أغنية (بدور القلعة) والكلمة التي لم يهتدِ إليها المغنون 

 


 

 

أغنية (بدور القلعة) من درر أغاني الحقيبة وقد وصل فيها أبو صلاح قمة شاعريته في فن الوصف الشعري الذي بلغ فيه شأواً عظيماً. يقول مطلع القصيدة:


العيون النوركنْ بجهرا

غير جمالكنْ مين السّهرا

يا بدور القلعة وجوهرا


والأصل في كلمة (بجهرا) أن تكتب "بجهرها" أي الذي يجهرها، والضمير يرجع للعيون.  وكتبت هاء الضمير ألفاً في (بجهرا) على طريقة النطق (السوداني) ومجاراة لقواعد الميزان الموسيقى للشعر (علم العَروض) حيث تكتب الكلمات كما تلفظ، لا كما في الخط الهجائي، وعلى ذات النسق كتبت كلمة (جوهرا) وهكذا الحال مع بقية كلمات الأغنية التي جاءت على هذه الشاكلة.

والمعنى أن جمال عيون تلك الفتاة قد أصاب عيون الشاعر بالعشى من شدة بريق ذلك الجمال، والجهر الإصابة بالعشى. نقول في كلامنا جهره بنوره إذا أعشاه أو أغشاه (أصابه بالغشاوة). وذلك يحدث في الواقع مثلاً إذا صُلّت عليك ضوء شديد فجأءة أو عندما تكون في دائرة شديدة الضوء ليلاً ثم تخرج فجأة خارج هذه الدائرة المضيئة فتحس لثواني أنك لا تكاد ترى شيئاً. وجهر فصيحة، يقال: جهره ضوء الشمس.

كذلك كلمة "السهرا" أصلها (الذي سهّرها) الضمير يعود إلى عيون الشاعر، والمعنى أن ما  منع عنه النوم ما هو إلا هيامه بجمال تلك العيون الفاتنة. وهذا الجمال الباهر هو ما أهّل تلك الحسناء أن تحوز، في نظر الشاعر، لقب بدر بدور حي القلعة بام درمان وجوهرة جواهره الفريدة.

والأغنية من تلحين وغناء مطرب الحقيبة الكبير (كرومة) ولكن للأسف لا يوجد تسجيل لها بصوته. والحقيقة أن أغاني كرومة المحفوظة صوتياً قليلة جدا مقارنة بالعدد الكبير من الأغاني التي لحنّها وغنّاها. وأقدم تسجيل محفوظ لهذه الأغنية يعود للفنان مبارك حسن بركات. ومن الذين شدوا بها أيضاً الفنان الشعبي خلف الله حمد. ويعد المطرب الكبير محمد الأمين أفضل من غنى هذا الأغنية بأسلوب الغناء الموسيقى الحديث.

والآن ندخل في موضوعنا، وهو الكلمة التي لم يهتدِ إليها كل المغنيين الذين أدوا الأغنية بعد كرومة (لا يوجد له تسجيل)، وترد الكلمة في المربع الثاني بعد المطلع، حيث تقول القصيدة بحسب النص المتوفر والمغنى والمطبوع ورقياً وإلكترونياً في كل المصادر:


عالي صدرك لخصرك برا

فيهو جوز رمان جلَّ البرا

الخَـطِيبــَة ورِدفـــك منبــرا

الشـــــعور البســــطل عنبـــــــرا


كلمة (برا) في قوله (لخصرك برا) من برا الشيء إذا رققّه ونحته، فصيحة، يقال: برا العود أو السهم أو القلم. وأما كلمة (البرا) في قوله (جلّ البرا) فهي من برا أي خَلقَ ومنها الباري وهو الخالق أي جلّ الباري الذي خلقها بهذا الجمال. وجوز الرمان كناية عن النهدين. والمعنى واضح. وهنا يوجد جناس (موسيقي) تام بين برا الأولى وبرا الثانية والجناس في البلاغة هو أن تأتي بكلمتين متحدتين في اللفظ مختلفتين في المعنى.

وأما الكلمة التي أخطأ المغنون في نطقها النطق الصحيح فهي كلمة (الخِطيوة) الواردة في بداية الشطر الثالث، فقد نطقها كل المغنيين خطأ (الخطِيبَة). الخطِيبة مؤنث خطيب (الجامع). هكذا نجدها مكتوبة في كل المصادر المطبوعة، وهكذا ينطقها كل المغنيين الذين الذين توجد لهم تسجيلات محفوظة: (مبارك حسن بركات، وخلف الله حمد، ومحمد الأمين) وكل الذين جاؤا من بعدهم. والخطيبة خطأ ناتج عن تصحيف، الخطيبة ليست الكلمة التي جادت بها قريحة الشاعر في رسم هذه الصورة البلاغية الفريدة من نوعها كما سنرى.

