الدين والهوية الثقافية السودانية (3)

 


 

 


https://www.facebook.com/muhammad.almajzoub

حوامل الثقافية الاجتماعية ووسائطها: قلنا إن وظيفة بناء الفطرة السوية والتنشئة الدينية والتزكية الاجتماعية وترقية الذوق الإبداعي, هي مقاصد الفعل الثقافي الأساسي, وهو أمر معترف به من مختلف الأنظمة الثقافية والاجتماعية إذ أن أهمية وظيفة التزكية الاجتماعية عموماً، هي تأمين انتقال الثقافة المعينة "الثقافة الإسلامية في حالتنا هذه" من جيل إلى آخر, وفي هذا السياق ينبغي التمييز بين القيم الثقافية الأساسية التي تضمنتها هداية الكتاب وسنته، وبين العادات والتقاليد المحلية التي تمليها الظروف الاجتماعية عبر الزمان, مما يوجب الاعتماد على مقاصد الوحي المنـزل في تحديد قوام فلسفتنا الثقافية، فضلاً عن التراثيات الإسلامية والإنسانية بصورة عامة. ومن ثم فان المشكلة لا تكمن في البرهان على مشروعية نقل الثقافة وإنما تكون التساؤلات عن ماهية ومكسبات ونواقل الثقافية ذاتها؟، اعني حواملها مثل: النظام الأسري والنظام التعليمي ونظام العبادة...الخ, باعتبار إن آليات المشروع الثقافي لم تعد فحسب محصورة في دورية فكرية ولا تنظيمات حزبية، ولا دور نشر أو منتديات فكرية، ولا قنوات بث إذاعي فضائي تعرف انتشارا كبيراً، وتحظي بإقبال جماهيري واسع, فحسب. وإنما تفاعل لكل هكذا وسائط وأساليب, فضلاً عن الأساليب المقبولة لحماية الثقافة والدافع عنها كآلية الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ونظام العقوبات الذي يقرره النظام القضائي, مما يجعلها جميعاً موضوعاً لأدوات الإصلاح الثقافي والاجتماعي, إذا ما تعلق الأمر بالإصلاح التزكوي وسؤال الهوية المنشودة.
بيد انه ومع انتشار أسباب التقدم المادي وأدوات الحداثة الثقافية، فان الحياة الثقافية السودانية تزداد تعقيداً وكأن هذا التلازم بين التقدم والتعقيد في الحياة قاعدة عامة هي من طبيعة الحياة المعاصرة نفسها، إلى حد تحولها إلى كبرى مشكلاتها. وهو أمر واقع لامناص منه فمع تعقيدات الحياة المعاصرة تزداد المسالة الثقافية تعقيداً، إذ تنعكس هذه التعقيدات على مسارات الإصلاح الثقافي فتجعل منها عملية متشعبة المشارب والمجالات لا ينحصر همها في التعليم والإعلام والأسرة فحسب, وإنما تتعداهم إلى جميع مجالات الحياة الاجتماعية، حتى لا يبقي قطاع من قطاعات المجتمع إلا ويقوم بدور ثقافي ما، ولذلك فلابد وان نتحدث عن التلازم بين دور الإعلام والنادي والسوق والمصنع والمتجر، فضلاً عن الأسرة والمؤسسات الثقافية والدعوية والمسجد، في إشاعة الهوية الثقافية, كما نتحدث عن المجتمع المثقف, أي المجتمع الذي يشارك في جميع الناس في العملية الثقافية من خلال إلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ودلالة ذلك أن وسائط الإصلاح الثقافي لها أنواع متعددة، منها الأسرة والمسجد والمجتمع إلى جانب المؤسسات الثقافية النظامية من المدارس والجامعات, وما ذلك إلا لأن الإصلاح الثقافي ليس نظاماً قائماً بذاته، وإنما هي نظام ذو علاقة وثيقة بالأوضاع المؤسساتية: القيمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية...الخ, في المجتمع الذي تخدمه سياسات الإصلاح الثقافي. فكيف يكون ذلك؟.
