الحركة الإسلامية السودانية “مشروع لم يكتمل بعد”

 


 

 



بسم الله الرحمن الرحيم


تمهيد ضروري: تجديد أفق مشروع الإصلاح الحركي:-
تأتي هذه "الرسالة" خوض في خطاب تجديد مفهوم ولاية الحركات الإسلامية في معانها العام، بما يمكنها من حمل برامج وهموم مشروع الإصلاح الإسلامي العام والشامل والعميق، ذلك المشروع الذي أوضحنا جوانب من خطاباته الثقافية والحداثية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وخطاب المرأة والتصوف ... الخ، في جملة الرسائل من هذه السلسلة والمجموعة. والتي انتهينا فيها إلى توضيح أبعاد الرؤية الإصلاحية، في تجلياتها التجديدية والفكرية الحداثوية والتصوفية، وإصلاحيتها الاجتماعية والسياسية وعدالتها الاجتماعية ومنظومتها الأخلاقية المنشودة.
ومن فان اهتمام هذه "الورقة " ينحصر في الجانب المتعلق بتكييف "الحامل" لتلك الرؤى والمشرعات الإصلاحية، والنفاذ بها من مهد تصوراتها النظرية والفلسفية إلى تجلياته عملياتها الإصلاحية المتزاحمة، بوصف "الحركة" هي العماد الحامل "المحتمل" وربما غيرها من الحركات الإصلاحية الدينية، لحمل لواء مشروع الإصلاح النهضوي في السودان أو في أياً من الأقطار الإسلامية، وإمكانية تحقيق ذلك بالرؤية العالمة والعمل الدؤوب والخطة المقدرة والأجل المرسوم والسياسات الهادية والبرامج الملائمة، وشرط ذلك تجديد الحركة لرؤيتها لنفسها من كونها حزباً سياسياً أو تنظيماً لجماعة خاصة إلى كونها ولاية لمجتمع واسع بكل مكوناته الثقافية وتناقضاته الاجتماعية وتحدياته الاقتصادية والسياسية...الخ.
كون إن الحركات الإسلامية اليوم، مدعوة - بأكثر مما كانت مدعوة من قبل- لإصلاح أوضاع واتجاهات التخلف والجمود في الحضارة الإسلامية المتمثلة في: حالة الانقسام القومي والاجتماعي والقبلي والعرقي والثقافي، من ناحية ومواجهة تكثف عوامل العلمنة والتغريب والتحديث والارتهان للأجنبي، التي تغزيها "نضالات" النخب العلمانية وتمدها يد العولمة بالمعونة المادية من الناحية الأخرى، فان الحركات الإسلامية في السودان كغيرها من الحركات في العالم الإسلامي، ستكون مدعوة إلى مراجعة ذاتها وخاصتها بإعادة تعريف نفسها وتحديد آفاق ومجالات اشتغالها الحضارية فضلاً عن تعيين أولويات ولايتها.
والحق انه إذا كانت الدواعي الحضارية للإصلاح مسلم بها، إلا إنها في ذات الوقت ليست مسألة عادية أو عابرة تستدعي مجرد انتظار المخلص التاريخي الملهم أو مجرد إبداء الأسف والحزن فقط [1]، بل هي مسئولية عظيمة، بل هي من أكثر مسؤوليات الكتاب والمفكرين والناشطين الإسلاميين المعاصرين حساسية وأهمية. للدعوة والفعل الناجز لإصلاح أحوال المجتمعات الإسلامية، على أساس من رابطة دينية عقائدية ومعنوية متعالية وكذا علاقات تنظيمية متجاوزة للرابطة القومية ونظمها السياسية، أساسها الإيمان بهدى الرؤية الإسلامية، في مجتمعات تتمسك بالدين وتعتبره عامل إثارة وإيقاظ هام، يوفر المناخ الفكري والأخلاقي المناسب، الذي يؤسس لنهضة الحضارة الإسلامية مرة أخرى.
بيد إن هذه "الرسالة" – وبعد أن ناقشنا مجالات الإصلاح في رسائل سابقة- تعنى حصراً بضرورات البحث عن جوانب الأصالة والتجديد في فكر الحركة التنظيمي، كضرورة تتجلى في كل يوم، وفي كل تحول يطرأ على الحياة الاجتماعية، مما يجعلها ضرورة ملحة، إذا ما أُريد الخلاص من حالة التبعية للحضارة الغربية المادية الدنيوية، والفكاك من آثار التقاليد والعادات والأعراف الجامدة المعوقة للإصلاح والنهضة، ذلك إنه ومن المحتمل وبفعل رياح التغيير الفكري والأخلاقي والسياسي، وبفعل آثار مدارس الفكر والفلسفة ما بعد حداثوية المعاصرة.
وبالتبعية تكون من مقاصد "الرسالة" أيضاً هو السعي لتجاوز أوضاع الاضطراب والانقسام والاختصام، إذا ما أُريد تجاوز حالة الانقسام والتشرذم التي تعُم ساحة العمل الإسلامي العام في السودان وفي العالم الإسلامي ككل، وبالخصوص تيار الحركة الإسلامية المخصوص بهذا الاسم، وذلك بفعل الأثر السالب للانقسامات وللاختلافات الداخلية المتلاحقة في الحياة السودانية، مع ضغط الإحساس "المر" بإخفاق تجربة الحكم السياسي للحركة في السودان وتراجع نظيراتها في العالم الإسلامية بعد فترة امل الثورات العربية التي لم تدم طويلاً للجهل أو لحسن الظن بأصول النظام الدولي والتنظيم القطري للعالم الإسلامي، مما يجعل الكثير من القناعات بأصول الرؤية الإسلامية التي تنظم الحياة الاجتماعية العامة تضيع، ومن ثم تفقد الحياة المعاصرة ابسط ميل للتفاعل معها، لعامل الابتعاد الطويل من قبل عامة المسلمين في السودان وخاصتهم في صف الحركة، عن فقه التنظيم والولاية في الإسلام قروناً كثيرة، مما كان سبباً في جعل الإسلام نفسه بالنسبة للكثيرين منهم فكراً غامضاً ومبهماً، فقد كان هذا وباستمرار الداعي الأخلاقي المتجدد الذي يدفعنا لإنجاز "رسالة" في مثل هذه الأهمية.
