولوجية إقصائية شعارها من ليس معنا فهو ضدنا. أضاف أن الحديث عن تغيير نظام الإنقاذ عبر انتفاضة جماهيرية يساندها الجيش بانحيازه لجانب الشعب يغفل متغيرات هامة ينبغي أن لا تغيب عن فطنة عاقل، خاصة وحزب الجبهة الإسلامية يعرف جيداً مقاتل نظامه من تجارب الانتفاضات الجماهيرية التي شارك في بعضها. هذه المتغيرات هي: أولاً: حزب الجبهة القومية الإسلامية ليس فقط حزباً سياسياً بل هو حزب مسلح. فإذا افترضنا جدلاً أن ذلك الحزب لا يمثل أكثر من خمسة بالمائة من أهل السودان، وإذ افترضنا والحال هذه، أن خمسة من هؤلاء يحملون غدارات لا كلاشنكوفات تصبح المعركة محسومة لصالح الخمسة. ثانياً: لتحييد الجيش قام نظام الإنقاذ بعمليتين متوازيتين: الأولى هي إفراغ الجيش من كوادره التي لا يأتمن، والثانية هي خلق جيش مواز، بل جيوش موازية، يلجأ لها عند الضرورة: قوات الأمن، الدفاع الشعبي، المجاهدين، مجندي الخدمة الوطنية. ثالثاً: أن الإنقاذ أصبحت له قوة اقتصادية بسبب سياسة التمكين وهي قوة لا تملكها الأحزاب الأخرى، كما له أصدقاء قادرون وراغبون في دعمه. رابعاً: فلاح النظام في إعادة هيكلة النقابات أفرغها من محتواها، كما أن سيطرته النسبية على الحركة الطلابية وتسليحه لعناصر منها أفقد العمل المعارض قوة كانت فاعله في الانتفاضات. وإن كان في الماضي لله جنود منها السيخ، فله بين الطلاب في عهد الإنقاذ جنود يحملون الكلاشنكوف، ويجيدون استعماله. ما أراده قرنق ليس هو تثبيط الهمم وإنما إبلاغ رفاقه التجمعيين أن التاريخ لا يقف عند أكتوبر 21 وأبريل 1985م. مثل ذلك القول بدعة في نظر فقهاء الانتفاضات في السودان، إذ أن لذلك الفقه عند فقهائه ثوابت لا يمكن تجاوزها، وقطعيات معلومة لا ينكرها إلا مهرطق. ولئن خابت عند أرباب العقائد الثوابت المنسوبة زعماً للدين، فما بالك بالثوابت السياسية المتوهمة. كبديل للإستراتيجيات التي ألِفَها السياسيون في الشمال وأبوا مفارقتها رغم تبدل الأزمنة تم الاتفاق في النهاية على أن يكون منهج العمل هو:أولاً: النضال المسلح (العمل العسكري) والذي تقوم الحركة بالجزء الأكبر منه لأسباب تاريخية. فالعمل العسكري – الجماهيري لم يكن أداة من أدوات النضال ضد الحكومات في الماضي (كان ذلك قبل بروز حركات دارفور).ثانياً: العمل الجماهيري الذي يحقق عائده بصورة تراكمية ثالثاً: العمل الدبلوماسي رابعاً: الحل السلمي المتفاوض عليه، وبهذا ترك التجمع الباب مفتوحاً لحل سلمي. ما هي الغاية من النضال ضد النظام عند الحركة الشعبية؟ بالقطع ليس هو عودة الديمقراطية بوجهها القديم، أي السير قُدماً إلى الوراء، إن جاز التعبير، كما حدث في غير انتفاضة. لهذا كان لابد من التراضي على برنامج حد أدنى يعمل التجمع على إنجازه، وبعد نقاش طويل تم الاتفاق على برنامج يتناول مجمل القضايا المعلقة في مجالات السياسة، و التنمية، و الإدارة. المعالم الرئيسة للبرنامج الذي أقره التجمع، في مؤتمر أطلق عليه أسم مؤتمر القضايا المصيرية، هي: • حق تقرير المصير كحق أصيل وأساسي وديمقراطي للشعوب (وليس فقط لجنوب السودان- رغم ان قوى سياسية رفضت تمريره الى الاقاليم الاخرى)، والاعتراف بأن ممارسة ذلك الحق توفر حلاً لإنهاء الحرب الأهلية الدائرة، وتسهل استعادة وترسيخ الديمقراطية والسلام. • اتخاذ موقف موحد من خيارين يطرحان على استفتاء: الفيدرالية والكونفيدرالية كنظام للحكم.• المساواة الكاملة بين أهل الأديان، والاعتراف بتعدد الأديان واحترامها، ومنع أي فعل يحرض على إثارة النعرات الدينية أو العرقية• ابتناء كل الحقوق السياسية والمدنية على أساس المواطنة.