أولاً: الثقافة ومؤسسة الزوجية. تعتبر مؤسسة الزوجية "الأسرة" هي الإطار الاجتماعي الأكثر أهمية في إكساب عناصر الثقافة، وأساس ذلك إن نظام "الزوجية" هو الطريقة التي ابتدع الله تعالى بها خلق الإنسان، وبالتالي فإنها "المؤسسة" الإنسانية الأقدم لغرس وإكساب الثقافة في المجتمع, وهو أمر لا سبيل لأحد إلى إنكاره إذ انه ليس هناك ثمة برهان قاطع على انه كانت هناك فترة زمنية قد سبقت في الحياة الإنسانية عاش الفرد خلالها حالة من العزلة والحياة الفردية، ثم بعد ذلك جاءت مرحلة الحياة الاجتماعية التي تعد تالية في الترتيب الزمني للحياة الفردية.
ودلالة ذلك إن طبيعة نظام الأسرة وأهدافها, يجب أن تكون مشكلة من الوعي الثقافي العام لمجتمع الوالدين, باعتبارها المؤسسة المسئولة عن بناء الثقافة الأساسية للأبناء، إذ هي المؤسسة الوحيدة التي ترافق الأبناء منذ الأيام الأولى لحياتهم أيام مرحلة بناء شخصيتهم، فتغرس فيهم الإيمان الحقيقي بالله تعالى في نفوسهم الناشئة، وحبه والخضوع له والخوف منه والالتجاء إليه في كل أمر من الأمور, يكون هو أول مراحل بناء الشخصية القائمة على أساس الرؤية الإسلامية النهائية للوجود. ودلالة ذلك إن نظام الزوجية, لا بد له وأن يتماهي مع النظام الثقافي الإسلامي الكلي, ومكملاً في ذات الوقت لمكونات الثقافة للولايات الاجتماعية الاخري, مثل: الولاية السياسية العامة وولاية افرد على نفسه, وولاية المجتمع، لعامل الالتقاء في مصدر سائر ولايات الأمر الاجتماعي في الحياة الإنسانية، كونها جميعاً من ولاية الله تعالى، أما تجلياتها فولايات بشرية، ففي حالة الولاية السياسية, فإنها وولاية من يختاره المؤمنين خليفة للنبي الكريم يرعى فيهم أوامر الله المنزلة، أو ولاية الزوجية عندما يختار الأزواج بعضهم البعض, أو حالة ولاية الفرد على نفسه عندما يختار طواعية الإيمان على الكفران، يقول تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا {الأحزاب/ 6}، ومن هذا المعاني الأخيرة تظهر الصلة والقربى الدلالة بين مفهوم الولاية "الفردية" و"الزوجية" و"الأرحام" و"المجتمع" وبوصفها ولايات قائمة على معني ثقافة الإيمان، متجاوزة في ذلك لأشكال القرابات الأخرى للعلاقات الإنسانية في منظوراتها الثقافية الوضعية، ليسود عندئذ نوع من الانسجام الثقافي العام, بين سائر الولايات المكونة للمجتمع ككل, وتصبح الولاية الفردية والعائلية والسياسية العامة, امتثالاً للإرادة الإلهية أو محاولة للتقرب منها، وتغدو الطاعة كنظام اجتماعي في كل واجباً دينياً في كل المستويات والتشكلات.
فلا أمن، ولا تنظيم، ولا تدبير، ولا إنماء، ولا قوامة على الزوجية والأهل، ولا على ولاية الأمة ولا على صعيد الفرد على نفسه، إلا بحسب ما تقتضي الرؤية الدينية في الزاوية الثقافية، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فردوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {النساء/59}, ويقول: وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ {المائدة/92}, فالآيات تحدد المصدر النهائي المطلق للولاية في المجتمع البشري، مما يعني أن الولاية العائلية العامة كما الولاية السياسية والاجتماعية جزء لا يتجزأ من الولاية الدينية، لكون طريقة عقد الزواج ومقاصده مما تدل عليه تعاليم الرسالة المنزلة وأوامرها, وهكذا فبحسب نظام الولاية المحدد في الدين لا في غيره، يكون الرشد في جميع مناحي الحياة وتشكيلاتها الأممية والأهلية والسياسية والاجتماعية ...الخ.
