السودان ينهضُ كالعنقاء من خلفِ الرماد!
مدخلٌ ضروري:
كل من ينكر ولو بقلبه هذه البشريات الرائعة التي تبدو على الأُفق، والتي تشي بنهوض الوطن من سباته وقُمقمه وسكونه، نهضة المارد العنيد، بعد ثلاث عقودٍ من الترقب والإنتظار والتضحيات الجسام، أرى جلياً بأن في عينيه رمدٌ كثيف وفي آذانه وقرٌ ، بل ران على قلبه إثم الجَهالة بإنتصار شعبنا .
أين بالله كنّا قِبل عامٍ واين صرنا الآن ايها الأعزاء الأصدقاء. لقد وثبنا وثبةً عالية مُضرية شاهقة، كي نًعيد من جديد كتابة وتشكيل التأريخٍ الثوري كما ينبغي' ونبعثه للعالم من بين ركام خلف رماد النسيان، نافضينَ عنه غباره العالق الكثيف.
هي ثورةٌ سلميةٌ عظيمة كاملة الدسم فيها من الفروض والسنن أمتنها، فجّرها شعبنا المُلهَم، بعد ان كاد العالم ان ينسى كيف تبدو الثورات السلمية، إذ قرأوا عنها فقط في أضابير الكُتب التاريخية. لم نشاهد مثيلاً لثورتنا هذه، منذ ان دشّن المهاتما غاندي ثورة الهنود السلمية على البريطانيين في القرن الماضي وكذلك فعل المُلهم نلسون مانديلا الذي ناضل عقوداً طويلة من سجنه وقاد ثورة سلمية عظيمة في مواجهة عدوٍ شرسٍ، أطعِم وأُشرِب بالعنصرية البغيضة، وانتصر بصبره ومثابرته على نظام الابارتايد في جنوب افريقيا دون إراقة دماء.
لقدأجمع المتحدثون من أحرار العالم والذين تجمعوا في برلين الألمانية قِبل يومين، على أن شعب السودان الفريد قد قاد في مطلع هذا القرن الجديد أعظم ثورة سلمية، أذهلتهم جميعاً وتملكهم العجب، فطفقوا يتغزلون في بسالة نسائه ورجاله.
سينصف التأريخ القريب والبعيد هذه الثورة الكبيرة، وأتمنى من (وزارة التربية والتعليم) في بلادنا ان تكتب بمدادِ الذهب في مقررات أطفالنا عن عظم ثورة ديسمبر ٢٠١٨،مع تزيين صفحات الكتب الدراسية بصورٍ لشهداء الثورة، الذين سقطوا فداءً له وهم يهتفون لحياته، فإن لم نحتفي نحن هنا فمن هو ذاك الذي سيحتفي بها دون غيرنا؟
إنّ عظمة هذه الثورة الخالدة انها اندلعت وانتصرت بإقتدارٍ وبسالة وسلميةٍ مفرطة على عدوٍ شرسٍ فظٍ غليظ لا يعرف الرحمة ابداً ومدججٌ بالسلاح من اخمص قدميه الى شعر رأسه. تلك هي سادتي سيرة الثورة السودانية التي نحتفي بها الان ونتغنى بأمجادها كلما اصبح صبحٌ علينا او دخلنا في دياجير الظلام . إنتصرنا بعِزّة وفضل الله ومشيئته وسنده على نظامٍ بشعٍ مبغوض، نشأ وترعرع وتنفس وشرب من ثدي العنف المفرط والقتل بلا جرائر والسحل بلا شفقة وإغتصاب الحرائر والتعذيب المُمنهج في أقبية بيوت الأشباح، وكان جندرمته وجنده المُدرب آنئذٍ يحملون في عرباتهم المدرعة افتك انواع الأسلحة والتي لا تُستخدم الا في المعارك العسكرية الكبرى بين الدول وهو 'السلاح المُضاد للطائرات'، كنّا نراه محمولاً بوضع الإستعداد، موجهاً نحو صدور الثوَّار العارية وهم يرفعون علم البلاد ويهتفون ملء عقائرهم 'سلمية'؛ تلك الكلمة السحرية التي كانت تُرعب الظالمين وترهب جندهم، ولا يؤتاه، اي سلاح السلمية الا أولي العزم من الشعوب.