•• وضع برامج للفترة الانتقالية تتناول الاقتصاد، السياسة الخارجية، برامج إزالة آثار نظام الجبهة القومية الإسلامية، ميثاق العمل النقابي، قانون الصحافة والمطبوعات. هذه البرامج شكلت اقترابا شاملاً من قضايا السودان التي ظلت، كما سلف القول، تُرحَل من نظام إلى نظام، ومن عهد إلى عهد. لهذا يصح القول أن فصائل التجمع قد عقدت العزم على أن تعالج مجتمعة الأخطاء التي ارتكبتها فرادى. مع ذلك، ظل رئيس الحركة يقول هذا برنامج جيد ولكن تحقيقه رهين باستعادة الفضاء السياسي الذي تحتله الإنقاذ، وذلك لا يتأتى إلا بتفعيل أدوات النضال التي أقرها التجمع. ليس هذا مَقاماً لمقالٍ عن كيف تم تفعيل “النضال”، أو كيف استجد التجمع في تحقيق أهدافه الطامحة ومنها “اقتلاع النظام من الجذور”. ذلك الهدف العملاق كان يتطلب لإنجازه جهداً عملاقاً، وهذا ما لم يتحقق كما تقول النتائج. تكفي، إذن، الإشارة إلى أمرين هامين: الأمر الأول هو الشكوك التي ظلت تتواتر حول مصداقية بعض قيادات التجمع في المضي بالأمر إلى نهاياته بعد أن يؤول إليها الحكم، أي بعد “الاقتلاع من الجذور”. والثاني هو طفوح بعض الأعراض التي أبتلى بها الجسم السياسي السوداني، خاصة في فترة الديمقراطية الثالثة، والتي كان لها اثر ضار على العمل العسكري والسياسي معاً.حول الموضوع الأول سألت الادارة الامريكية الميرغنى  "ما هو الضمان في أنكم ستنفذون البرنامج الذي أقررتموه في أسمرا عندما يؤول إليكم الحكم". قال الميرغني: “الضمان هو الالتزام السياسي من ثلاثتنا (شخصي والصادق المهدي وجون قرنق)”. وكان هناك حسن إدراك أغلب قيادات التجمع، بمن فيهم الميرغني، للنتائج غير المستحبة التي يمكن أن يقود لها التخلي عن برنامج القضايا المصيرية. بيد أن حدثاً طرأ بعد لقاء الميرغني مع رايس، ألا وهو انسلاخ رئيس حزب الأمة عن التجمع بل وإعلانه عقب اتفاقه مع البشير في جيبوتي ” نداء الوطن” أن ذلك الاتفاق حقق 90% من برنامج التجمع، اى انه حقق في ساعة واحدة ما كان التجمع، بمن فيه حزب الأمة، يسعى إلى تحقيقه عبر نضال طويل أعدت له الجيوش وما (استطعتم من قوة). ليته قال أنه فتح باباً لتحقيق برنامج أسمرا، خاصة وليس في إعلان جيبوتي ما هو أكثر من العموميات التي كانت تحفل بها المواثيق التي انتهت جميعها بحق إلى مزبلة التاريخ. مثل هذه التصريحات لا تعين على تكذيب الظنون حول مدي التزام كل فصائل التجمع بما تعاهدت على إنفاذه من قرارات أسمرا. و نقصر الحديث عن احد العوامل التي أعاقت العمل العسكري كثيراً، رغم الإسناد المادي والمعنوي الكبير لذلك العمل من جانب الأصدقاء. ذلك العامل هو غيرة بعض العسكريين من الدور الرئيس الذي كان يلعبه الجيش الشعبي في الجبهة الشرقية ولأسباب موضوعية مثل: حجم جيش الحركة، إعداده للقيام بحرب غير نظامية، تمرسه القتالي (battle-hardiness)، انضباطه تحت لواء قيادة واحدة معلومة. ذلك الموقف كاد أن يقود إلى انسحاب الجيش الشعبي، لاسيما عندما طلب قائد عسكري شمالي ، لا خلاف في قدراته العسكرية، من القائد سلفاكير ضم جيش الحركة لفصيله، وإيلاء القيادة لذلك الضابط ذي القدرات التي لا تنكر. ولئن تركنا الغيرة جانباً، فالله أعلم بالسرائر، ونسبنا الأمر للطموح نقول أن الطموح أمر مشروع، أما الطموح الجامح الذي يقفز فــوق نفسه (o’er leaps itself)، يؤذى من يجترحه. تلك كانت هي مأساة ماكبث. ذلك الموقف الطامح الذي كاد أن يحمل القائد سلفا على سحب قواته إلى من حيث أتت يعبر عن شئ آخر هو عدم الحساسية السياسية خاصة في ظل موروثات ثقيلة من الظنون. فأكثر من ثلثي فصيل الجيش الشعبي في الجبهة الشرقية (ما يربو عن السبعة آلاف مقاتل)، كانوا من أبناء الجنوب في حين بلغ من جاء منهم من الشمال(بمن في ذلك قائدهم عبد العزيز الحلو) اقل من الثلث. وبحجمه ذلك كان فصيل الحركة العسكري هو اكبر فصيل في الجبهة الشرقية، وهكذا ظل إلى أن تم ترحيله بعد اتفاقية السلام وفق ما نصت عليه تلك الاتفاقية بشأن إعادة انتشار