والظاهر أن المغنيين استعصت عليهم قراءة الكلمة الصحيحة فوجدوا كلمة (منبرا) أي منبرها، فتوقفوا عند المعنى الحرفي للمنبر، فأوحى إليهم المنبر بكلمة (الخَطِيبة) مؤنث خَطِيب. (خطيبة إيه يا عم!)، أنت بذلك قد أضعت على شاعرنا المفلق أبدع صورة رسمها شاعر بالكلمات في تاريخ الفن.

إن الكلمة الصحيحة والتي فطنّا إليها من أول قراءة لنص القصيدة، هي (خِطيوة) تصغير (خَطوة). نعم (خِطيوة) وما أدراك ما الخطيوة وعلاقتها بحركة الرِّدف في المشي والرقص! وإذا أردت أن تعرف سر العلاقة بين (الخطوة) والأرداف، فسأل مخترع (الكعب العالي). لقد أتي أبو صلاح بكلمة (منبرها) ليجسد بها الوظيفة التي يقوم بها الكعب العالي، وذلك لجامع العلو والإعلان في كل من المنبر والكعب العالي. الإعلان عن الحركة المموسقة المتبادلة بين الخطوة والرِّدف، فكأن الردف صار منبراً للإعلان عن تلك الحركة المموسقة. لله درك، يا أبا صلاح فهذه صورة لم يسبقك إليها شاعر (لا في عُربٍ ولا عجم).

ثم ينقلنا الشاعر مباشرة إلى صورة أخرى في الشطر الأخير من المربع وهي قوله: "الشعور البسطل عنبرا" أي عنبرها، والضمير يعود على الشعور جمع شَعَر، والمعنى أن عبق شَعرها (ديسها) الفواح قد أسكر الشاعر والحضور. فربما أعطت الشاعر (شَبّالاً) فانسطل.

والشبّال من العادات الملازمة للّعب (حفلات الرقص والغناء) في ذلك الزمان. وقد أدركنا عادة الشبال في منطقتنا ونحن في سن المراهقة ولا تزال ممارسة في بعض نواحي كردفان ومناطق أخرى على النيل والبوادي. والشبّال هو حركة تأتي بها الفتاة في نهاية الرقصة إذ تتجه نحو الشاب الذي خطف قلبها ثم تميل وتقذف بشعرها بكل ثقلها على وجهه في حركة خاطفة تنخطف معها القلوب. والشاب الذي يفوز بشبّال من حسناء يحس كأنه أبو زيد الهلالي، وتظل هذه اللحظة محفورة في وجدانه أبد الدهر. ويستمر الشاعر في وصف شعر تلك الحسناء في المربع التالي بقوله:


الصدير أعطافك فتّرا

والنهيد باع فينا واشترى

الوضيب أقدامك ستّرا

لقطي بو قلوبنا البعثرا


الأعطاف هي الجوانب أو الجنوب جمع جنب "وعلى جنوبهم". فتّرا أي فترها والضمير يعود على الأعطاف التي فترها الصدير والذي لعب بألبابهم (باع فيهم واشترى). ومعنى البيت واضح. وأما الوضيب فهو الشَّعر وقد وردت هذه الكلمة بهذا المعنى أكثر من مرة في غناء (الحقيبة) واستعملها أبو صلاح في أكثر من قصيدة. غير أن المغنيين استبدلوا هنا كلمة الوضيب بالشَّعر لأن الأخيرة مفهومة وهي المتداولة في لغة الكلام.

وشعر هذه الحسناء كما يقول الشاعر يكاد يلامس قدميها من طوله. وهي حين تنشر هذا الشعر في دارة القرص في كل الاتجاهات، كأنها تصطاد به قلوب العشاق المبعثرة.

وكان أبو صلاح قد استعمل أيضا كلمة (وضيب) بمعنى شَعر في رائعته (جوهر صدر المحافل) حيث يقول:

وضيبلا زميلا، تقوده/ يتاكي القامة يميلا

أي وضيبها زميلها، تقوده، يتاكي القامة يميلها. والمعنى أن شعرها من طوله صار بالنسبة إليها كالرفيق، يتبعها، وهو يكاد من كثافته وطوله أن يميل بقامتها الرشيقة كما تميل أوراق البان بفرعه.



ثم يصف الشاعر بعض أدوات الزينة التي أضفت على تلك الحسناء مزيداً من الجمال وهي (الرِّشيم والرَّشمة)، يقول بالمربع:


جارحه صالح كلما يحضرا

وفي مدينة الجوف ساكنة الضرا

الرشيم والرشمة الخَدّرا

ذي فريع في موية مُنْضرا


الضمير في (جارحها) يعود على الحسناء والمعنى أنها تسلب الشاعر لبّه في كل حفل يكون حاضرا فيه. والضرا معروف وأصله في الفصحى الضراء، وهو في الثقافة السودانية ساحة تتوسط بيوت عدد من الجيران بمثابة المنتدى يجتمعون فيها كل يوم لتناول وجبة العشاء بخاصة معاً وللمسامرة.