والحق إن ولاية مؤسسة الزوجية, تسدى خدمات للمجتمع عكس الذاتية والمصالح الخاصة، فهي ترسخ قيم الأمة ومبادئها وتطلعاتها، وتمد أسس الوعي الإنساني القادم للجيل الجديد، ففوق إنها كياناً تعاقدياً، يؤسسه عقد الزواج القائم على الشراكة في الحياة، فهي أيضاً مرتبطة بالثقافة، والمحبة والسكن والمودة والرحمة والخدمات المتبادلة والاهتمام بالكل، والوظيفة الأولي بالنسبة للأهل هي العمل على تحويل النزوات الغريزية العابرة والرغبة الجنسية المتجددة إلى مغزى ثقافي وأخلاقي، فالتقوى ترتقي بالإنسان فوق المصلحة الأنانية، والميثاق الأخلاقي أي "عقد الزواج" يرتقي بالزوجين خارج نزواتهم اللحظية، كما إن النزوع نحو التملك الغريزي في الإنسان يحول إلى ملكية أسرية تعمل في مصلحة الكل، أما الأبناء فيصبحون ثمرةً لهذه الشراكة الثقافية المتكاملة.
وعلى هذا فإن وظائف "الزوجية" ليست مقتصرة على إنجاب الأبناء فحسب، ذلك إن الاقتصار عليها يمحو الفوارق الخلقية بين الإنسان والحيوان, بل إن من أوجب واجبات "الزوجية" أن تعدّ الأبناء للمشاركة في حياة الأمة، وتعرفهم على ثقافتها وقيمها وعاداتها, كما تمدّهم بالوسائل التي تهيئ لهم تكوين ذواتهم داخل الأمة، ذلك إن الزوجية هي أول خلية في بناء نظام الأمة وهي ابسط وسط تتحقق فيه مظاهر الحياة الطيبة من امتزاج للعقول وتفاعل للوجدانيات وتباين في المقاصد وتنوع في الأعمال, وهي أيضاً تعاقد له طبيعة أخلاقية, لان المبدأ الأساسي في تكوينها يرجع في نظرنا لا إلى وظيفتها الجنسية والعاطفية فحسب, بل إلى وظيفتها الأخلاقية والثقافية والتربوية، يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ {لقمان 13/ 19}, وفي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "مُرُوا أولادَكُم بالصلاة وهم أبناءُ سَبْعِ سنين، واضرِبُوهم عليها وهم أبناءُ عَشْر، وفَرِّقُوا بينهم في المَضاجِع".
والمعني أن تراعى الأسرة تعويد الأبناء على الصلاة، وترغيبهم في حفظ القرآن، ودراسة العلوم والتدبر في الكون الطبيعي، وتنمي القدرات والمواهب الفطرية عندهم، وترغيبهم في التردُّد على المساجد ودور العلم من الرياض إلى المدارس إلى الجامعات، لإبعادهم عن أماكن اللهو والفجور، والصُّحبة الفاسدة. عن عائشة (رض) قالت: دخلتْ على امرأة -ومعها ابنتان لها- تسأل، فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فقسمتْها بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئًا، ثم قامتْ فخرجتْ، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرتُه، فقال: "من ابتُلِي من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهنَّ، كُنَّ له سِتْرًا من النار"{البخاري، ومسلم، والترمذي}. ودلالة ذلك إن الآباء مسئولون عن تزكية فطرة الابناء، بوصفهم مسئولون عن عمليات إكساب الثقافة الدينية التي يتعلم الابناء من خلالها النظرة إلى العالم ولنفسه ويكتسب خبرات الثقافة، وقواعدها في صورة تؤهله فيما بعد لمزيد من الاكتساب، وتمكّنه من المشاركة التفاعلية مع غيره من أفراد الأمة, يقول تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {البقرة /233}. والمعني إن "للزوجية" مقاصد حيوية مسئولة عن رعايتها والقيام بها، فالزوجية تنتج الأبناء، وتمدّهم بالبيئة الصالحة لتحقق حاجاتهم البيولوجية والاجتماعية.