القوات. هذا أمر نذكره بغير قليل من الأسى لأنه حرم التجمع من دعم فصيل انتسبت إليه مجموعة من خيرة مثقفي السودان كانوا يتطلعون إلى تغيير هيكلي في السياسة السودانية، وكان لقرنق تقدير كبير لبعض المدنيين والعسكريين في ذلك الفصيل. الحساسية نحو الآخر هي التي حملت قائد الحركة جون قرنق على رفض اقتراح تقدم به مبارك المهدي بأن يصبح قائد الحركة رئيساً للتجمع وهو يقول “ليس من اللياقة أو الحكمة السياسية أن أصبح رئيساً لتجمع يضم الميرغني”. ولما طلب منه أن يكون نائباً للرئيس اقترح كبديل عنه لذلك المنصب الفريق فتحي احمد علي إذ كان من رأيه أن ضباطه وجنوده لن يرضوا أن يصبح قائدهم هو الرجل الثاني في ميدان هم فيه القوة الضاربة الأكبر. للخروج من ذلك المأزق أقترح قرنق أن تكون قيادة التجمع جماعية تضـم كل رؤساء الفصائل ويصـبح فيها الميرغني رئيسـاً بيـن أكـفاء (head among equals)، وينوب عنه في الرئاسة الفريق فتحي. وقد أثبتت التجارب صدق حدس قرنق لأن اى عمل عسكري لا يتوفر له غطاء سياسي هو مغامرة غير محسوبة. وقد وفرت رعاية الميرغني لذلك العمل الغطاء المطلوب، رغم ضعف مشاركة فصيله العسكري في تلك الجبهة.(4)
اذا برؤية تحليلية ان الجانب النظرى فى مقرارات اسمرا كل لابأس بها، و لكن نضوج الفكرة فى محتواها التبيطقى لحد ما تعارض مع اشكالية التغيير الاجتماعى و العقلية الباطنة لمعظم النخب السودانية فى الالتزام بتطبيق ما تم الاتفاق عليه، و هو من الاسباب التى ادت لانفصال جنوب السودان، و قد تؤدى لانفصال مناطق أخرى، اذا ان اتفاق السلام الشامل رغم ما تعرض لنقد من قوى سياسية بدوافع انانية، الا ان تطبيقة الامثل كان قد يكون سببا فى اعادة بناء هيكلة الدولة السودانية باسس جديدة و عادلة، مما يحافظ على وحدة الوطن، فهل ستكرر نفس الاخطاء التى قادت الى انفصال الجنوب و ظهور جنوب آخر، ام ان السودانيين سيعون الدرس و ينتقلون من الحلول السطحية الى الحلول المتعمقة و الجذرية للمشكلة السودانية.
تحالف الجبهة الثورية السودانية (كاودا)                                        
الإعلان السياسي                                                 
المقدمة:
إنطلاقاً من مبدأ النضال المشترك، وقناعةً منَّا بضرورة تحرير الشعب السوداني من الظلم والإضطهاد والكراهية، وتحقيقاً لقيم الحرية والديمقراطية والسلام العادل، لإيجاد سودان ديمقراطي لا مركزي ليبرالي موحد على أساس طوعي، وتجاوزاً لإخفاقات نظام المؤتمر الوطني الحاكم الذي يمثل إمتداد لنظام المركزية القابضة على السلطة منذ الإستقلال، وهو نظام معادي للديمقراطية والحريات الأساسية للمواطنين، وقد أنتهكت خلاله الكرامة الإنسانية من خلال ممارسات بيوت الأشباح والفساد المالي والإداري حيث أضحت الأزمة في اقصى تجلياتها بإرتكاب النظام أبشع صور انتهاكات حقوق الإنسان، من إبادة جماعية وتطهير عرقي في دارفور وإمتدت الى جنوب كردفان. حتى أصبح رئيس النظام مطلوباً لدى المحكمة الجنائية الدولية. كما أصبح واضحاً أنَّ نظام المؤتمر الوطني لم ولن يستجيب للحلول السياسية العادلة إلَّا تكتيكاً ومراوغةً لإطالة عمره في السلطة، وبذلك أصبح مثالاً في نقض المواثيق والعهود. وبهذا نحن:
(1) حركة/جيش تحرير السودان قيادة مني مناوي        
(2) حركة/جيش تحرير السودان قيادة الاستاذ/عبدالواحد محمد النور     
(3) الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال)           
قد إجتمعنا في منطقة كودا المحررة بجبال النوبة في الفترة ما بين 1/8/ 2011 الى 7/8/2011 و بهذا نعلن عن تـأسيس تحالف الجبهة الثورية السودانية وفقاً للأهداف التالية
(1) إسقاط نظام المؤتمر الوطني الحاكم بكل الوسائل المتاحة