وأما (مدينة الجوف) فيقصد بها الفؤاد أي أن هذه الحسناء ملكت قلبه وتربعت في سويداء فؤاده. فهو قد شبه الفؤاد بالضراء كون أن كل منهما يحتل منطقة القلب أي الوسط، وقلب كل شيء وسطه ومركزه.

 وأما الرشيم تصغير رشم وهو في الفصحى وشم أو علامة سوداء في الوجه. والرشيم في اللهجة السودانية فصد صغير (غير الشلوخ) في أحد خدي الفتاة له شكل درب الطير ويأخذ لون الشفة (الشلوفة) المدقوقة فهو دائماً أخدر (أخضر) اللون. والأخضر هنا في اللهجة السودنية والفصحى يعني الأسود. وقد استعمل أبو صلاح كلمة الرشيم والرشمة هنا في معنى واحد. وذلك بديل قوله الرشمة الخضراء (الخَدّرة) جعلها مؤنث رشم.

ويصف شاعر الحقيبة محمد بشير عتيق الذي جاء بعد أبو صلاح هذا الرشيم بقوله: "الرشيم الأخدر في الخديد الأنضر/ هم سبب آلامي".

ومن ألقاب الرشيم (النقرابي). يقول عبد الرحمن الريح، آخر شعراء أغنية الحقيبة، في قصيدة (الشادن الكاتلني ريدو) يقول عن هذا الرشيم: "فاق السلاح وكسر حديدو/ نقرابي في صفحة جديدو".

كذلك يصف الطنباري الكردفاني الجامعي هذا الرشيم النقرابي بقوله: "النقرابي العامل حرف دو/ دا مخلوق معاك ولا مجروح". وذلك في أغنية من أغاني الطنبور (الكَرِيْر) كانت رائجة أيام طفولتنا بشمال شرق كردفان.

هذا، ومن معاني (الرشمة) في الثقافة السودانية (حلق) أو سلسل من الذهب موصول بالزُّمام. ويسمى الزمام المشغول بحلية من الذهب، "الزمام أبو رشمة"، وقد ورد وصفه بذلك في إحدى أغنيات المطرب عبد الرحمن عبد الله.

وبالعودة إلى شاعرنا أبي صلاح ، نقول إنه شبّه شكل الرشيم أو الرشمة في صفحة الخد بالفريع الصغير المرسوم على وجه المُنْضرة. ويسمى مثل هذا التشبيه في البلاغة العربية بالتشبيه التمثيلي أي تشبيه صورة بصورة. والمُنْضرة في الأصل المِنْظَرة بالظاء، من النَظر والمَنظر. والمُنضرة في اللهجة السودانية هي المِرآة (المراية). وكانت المُنضرة هي الكلمة السائدة حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وحلت محلها الآن كلمة (مراية). والمرآة من الفعل رأى.


مناسبة القصيدة:

الثابت بنص القصيدة أن المناسبة التي أوحت للشاعر بالقصيدة هي حفل عرس بحي القلعة العتيق بأم درمان وهو حي مجاور لحي ود نوباوي. واسم العريس (عبد الرحمن) وقد خلد الشاعر اسمه بالبيت الأخير من القصيدة في قوله:


عبد الرحمن دمت مظفرا

في نعيم وحظوظ متوفره


كذلك يشير الشاعر في القصيدة إلى أسماء بعض الفنانين الذين شاركوا في الحفل، منهم الحاج محمد أحمد سرور (أبو الحاج) ووهبة عازف الأكورديون المعروف، جاء ذلك بالمربع قبل الخير من القصيدة حيث يقول:


حفلة يا أبو الحاج أتذكرا

ورِقة الصـــفارة اتفكــــــرا

وهبة بمزيكته اتحكرا

كم طرب أفكارنا واسكرا


وكان المطرب الأساس في الحفل (كرومة). وأما ما يقال عن أن الشاعر أبو صلاح كتب القصيدة في ليلة الحفل ذاتها ولحنها (كرومة) وغناها في تلك الليلة، فهو قول فيه مبالغة وتهويل. فبعض الناس، في مختلف الأزمان، لهم ولع بنسج مثل هذه المبالغات حول عباقرة الفن والأدب لإضفاء مزيد من الانبهار بانجازاتهم، ولكن مثل هذه المبالغات لا تزيدهم شيئاً فهم ليسوا في حاجة إليها. والقصيدة نفسها تنفي أن تكون قد كتبت في ليلة العرس، ومن ذلك قول الشاعر: "حفلة يا أبو الحاج اتذكرها".

ومثل ذلك يقال في الرد على من يزعم أن الفتاة التي (قطَع) فيها أبو صلاح الأغنية تسمي (بدور) أو (جواهر). فهذه مجرد كلمات تدل فقط على المعاني التي استدعاها الشاعر في وصف تلك الفتاة الحسناء ولا علاقة لهذه الأوصاف باسم الفتاة.


عبد المنعم عجب الفَيا

الاثنين 17 مايو 2021


abusara21@gmail.com

 

آراء