أما الإشكالية التي تطرحها هذه "الورقة " وتسعي للإجابة عليها، فهي الإشكالية التي تنهض عليها الأدبيات المطروحة في الفكر السياسي والتنظيمي للحركات الإسلامية "الحديثة" عموماً، والحركة الإسلامية السودانية خصوصاً، اعني إشكالية العلاقة بين الإسلام والدولة القومية، من خلال أطروحتها القائمة على المزاوجة بين الفكر الإسلامي والآخر الغربي الحديث، بغرض تجديد الأول وللحضور الكثيف للثاني في الواقع المعاصر، ولعل هذا الموقف المعرفي والعملي، أعني "القراءة الليبرالية" للسياسة الإسلامية لدي الحركات الإسلامية، راجع بدرجة كبيرة إلى إبراز المفهوم الليبرالي لمفهوم الدولة الحديثة، لمسألة دور الدستور والقانون والمؤسسات والحريات العامة، أي راجع لأهمية دور الدولة الحديثة السياسي، فربما كان ذلك هو الدافع للمزاوجة بين المفاهيم الإسلامية والمفاهيم الليبرالية في السياسة، حتى وسمت الحركات بأنها حركات "حديثة"، في مقابل الحركات الدينية الأخرى التقليدية، تم ذلك على المستوي العلمي من خلال توظيف منهج أصول الفقه، ولعل ذلك يفسر سر اشتهاره في أوساط الإسلاميين خاصة.
هذا الطرح يقتضي ابتداءً مراجعة الفكر الإداري والمؤسسي داخل الحركة الإسلامية السودانية، بالتمهيد له وقبل كل شيء بدراسة المنظور المنهجي الذي تنتج من خلاله الحركة الإسلامية رؤيتها وفكرها التجديدي المراد تحريكه في عالم الواقع الاجتماعي، بوصفه أي المنظور المنهجي هو الأداة المنهجية التي ترشِّد فكرها السياسي والاجتماعي والاقتصادي...الخ. والحق انه وعند التدقيق فإننا نجد إن المنهجية "الأصولية" المعروفة من بين جملة العلوم الإسلامية، كانت هي الأداة النظرية الحاضرة والموظفة من قبل عقل الحركة "الأصولي" بالأساس عند النظر في الأحوال الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، والبني والأطر المؤسسية للمجتمع السوداني المراد تجديد أنماط حياته...الخ.        كونها الرؤية المستندة على منهج أصول الفقه، كمنهج مفضل من بين مناهج الثقافة الإسلامية- عند الحركات الإسلامية الحديثة -عند النظر في النصوص الشرعية على اعتبار مقاصدها، في مقابل الواقع الظرفي وتغيراته، ولعل ذلك الاعتبار للمنهج الأصولي يرجع للحيثيات المعرفية التالية.
أولاً: قدرتها على مواجهة قيم التحديث والعلمنة الغربية كونها منهجية أصيلة، لما كانت هي منهجية إسلامية في أصول الفقه ومقاصد الشريعة، تنطلق من قاعدة أصولية مفادها أن النصوص الشرعية محدودة في طبيعتها، بينما الحوادث والنوازل في الحياة الاجتماعية غير محدودة، وأمام هذا الوضع فلا بد من ملاحقة تلك التغيرات والوقائع، من خلال بناء القواعد والمقاصد الأصولية الشرعية الكلية، التي تكون لها القدرة على الإجابة على التساؤلات غير المتناهية لوقائع الحياة الاجتماعية المتغيرة، "مواجهة الحداثة".

ثانياً: قدرتها على مواجهة حالة الجمود والتقليد في الفكر الإسلامي التراثي، كون إن فقه المقاصد الأصولي، يعنى بالمقصد وتأويل النصوص الشرعية، بناءً على مقتضيات الزمان والمكان دون التمسك الحرفي بممارسة تاريخية "سلفية" سابقة، "مواجهة التقليد" .

ثالثاً: قيمتها العملية المتعلقة بفاعلية فعلها الاجتماعي، كون إن فقه المصالح ومقاصد الشريعة يفتح الباب واسعاً للمعاملات المجتمعية ويربطها بفقه المصالح، طالما إن المعاملات السياسة وطبيعة النظام السياسي، ونحو ذلك من مسائل، هي في التحليل النهائي مسائل مصلحة، أي خاضعة لفقه المصالح المرسلة ولمقاصد الشريعة، فإن الإفادة من منهج المقاصد وأصول الفقه، كآلة للنظر في مثل هذه القضايا الحياتية أمر مأمون العواقب من الناحية الشرعية، "قيمة أخلاقية وعملية".

faadil1973@msn.com

 

آراء