(2) توحيد وتقوية جهود القوى السياسية السودانية وقوى المجتمع المدني والأهلي وقطاعات الشباب والطلاب والمهنيين وتنظيم صفوف المقاومة لإزالة النظام
(3) تأسيس دولة تُحترم فيها حقوق الإنسان كما حددتها المواثيق الدولية
(4) تشكيل حكومة وحدة وطنية بفترة انتقالية مدتها ستة اعوام تطلع بمهام وضع دستور انتقالي للدولة تُضمَّن فيه المبادئ والأهداف الواردة أدناه
أ‌حل قضايا السودان وتأمين خصوصيات جميع المناطق التي تضررت بالحروب والنزاعات المسلحة
ب‌إجراء احصاء سكانى عام وفقاً للمعايير والرقابة الدوليين          
ت‌إجراء انتخابات حرة ونزيهة على كافة المستويات وفقاً للمعايير والرقابة الدوليين 
(5) إعادة هيكلة وبناء اجهزة الدولة المتمثلة في الخدمة المدنية والقوات النظامية والجهاز القضائي وغيرها من المؤسسات والأجهزة
(6) ضرورة التسليم الفوري لمرتكبي جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم ضد الإنسانية لمحكمة الجنايات الدولية
(7) الإقرار على خصوصيات الأقاليم التي تضررت بالحروب والنزاعات المسلحة والعمل على حلها
(8) إقرار الوحدة الطوعية لجميع اقاليم السودان               
(9) تحقيق دستور مصدره عقد إجتماعي لجميع الشعوب السودانية وأن يُضَمن فيه الأسس والمبادء والأهداف التالية
أ‌هوية سودانية تستوعب التنوع والتعدد الثقافي والعرقي والديني                
ب‌إقرار مبدأ المواطنة أساس للحقوق والواجبات                    
ت‌إتاحة الحريات العامة وحقوق الإنسان والديمقراطية وحكم القانون والتداول السلمي للسلطة عبر إنتخابات حرة ونزيهة, وإستقلال القضاء والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية       
ث‌إعتماد مبدأ الشفافية والمحاسبة
ج‌الإلتزام بكافة العهود والمواثيق الدولية
ح‌كفالة الحريات العامة بما في ذلك حرية التعبير والتنظيم والتجمع والإعتقاد والفكر   
خ‌سيادة حكم القانون وانَّ الجميع يتساوون أمامه
د‌التأكيد على حق المواطن في الحياة الكريمة والخدمات الاساسية والحفاظ على امنه وسلامته وإحترام إرادته وحقوقه الأساسية                
ذ‌تضمين مواد تحاسب مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية
وقد اتفق الأطراف على الأهداف أعلاه إستناداً على المبادئ التالية:
(1) قيام نظام حكم لا مركزي تتنزل فيها السلطات لمستويات الحكم المختلفة       
(2) الدولة السودانية دولة لا مركزية, ديمقراطية يقوم الحكم فيها على ارادة الشعب وتقوم الواجبات والحقوق على اساس المواطنة والمساواة الكاملة دون تمييز على اساس الدين او العرق او الثقافة او النوع, وتكفل التشريعات وتحمي السياسات التنفيذية والقوانين حرية الإعتقاد الديني والإنتماء الفكري والثقافي والتعبير عنها بالوسائل السلمية
(3) إقرار النظام الديمقراطي شرط لازم للإستقرار والسلام العادل المستدام, ويقصد به كفالة الحريات العامة وحقوق الإنسان وسيادة حكم القانون وإستقلال القضاء والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية
(4) إقرار مبدأ تقاسم السلطة والثروة على اساس نسبة سكان الإقليم مع تطبيق مبدأ التمييز الإيجابي للأقاليم والمناطق المتضررة بالحرب
(5) إقامة علاقات خارجية متوازنة تقوم على مبدأ التعايش السلمي والإحترام المتبادل والمصالح المشتركة
(6) إقرار دستور وقوانين قائمة على فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة لضمان عدم إستغلال الدين في السياسة
وقد تراضى الأطراف على بناء هياكل تنظيمية تتكون من:
(1) المجلس القيادي لتحالف الجبهة الثورية السودانية
(2) القيادة التنفيذية لتحالف الجبهة الثورية السودانية
(3) هيئة الاركان العسكرية المشتركة لتحالف الجبهة الثورية السودانية على ان تكون الرئاسة دورية