والمعني إن الآباء يساهمون في خلق "الابن" الصالح الحامل للمسؤولية، الجاهز للمشاركة في بناء نظام الأمة الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ...الخ، ومن هنا تكون الدعوة لأن تبنى التزكية على أساس الأخلاق القرآنية وتنشئة الأبناء على تقبل معاني الإيمان والتقوى والتكافل والتوحد ونبذ ثقافة الفسوق والأنانية الفردية والانقسام، من هنا تلعب مؤسسة "الأسرة" دور كبير في إكساب الهوية الثقافية والتزكية وغرس مبادئ الثقافة الفاضلة في الأبناء . والمعني إن الأبوين الراشدين هما من يبذلان جهودهما الجبارة لتزكية الأبناء أزكي تزكية، ليكونوا ذرية صالحة، تأتمر بأوامر الله، أما إذا ترك الزوجان الأبناء دون تعهد ولا تزكية سليمة، فإنهم يكونون نقمة لا نعمة, وتعاون الزوجين في التزكية يقتضي تعهُّد الأبناء بالرعاية، وقضاء حوائجهم من غير تقتير ولا إسراف، ودون تفرقة أو تفضيل لأحدهم عن الآخر، فيكون العدل بينهم في الطعام والشراب والثياب، بل وفي النظرة والبسمة والقُبلة كذلك، ولا يجوز تفضيل البنين على البنات أو العكس، بل يجب المساواة بين الجميع في كل شيء حتى في الهدية. فقد جاء بشير بن سعد الخزرجي ومعه ابنه النعمان (رض) إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله. إني أُشْهِدُك أنِّي قد نَحَلْتُ النعمان كذا وكذا، فقال عليه الصلاة والسلام: أَكُلَّ ولدك نَحَلْتَ؟ قال: لا. قال: فأَشْهِدْ غيري. ثم قال: أليس يسرُّك أن يكونوا في البرِّ سواءً؟. قال: بلى، قال: فلا إذًا" {مسلم والنسائي وابن ماجه}.


بيد إن عبء التزكية يجب أن يتحمله الزوجان معًا، فلا يجوز للأب أن يترك أبناءه دون رعاية، بل يجب عليه أن يجلس معهم جلسات يومية، يتعرف أخبارهم، ويستمع إلى ما فعلوه في يومهم، ثم يوجههم ويرشدهم إن أخطئوا، ويشجعهم إن أصابوا، حينئذ تسود روح التفاهم والتعاون بين أفراد الأسرة، فيأتمر الأبناء بنصائح الآباء، ويحرصون على إرضائهم، فيسهل على الآباء إرشادهم، وإصلاح السيئ من أعمالهم, ويجب على الزوجين أن يبذلا ما في وسعهما، ويتعاونا لتنشئة الأبناء على الصلاح والتقى، فإذا ما أهمل الولد منذ طفولته دون تزكية سليمة، صعب تقويمه في كِبَرِه، فالولد يتطبَّع بما نشأ عليه. قال عليه الصلاة والسلام: "أكرموا أولادكم، وأحسنوا أدبهم" {ابن ماجه}. وان لا يجد لنفسه من الأعذار ما يشغله عن وله باعتبار إنه يكدح بالنهار، ليوفِّر لأهله حياة طيبة، وقد يصل الليل بالنهار، فلا يبقى إلا وقت يسير يكون من نصيب نومه، وانه يخرج لعمله في الصباح قبل أن يستيقظ الأبناء، ويعود في المساء بعد أن يناموا، فلا يراهم إلا في أيام العطلات، بل وقد يسافر ويمضي السنوات بعيدًا عنهم، وهذا مما ينبغي أن يراجع الآباء فيه أنفسهم، لأثره السيئ على تزكية الأبناء. والواقع إن أفضل طريق لتثقيف الأبناء هي مصاحبتهم ومراقبتهم، فإن ذلك من دون شك مما يجد فيه الابن صورة جديدة عن أبويه فيها كل خصائصهما، ومميزاتهما وانطباعاتهما, وعلى الآباء من ثم أن يتركوا كثرة الأعمال ومجالس اللهو ويعكفوا على مراقبة أبنائهم حتى لا يدب فيهم التسيب والانحلال، لما له من الأثر الذاتي والتكوين النفسي في تقويم سلوك الأفراد وبعث الحياة، والطمأنينة في نفوس الأبناء.
