أغاني وأغاني: أين معتز صباحي “النجم الساطع” الذي عرفناه؟
د. محمد بدوي مصطفى
3 August, 2013
3 August, 2013
mohamed@badawi.de
لقد سنحت لي الفرصة اليوم أن أشاهد أولى حلقات أغاني وأغاني للعام ٢٠١٣. إن هذا البرنامج المرموق الذي يقوده الأستاذ السر قدور هو، بدون أدنى شك، من البرامج الرائدة في مجال توثيق الأغنية السودانية. كان له ضلع كبير في توثيق الأغنية السودانية منذ نشأتها الأولى، رغم ذلك فالتوثيق سلاح ذو حدين: إما توثيق ناجح وإما آخر يشوبه الاخفاق والتخبط. إن حصيلة العمل جيّده لكنها لم تبلغ بعد درجة الكمال وهذا من نصبو إليه في التنبيه لقضية تصحيح المسار وقبول التحدي من جديد. الكل يعلم أن قناة النيل الأزرق هي أولى القنوات الناجحة في مجال الإعلام بالسودان لما ينهض به أولئك الزملاء من أعمال جليلة بمقدرات نعتز بها؛ فبالرغم من قلّة حيلتها المتمثلة في امكانياتها التقنيّة المحدودة، مقارنة بفضائيات عربيّة أخرى، استطاعت أن تنفرد بنصيب الليث في تلبية رغبات المشاهدين بالبلد. ومن هذا السياق دعونا نتساءل كمشاهدين وناقدين: أيمنعها هذا النجاح أن ترعى هذا البرنامج الرائد (أغاني وأغاني) بجديّة أكبر واحتراف أعمق بعد كل هذه السنين؟ أو بمعنى آخر: أيضيرها أن تجعل منه مثالا نادرا يحتذى به في عالم التلفاز المعاصر بالسودان؟ إن ما شاهدته اليوم يكاد يكون متطابقا مع ما شاهدته في السنوات الماضية، اللهم إلا في بعض التفاصيل منها الثانوية، مثلا: الجلوس المتوازي الممل، الديكور المتواضع، زيادة عدد المطربين الجدد؛ ومنها الأساسي المهم، على سبيل المثال: مواصلة مسألة فتح الميكرفونات بنفس الكثافة لكل الحضور في أن يتداخلوا في آن واحد في الأغاني دون مراعاه أبجديات المصاحبة الكوراليّة أو دونما اعتبار لمؤدي الصولو. ليس هناك خطة مدروسة في التداخل والتبادل في أداء الأغاني والمظهر العام يتسم بالهمجية والعفويّة، إذ نجد الكل يغني بصوت جهور – من بينهم الذين يفتقدون للتمرس والخبرة – يغالون في استخدام الصوت الواحد مهملين أهميّة الهرمنة ومن ثمّ دون التدبر في منتجة واخراج هذا الأغاني بصورة جذابة حديثة تواكب روح العصر وتنمى ملكات الاستماع عند المشاهدين. أما فيما يخص الفرقة الموسيقية بقيادة الأستاذ محمديّة فهي ضمت هذه السنة مجموعة جديدة من العازفين لكن الكل أيضا، يا للأسف، يعزف نفس النغمة الواحدة. خلاصة القول: لم يحدث أيّ تطور ملموس، لا في الأداء الجماعي للمجموعة، لا في التوزيع الموسيقي، لا في المضمون البرامجيّ ولا في إعادة الهيكلة، فضلا عن تكرار الأغاني المستمر وإعادة حلقات بُثَّت من قَبل ولعدّة مرات وحفظها المشاهدون عن ظهر قلب على صفحات اليوتيوب، إذا ما العمل؟
من المشاهد التي شحذت فكري واستثارت فضولي كانت مداخلات المطرب معتز صباحي. فهو - حسب ما سمعته ورأيته له في السنين الماضية من أعمال - صوت مبدع وطروب. أدهشني - بإيجابيّة - حسه المرهف وذوقه السامي في ترجمة اغنيات التراث العتيق، فلمست في أداءه إذذاك لونيّة جديدة تبدّت في جماليّة عربه وندرة خامة صوته. يكاد يكون صباحي طفرة بين مطربيّ السودان فهو يتسم بلون متفرد، امتزج فيه لحن الطفولة بذخيرة الموروث العربي المشترك الذى عاشه واقعا وأحبه في طفولته عندما أقام بشبه الجزيرة العربيّة وترعرع بها. لقد تجلّى هذا الإبداع في ادخال معالجات عصريّة وقراءات نادرة للأغنية لم نعهدها من قبل. استطاع صباحي – من خلال أعماله القديمة – أن يخلق لنفسه لونا فريدا ولحنا عذبا يتشبع بروح فصيلة أغاني "الراي" التي نعرفها عند الشاب خالد (أغنية عائشة) وعند مطربي الراي بشمال أفريقيا (شاب مامي وشاب حسني) دون أن يتنكر لحسه السودانيّ الأصيل. أثرى صباحي مسيرة الأغنية السودانية الفنيّة وانفرد في بداياته بهذه اللونيّة التطريبيّة النادرة، ولا أعرف