وبناء على الاسس والمبادى والاهداف الوارده أعلاه في الاعلان السياسي لتحالف الجبهة الثورية السودانية نعلن عن مشروعنا هذا.وعليه ندعو كافة القوى السياسية السودانية والحركات المسلحة للانضمام.كما نناشد الشعب السودانى والشرفاء في القوات النظامية بالانحياز للثورة.كما نناشد أيضا دول الجوار الاقليمى والمجتمع الدولي والمنظمات الدولية والانسانية ومنظمات حقوق الانسان بالوقوف الى جانب شعب السودان بتقديم كافة أشكال الدعم لتحقيق أهداف التحالف.(5)                   
الموقعون:
حركة تحرير السودان قيادة مني مناوي                                
حركة تحرير السودان قيادة عبدالواحد محمد نور                    
الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال                          
كاودا – الاراضي المحررة                                   
7 أغسطس 2011                                                 


الخاتمة:
الوضع السياسى الراهن فى السودان فى ظل تمسك حزب المؤتمر الوطنى الحاكم على مقاليد الامور بصورة شمولية دكتاتورية و محاولة إضفاء شرعية دستورية عبر انتخابات شهدت تزويرا سيقود الى تفكيك السودان،و لذلك فان الحلول التجزئية و التلفيقية لحل القضية السودانية بالشكل الذى يقوم به المؤتمر الوطنى حاليا سيقود الى تدمير السودان كليا،  فذهاب هذا النظام عمليا هو الحل الامثل، حتى نبنى سودان موحد و قوى و ذو هوية سوداناوية مشتركة يفتخر بها كل و طنى غيور.

اذا تتبعنا النظريات العامة، التي تتحدث عن سبب اشتراك الناس في السياسة و تجعل الحركات و قوى الهامش و التنظيمات السياسية و منظمات المجتمع المدنى  بوصفها البؤر التي تكمن فيها طاقة الوعي والفعل السياسيين موضوعاً مركزياً لتحليلها، نجد إن دراسة هذه التنظيمات و بنيتها الاجتماعية وطبيعتها الأيديولوجية  تتيح لنا إمكانية التنبؤ بالسلوك السياسي للمواطن إلى حد كبير دوافعه ومقاصده. كما تتيح لنا إمكانية البحث عن البيئة السياسية النموذجية للمشاركة السياسية
هنالك نسق معرفي معتمد في الجامعات والمعاهد العالمية العليا  تحت  اسم علم الأحزاب السياسية المقارن ينطلق الباحثون فيه من القناعة  بأن ازدياد حجم المشاركة السياسية وتطوير أساليبها من خلال التنظيمات السياسية والجمعيات الأهلية والأطر المدنية  هو المدخل الصحيح اليوم إلى مواطنة صحيحة وإلى حياة وطنية أرقى وأشدّ تماسكاً.وخلاف ذلك يعني الحكم بالبؤس السياسي على المجتمع وتهميشه وتردّي الشعور بالانتماء والمسؤولية لدى المواطن.
إن العديد من الأنظمة والشعوب صارت تأخذ اليوم مُثل التعددية والديموقراطية السياسية الحقيقية على محمل الجدّ وباتت تراهن على حياة سياسية- إنسانية أرقى بكثير مما لو احتكر فرد أو حزب أو عرق أو طبقة الحياة في نفسه. وهذه النظرة أو الأسلوب غدا علامة صحيحة على تقدم المجتمعات سياسياً و اجتماعيا و اقتصاديا.
الأطروحة الشهيرة التي هيمنت على النظم السياسية الدكتاتورية و الشمولية خاصة في دول العالم الثالث في القرن العشرين على اختلاف أنماطها  كانت تقول: إن المصلحة الوطنية الحقيقية وسلامة النظام سياسياً واجتماعياً تكمن في التماه بين الدولة والمجتمع وحزب وحيد يمنح نفسه احتكار الشرعية السياسية  والقانونية وينطق باسم المجتمع وشرعيته  بعد أن استعار صوته ولغته. وقد شخص عالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون خمسة عناصر رئيسة مشتركة بين هذه الأنظمة:
1- احتكار النشاط السياسي ليقتصر على حزب واحد.
2-  تحرك ذلك الحزب بفعل أيديولوجية تغدو الحقيقة الرسمية للدولة.    
3-    تمنح الدولة نفسها احتكار وسائل القوة والإقناع.
4 - معظم النشاطات الاقتصادية والمهنية مندمجة بالدولة وخاضعة للحقيقة الرسمية.
5- الخطيئة الاقتصادية أو المهنية تغدو خطيئة أيديولوجية ,وعليه فينبغي أن تعاقب بإرهاب أيديولوجي وبوليسي في آن معاً.