بعبارة أخري, إن مهمة تعاهد الآباء لأبنائهم بالعطف والحنان، والحدب عليهم، والرأفة بهم حفظاً وصيانةً لهم من الكآبة والقلق ذلك إن حرمان الأبناء من أبيه يثير فيه كآبة وقلقاً مقرونين بشعور الإثم والضغينة، ومزاجاً عاتياً متمرداً، وخوراً في النفس، وفقداناً لحس العطف العائلي، فالأبناء المنكوبون بحرمانهم من آبائهم ينزعون إلى البحث في عالم الخيال عن شيء يستعيضون به عما فقدوه في عالم الحقيقة، كما إن انفصال الأبناء عن والديهم قد يؤدي إلى ظهور بعض المعايب كصعوبة النطق، كما حدث مع موسي عليه السلام, يقول تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ {القصص 12/13}. وهكذا إن على "الآباء" يقع قسط كبير من واجب التزكية الخلقية والوجدانية والدينية في جميع مراحل الطفولة، ذلك إن فترة الطفولة تحتاج إلى مزيد من العناية والإمداد بجميع الوسائل التي تؤدي إلى نموه الجسمي والنفسي، ذلك إن ما يواجهه الأبناء من مؤثرات في سنّهم المبكرة يستند إلى "الآباء" فإنهم العامل الرئيسي لحياتهم، والمصدر الأول لخبراتهم، كما أنها المظهر الأصيل لاستقرارهم، وعلى هذا فاستقرار شخصية الأبناء وارتقائهم يعتمد كل الاعتماد على ما يسود "الزوجية" من علاقات مختلفة كماً ونوعاً, فالكثير من قيم الأولاد الدينية والخلقية إنما تنمو في محيط العائلة.
وتتلازم مع مهمة تزكية الأبناء, مهمة زرع الشعور بالمسؤولية, باعتبارها توفر الاستقرار النفسي للإنسان وتحسسه بقيمته ودوره في الحياة مما يجعل منه مصدراً للعطاء. فالأبناء يحتاجون في حياتهم إلى الشعور بالمسؤولية، حتى يتحملون مسؤوليتهم بدلاً من أن يحاولوا الهروب منها. وبهذا المعني فإن كل أزواج يستطيعون أن يجعلوا من بيتهم مدرسة خاصة يتعلم فيها الأبناء كيف يتخذون قراراتهم، أو موقفاً محدداً إزاء الأحداث والأشياء، وأول ما يحتاجه الأب في مثل هذه النظم التعليمية هو إيجاد جو من الحرية للأبناء يستطيع خلاله من تحكيم عقله وذلك بأن يتحول الأب في البيت إلى صديق موجه, ولا بأس من استشارة الأبناء ولو شكلياً في أمر يتعلق بالجميع، أو بالبيت شرط أن لا يحرك ذلك في نفسه الشعور بأنهم يضحكون عليه أو يسخرون منه، أو أنهم يستشيرونه ولا يأخذون برأيه, فإنه من الأمور الخطيرة والتي تؤثر سلباً في بناء شخصية الأبناء هو إحساسهم بأن الغرض من ممارسة المشورة معهم هو الاستهزاء بهم وبرأيهم، وهذا الإحساس سيتولد في نفسهم حتماً فيما لو لم يؤخذ برأيهم، وأخذ رأيهم مأخذ اللامبالاة, ففي هذه الحالة يكون عدم المشاورة من الأساس أفضل وأنفع من المشاورة والإهمال مع عدم التبرير لذلك الإهمال, فأما أن يشاور الأبناء ويوضح لهم سبب عدم الأخذ برأيهم، والمساوئ المترتبة عليه، وأما أن لا يشاور من الأصل, فالصدق مع الأبناء أمر هام جداً في مسألة تربيتهم وبناء شخصيتهم, ثم إن المدح الذي يوجه للأبناء فيما لو أحسن يعد أمراً هاماً، وحافزاً يحفزهم ويدفعهم دائماً إلى فعل الحسن من الأمور ولكن يجب أن يتناسب هذا المدح مع حجم ما يقومون بت, لئلا يخلق عندهم حالة من التعالي والغرور فيما لو تجاوز الإطراء والمدح حد المعقول، وفاق في حجمه حجم العمل الحسن الذي أدوه.

 

آراء