مدى اتصاله بهذا التراث العربي الخاص الذي ينتمي لإرث الملحون المغاربي (هل هي صدفة أم انعكاس لتشبعه بهذا الفن؟). على كل حال فقدت تلك النبرة وبحثت عنها، عندما غنى (من حور الجنان)، أو (من طرف الحبيب) أو (البلوم في فرعه غنى) لكن سدا. لقد أصبح أداءه هاهنا أقرب للمألوف المتداول منه لأدائه الذي سلق عليه وتبناه في بداياته كعنصر تفرديّ وذاتيّ. لم أر صباحي ودوزنته المرهفة التي مزجت سحر الطرب السوداني وكستها بلونيّة جمال الأغنية العربيّة الشمال-أفريقية، التي لا تبتعد كثيرا عن مقاميّ البياتي والحجاز في أنغام المردوم بغرب السودان. لقد أضفى هذا التفرد لرصيده وقتذاك نقاطا قلَّ وجودها بين مطربيّ هذه الحقبة؛ على صعيد آخر، نجد الوحيد، من أولئك المطربين، الذي استطاع إن ينفرد بلونيّة خاصة وحس ذاتيّ هو الراحل المقيم محمود عبدالعزيز. وكنت أظن أن صباحي يسير في نفس نهج التفرد اللونيّ بصباحيته دون الوقوع في التقليد والتكرار حتى يفوز بهذا الحسّ الذي نفتقده والمتمثل في روح التجديد وخلق الحداثة التي تفتقها حليّة المضامين الشعريّة الأصيلة. نعم، الأغنية السودانية تفتقد لدماء جديدة تنضح بروح عصرية لتسيّر عجلة التجديد والحداثة والعصرنة وتخرجها من مرضها ومحنتها الحاليّة لترتاد آفاقا عالميّة لتحظى بالتبجيل والثناء في منظومة الفن الحديث.
أراه لم يوفق في تقديم الأغاني لعدّة أسباب:
أولا: بسبب استعماله السلبي للميكرفون، فهو لا ينفكّ يحركه يمنا ويسارا بتردد وبلا انقطاع، وينسى في غمرته الغنائية أن وراء الميكرفون مهندس صوت ينبغي عليه أن يلتقط الإشارات كاملة لتصل إلى المستمع جليّة وواضحة. إن اتقان التعامل مع الميكروفون يعتبر من أبجديات العمل الاحترافي لمطرب بشعبيّة صباحي؛ والسؤال: هل أدركت رسالته المستمعين عبر الميكرفون - هذا السلاح الجبّار - بمصطلح محترفيّ الغناء؟
ثانيا: لم يتوحد صباحي ويصنع بوتقة متكاملة مع الفريق الموسيقي المصاحب بالبرنامج. نراه يسأل ويستفتى بناظريه ومؤشرا في اتجاه محمديّة: أه دوريّ ولا دوركم؟ وهذا يعزى لعامل "الفاسفود" (العمل على طريقة أبو سريع) في الإنتاج؛ فيبدو - جليّا وكالعادة - أنه لم تكن هناك أي بروفات - بالمعنى الدقيق للكلمة - حتى يندمج المطرب في التحاور السلس والتفاعل السهل مع الفرقة، فضلا عن حفظ النصوص وتجربتها وأدائها من قبل. أخفق صباحي في التناوب مع الفرقة الموسيقية في هذه الأغنية عدة مرّات وأدرك ذلك فأصابه شيء من التردد فصار يشير بيديه: أيغني أم ينتظر؟!
ثالثا: عندما أدّى صباحي الأغنيات المذكورة أعلاه، نجده اتبع المبالغة في التطريب والتقطيع واختلاس النظر في قراءة البخرة وتأخير المقاطع – الذي أخرجه عدّة مرّات من الوزن، وفي الآخر السنكبّة اللامحدودة حتى أجهد الأغنية أيما إجهاد ففقدت رونقها وحلاوتها المعهودة التي انطبعت في ذاكرتنا عبر الأصل المعروف؛ ومن ثمّ تلاشت وحداتها الغنائية فصارت بقايا أغنية أو قل فضيلات من وعاءها الأصليّ، فضلا عما لم نسمعه من حلاوة كلمها نسبة لسلبيّة التعامل مع الميكروفون والتخفي وراء الموسيقى بسبب الجهل بكلمات القصيدة: فمخارج الحروف ونطق الكلمات ونبرها لم يحظ باهتمام كبير من صباحي. حقيقة لم أفهم الكلمات التي تغنى بها بوضوح، اللهم إلا في بعض بداياتها بيد أن النهايات لم يدركها كما ينبغي. (راجع: قصيدة من حور الجنان)
من الضروري أن يقف المطرب معتز صباحي مع ذاته وقفة جادة وصريحة ويراجع تاريخه القريب ويرجع البصر كرتين ليرى هل من فطور! فإنني أول الذين يأملون أن يروه نجما ساطعا بين أنجم الغناء في السودان، وهو يمتلك ، بدون أدنى شك - جلّ المقدرات والآليات للوصول إلى هذه القمّة، ولكل مجتهد نصيب!
مع فائق أمنياتي لمعتز صباحي بمزيد من العطاء والنجاحات في مسيرته الفنيّة من محبّ لفنّه وصديق حادب على مصلحته.