واقع الحال أن هذه النظم عمدت انطلاقا من هذه القناعة الأيديولوجية إلى تقويض الحياة السياسية الحزبية داخلياً. وقلًصت الحراك الاجتماعي و السياسى المدني إلى أدنى حدّ له  وحالت دون نشوء فاعلين سياسيين وقضت على كل أشكال المشاركة أو المساهمة السياسية..
إن أحد أبرز معايير ضعف هذه الدول ومجتمعاتها كما يشير علماء الاجتماع السياسي يتمثل في هبوط المساهمة السياسية أو ما يسمونه بأزمة المشاركة السياسية. وهو يعدّ في الوقت ذاته سبباً في إحساس العديد من الأفراد في تلك المجتمعات أنهم هامشيون ومنبوذون في دول ومجتمعات لا يشعرون بأنهم يساهمون فيها . كل ذلك يدفعهم إلى الشعور المضاد للانتماء أي العزلة والاغتراب الاجتماعي ومن ثم الجوء إلى  و الثورات و الحروب .
من الواضح أن بوسع الدولة أن تكون دولة سلطة سياسية حاكمة و هو ما يفعله المؤتمر الوطنى الان  دون أن تكون دولة مواطنين، إذا انه لم يعترف بأن مهمة النظام السياسي هي الاهتمام بمصالح المحكومين ورعايتها وبتنمية الدور السياسي للمواطن وضمان مساهمته الحرة بوصفه فاعلاً سياسياً فى ظل تعددية سياسية محترمة و تمارس كل حقوقها و بالمقابل تقوم بواجباتها.
إذ ينبغي أن يشعر المواطنين أنهم يساهمون في بناء الحياة والمجتمع السياسيين. فإذا لم يتعمق لديهم هذا الشعور بالانتماء إلى المجتمع السياسي، وإنما إلى أسرة فقط  أو قرية أو طائفة  أو عرق  أودين  فإن هذا الوعي بالانتماء الأخير يترسخ على حساب شعورهم بالمواطنة العمومية والمشتركة.
تقاس المساهمة السياسية للمواطن بمعايير واضحة تتعلق بقدرته السياسية على التعبير عن آرائه بحرية وبترجمة قناعاته السياسية وتجسيدها خلال العمل الفردي أو الجماعي المنظم  وبدرجة تأثيره على آليات عمل النظام السياسي وقراراته و تحكمه بسلوك ممثليه. فبمقدار ما يمتلك المواطن الوعي السياسي والأدوات والوسائل التي تتيح له ترجمة هذا الوعي في سلوك حرّ بعيد عن الإكراه تكون البيئة السياسية هي الأمثل. وقد وجد الفلاسفة السياسيون أمثال لوك Locke ومل Mill وتوكفيلTocqueville وغيرهم أن هذه المعايير هي   أساسية لنظام ديموقراطي ناجح قائم على التعددية وحرية التعبير وحقوق الأقليات.
المشاركة السياسية الحرة والطوعية للمواطنين هي شرط أساس لأي نظام سياسي حديث كفَ عن أن يكون مستبداً وبالياً.
بينما يفسّر هشاشة النظام السياسي وعدم استقراره وضعف المجتمع المدني بعزوف الأفراد أو منعهم عن المشاركة السياسية  وتحاشيهم المساهمة وليس العكس. و يعتبر نظام المؤتمر الوطنى الشمولى نموذجاً حيّاً لهذا الموقف. إذ اعتقد أن من شأن القمع وسلطة الخوف وحدهما أن توحدا المجتمع بواسطة قهره و جبروته. وقد أفضى ذلك إلى تدمير روح الاجتماع الإنساني بالذات  كمحاولة لتحويل المجتمع في أحسن أحواله إلى جمهرة قلقة وعدمية  محتقنة ومفككة تسودها الكراهية وعدم الثقة. فقد تعلم المواطن في زمن الاستبداد والقهر أن يكون سلبياً إلى أقصى درجة،  وخلق الرعب لديه نوعاً من العدمية السياسية واللامبالاة  التي كرست الاغتراب الداخلي وعمقت من تصدع الوحدة السياسية والاجتماعية. إن الدرس الرئيسى الذي يمكن استخلاصه من التجربة االشمولية الاحادية هو  أن أقدام الطغاة والمستبدين هي التي تمهد الطريق أمام تدمير وطن بحجم  السودان حينما تجعل من أعناق مواطنيهم موطأ لها وتروضهم على الخنوع والذل.
لا يستطيع النظام السياسي الدفاع عن المجتمع وحمايته من دون مواطنين أحرار يستشعرون حريتهم مهما ادعى ذلك. فالنظام الذي يؤثر القمع يولّد الخوف في الأذهان ويخلق مقداراً كبيراً من عدم الثقة ويؤدي كل ذلك، في نهاية المطاف، إلى القطيعة بينه وبين الأساس الاجتماعي لشرعيته وبقائه، مما يمهد لتفجر الاوضاع لاقتلاعة من جذوره.
إن النظام السياسي الذي لا يثق بالوعي السياسي الوطني لمواطنيه  ليس له أن يفرض وعياً وطنياً مشتركاً بالقوة او التزوير من دون أن يغامر بإثارة العداء والكراهية نحوه. إن عملية التعبئة الأيديولوجية التي تبدو مفروضة هنا  لاتخلق شعوراً وطنياً مشتركاً وفاعلاً  ومن ثم عوضاً من أن تحقق تواصلاً سياسياً محتملاً بين النظام السياسي  والمجتمع المدني  فإنها تحدث صدعاً بين الطرفين.
إن من شأن الكوابيس الأيديولوجية التي تنجم عن تماهي المجتمع والدولة مع أيديولوجية حزب متسلط أن تضعف الشعور بالمواطنة لدى الأفراد وتخنق لديهم كل ابتكار أو تنوع خصب في الرؤى وتقيّد روح المبادرة. فالمجتمع الديموقراطي الحديث في أبرز تعريف له هو المجتمع الذي يشرك أكبر تنوع ثقافي ممكن وتنوع في الآراء مع أوسع استخدام ممكن للعقل  مع ضمان أكبر قدر ممكن من الاحترام للتطلعات الفردية والجماعية  ودون اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف أو القهر أو الإقصاء.
من جانب آخر فإن الاعتقاد بأن المصلحة الوطنية تقتضي هذا التماهي بين المصادر الثلاث إنما يقوض كل أساس سياسي أو قانوني لمعارضة تعسف السلطة ويطيح بكل إمكانية لتصحيح مثالبها وتعويضها و بالتالي يعدّ العدة لشرْعنة أخطائها  بجعلها القاعدة الناظمة للحياة السياسية. فيصير لزاماً على الدولة إذا شاءت أن تكون وطنية وديموقراطية حقاً أن تعترف لمواطنيها بحقهم في المعارضة ضمن إطار القانون بالأسلوب الفردي أو الجماعي. فلا تقوم الدولة فقط بتحديد سلطتها على هذا النحو  وإنما تفعل ذلك من موقع وعيها بأن شرعية نظامها السياسي واستمرار يته مرهونتان بدرجة تفاعلها وتواصلها مع المجتمع المدني وبقوة الأخير ومقدار تأثيره. فإذا لم تفعل ذلك فإن ادعائها بأن شرعيتها مستمدة من تمثيل مواطنيها يعد نفاقاً بلا طائل. و هو ما درج نظام المؤتمر الوطنى على القيام به فإشعاله لحروب الابادة العرقية فى دارفور و جبال النوبة/ جنوب كردفان و النيل الازرق و قصفه للمواطنيين الابرياء بالطائرات و الغازات السامة و استخدامه للغذاء و العلاج و التجهيل و الاغتصاب و الاستعباد و الاستلاب و القهر الثقافى و التهجير و بناء السدود و محو الاثار و الابدال السكانى كسلاح فى العديد من مناطق السودان فى شرقه و شماله و وسطه و غربه و جنوبه و  تصديه وقمعه لحرية الفكر و التعبير و الصحافة و النقابات وقفله لدور الاحزاب و مصادرة ممتلكاتها و اعتقال اعضائها و تصدية للمسيرات الشعبية السلمية الاخيرة بعنف  لخير دليل على ذلك.
إن اجتماع المساهمة السياسية للمواطنين مع تحديد السلطة وتقييدها بواسطة الحقوق الأساسية  يعدّ الأساس الراسخ لأي مجتمع سياسي حديث  و الذي بدونه لا تكون الدولة دولة مواطنين أحرار. لكن يتعين أن يتوج كل ذلك غياب مبدأ مركزة السلطة ونفي كل صفة جوهرية عنها بوصفها حزب واحد   تنطق باسم الشرعية الأخلاقية والسياسية للمجتمع. الأمر الذي يمكن ترجمته بشكل ملموس في التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرّة ونزيهة تعتمد رغبة الأغلبية قانوناً لها.
تحقق الحركات و تنظيمات الهامش السودانى و منظمات  المجتمع السودانى و القوى السياسية الداعية الى التغيير عبر اسقاط النظام معتمدة على الاساس العسكرى و السياسى الذى رسمه تحالف كاودا، في هذا السياق تواصلاً بين المواطن والعملية السياسية وممارساتها. وهي تمثل هنا إطاراً مرجعياً لقيم سياسية وأهداف  عامة ومشتركة  ينبغي لها أن تستجيب لمصالح المجتمع الأكثر عددا و حيوية. هكذا تلعب هذه المؤسسات دوراً كبيراً في توجيه السلوك السياسي للمواطنين  فإذا كان غيابها الطبيعي مؤشراً على الجمود وبؤس الحراك السياسي  فإن حظرها ومنعها بقرار تعسفي من شأنه أن يخلق فراغاً سياسياً وأيديولوجياً يتعذر على الخطاب الأيديولوجي للنظام السياسي الشمولى أن يشغله بمفرده لذا يستوجب رحيل النظام الشمولى الذى يتبناه المؤتمر الوطنى و يبنى على انقاضة نظام متفهم للتعقيدات السياسية و التاريخية و الانثروبولوجية و الاقتصادية و التنوع بفهم يساهم فى استقرار ما تبقى من سودان موحدا و متصالحا مع المجتمع المحلى و الاقليمى و الدولى.
فالموقف الحالى للسودان باكمله فى ان يكون او لا يكون فى ظل وجود نظام المؤتمر الوطنى خطير للغاية، وعلينا ألا نقلل من مخاطر مثل هذا الموقف  إذ يخبرنا التاريخ القريب أن النظم السياسية التي صادرت أسس المشاركة السياسية الحرّة  والديموقراطية ووسائلها  وقاومت كل مساهمة  فردية أو جماعية للمواطنين  مهدت بذلك الطريق لاكتساح أيديولوجيات في غاية التطرف سواء دينية كانت أو طائفية أو عرقية او غيرها ومن ثم عززت النزوع الارتدادي إلى انتماءات عصبوية عمقت من تفكك المجتمع المدني وأسست بالتالي   للتناحر الداخلي بين مكوناته  بعد أن أتلفت كل فضاء تواصلي بينها.
الخلاصة إن الانتقال من المساهمة السياسية الفردية إلى الشكل  الجماعي لها  هو الأسلوب العقلاني الحديث للممارسة السياسية  الذي يلازم تحرر الفرد من أشكال الانتماء المجتمعي الهدام، وتراتبيتها التي تقيّد الفرد وتلزمه بمكانة اجتماعية ووظيفة تحول دون اكتسابه صفة العمومية بوصفه مواطناً في مجتمع سياسي حديث، و لن يحدث تغيير جذرى لذلك الا بتغيير جوهرى اجتماعيا و سياسيا ..الخ .
إن ظهور المجتمع السياسي الحديث يعدّ مؤشراً نهائياً على تحرر الفرد – الإنسان من النظم الاجتماعية السابقة، و فى السودان فان تجربة البطل على عبد اللطيف و عبيد حاج الامين ورفاقهما فى ثورة 1924 كانت نموذجا متطورا للغاية، و لو تم الاستفادة منها من قبل ساسة السودان منذ ذاك الوقت الى الوقت الراهن لكان و ضع السودان مغايرا، و مع الاسف فان ما يسمى بقادة السودان لم يفطنوا الى ذلك و الاستفادة منه، باستثناء الدكتور جون قرنق الذى اعتمد فى طرح السودان الجديد على مفاهيم التنوع و العدالة الاجتماعية و ذلك عبر الارتقاء بالانسان وتحوله إلى كائن سياسي عمومي مساهم لا يكتفي بتموضعه في أطر جزئية محددة وإنما يلتقي مع غيره في أشكال أسمى من الانتماء.
إن التنظيمات السياسيه  بوصفها هيئات منظمة وحديثة  تتخطى في بنيتها الانتماءات الفردية السابقة ويتجاوزها في أهدافه ومقاصده العملية  إلى مستوى النشاط الجماعي الواعي القصدي للكل  الذي لا ينفي داخله كل اختلاف أو تعدد فى الرؤى و الانتماء.
فقد استعصت الحالة التى يمر بها الوطن السودان على المؤتمر الوطنى الذى يعنى استمراره مذيدا من حالات التازم و تقسيم الوطن بعد انفصال الجنوب، فبدلا من اسلوب ادارة الازمات بالازمات الذى ينتهجه عليه ان يتنازل عن السطة حفاظا على ما تبقى من السودان و الا فان الثورة لا محالة ستكون الحل الوحيد و الامثل للاطاحة به.
اخيرا آمل ان تلعب هذه المساهمة المتواضعة مع غيرها من مساهمات فكرية و وطنية صادقة دورا ايجابيا فعالا لبناء سودان جديد باسس عادلة.

امين زكريا اسماعيل- امريكا
amindabo@hotmail.com
اكتوبر 2011
الهوامش:
1- امين زكريا إسماعيل، تثقيف الثقافات و أثره فى بناء الهوية السودانية المشتركة و علاقتهما بالسلطة، محاولة فكرية نحو بناء نظرية الدائرة الثقافية، بحث و كتاب لم يكتمل بعد، ص ص 35-52.
2- د. أبكر آدم إسماعيل، جدلية المركز و الهامش، النسخة الاصلية، ص ص 21-22.
3- موسوعة المعرفة، تعريف الانتلجنسيا، 1995، ص 51.
4- د. منصور خالد، التغيير السياسى  فى السودان، مقال.
5- البيان التاسيسى، تحالف الجبهة الثورية السودانية (كاودا)، 7 أغسطس 2011.

 

آراء