لقد رأينا هؤلاء البواسل غير عابئين بالموت الشريف المُستحق أبداً. كانوا يبدون عشقاً عجيباً لموجبات الشهادة في سبيل الأوطان، لينالوها نوالاً مستحقاً وكاملاً ، فصعدت ارواحُهم للسماء لتستقر عند ذي العرش، واحسب انهم كانوا يستقبلون عند سقوطهم بالرصاص الموت النبيل بالتهليل والتكبير، يتسابقون كالفرسان سباق الشافغين للشهادة. لقد رووا هكذا وخضّبوا بدمائهم الطاهرة كل ركنٍ وشارعٍ وزقاق في طول البلاد وعرضها.
ذاك شعبٌ يركعُ الموتًُ له ويسجد، ولان شبابه الغُر الميامين قد رضعوا من حليب 'البسالة '، وصل الحال بطفلٍ صغيرٍ في الروضة أثناء المواكب، وفي غمرة عنف السلطة الغاشمة، ان يبكي بكاءً مُراً شوقاً لرائحة البمبان. رأته الملايين وهو ممسك بالباب يود الخروج للشارع وأنهُ تمنعه. ذاك والله شبلٌ من ذلكم الأسود، لا يعرف الخوف عنده مكاناً، فتهدهده امه وتُهديء من ثورته قائلةً له "يا حبيبي لقد ذهب البمبان لبيته كي ينام ويرتاح وأعِدُك اننا في الصباح سنذهب اليه وتستنشقه سوياً"..
لقد شاهدنا ورأينا في سوح الوغى والمعارك في تلك الأيام المباركة، رؤية العين، شباباً يُفعاً نساءً ورجالاً وهم يسدون عين الشمس، ينسلون خفافاً وثقالاً من بين الأزقة الضيقة، يملأون الشوارع وأصواتهم تدوي هُتافاً كدوي الرعود، وقد كتبوا في صدورهم العارية بدماءٍ قانية (مرحباً بالموت مرحى). ولو كان ونستون تشرشل المرافق لجيش الإحتلال في معركة كرري حياً الى يومنا هذا لألحق بكتابه الاول (حرب النهر) كتاباً آسماهً ب (أحفاد حرب النهر) ، ولرأى من خلف المتاريس المنصوبة والاطارات المشتعلة صوراً لأحفاد التعايشي وعثمان دقنة وود حبوبة والقرشي وعلي عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ. إنهم ثوارٌ يفوقون أي وصفٍ بالكلمات، سطّروا ملاحم ثورة تحكي بسالةً منقطعة النظير.
شبابنا الفارع الذين شاهدهم العالم لا يهابون الوغى ولا يهربون من الرصاص، العافِ عند المغنم والكريم في خصاله والفريد في طباعه يستحقون ان نحتفي ببطولاتهم كل يوم . لذلك لا غرو ولا جرم ان تغنى بتفرد هذا الشعب شعراء الشعب وفنانيه ومبدعيه وما ابقوا حرفاً.
أين كنا وكيف بقينا؟ كان ذاك حديث بنتي الصغيرة هذه الايام بعد ان تابعت مؤتمر شركاء السودان، ورغم ان هذه الكنداكة قد ولدت في اقاصي غرب الدنيا الا انها كانت تشم عبق الثورة وتفتخر بشعبها الأبي بين صويحباتها من الكنديين ولا يخلو لبس لها من رسم علم السودان العزيز.
ان هذه الثورة العظيمة التي تغنّى بها قادة العالم في خطاباتهم ومعهم الأمين العام للأمم المتحدة في برلين، أتمنى ان لا نختزلها في "حجم المساعدات المُقدمة من الشركاء" بل يكفينا فخراً وشرفاً اولاً اننا من صلب هذا الشعب العظيم الذي تسابق العالم لمدحه . لا ننسى بان هذه الثورة يلفها وعي كبير، وللاسف هنالك طائفة لا ترضى بشيء ولا يسرها شيء، لذلك نرى نشطاء يقودون حملات مُحبطة لأنهم إختزلوا هذه الثورة العظيمة في اشياء صغيرة لا تشبهها، وكان الأجدر بهم بث الوعي الثوري بين صفوف شعبنا ورفع شأنه وبدل ان ينيروا الطريق لشعبهم انخرطوا في نوباتٍ من الزعيق والصياح والتخوين.
ايها السودانيون الشُّرفاء الثوَّار اعلموا بان بلادنا لن تكون بعد مؤتمر الشركاء التاريخي ببرلين كما كانت قبله، تماماً كما نردد الان بان العالم قِبل الجائحة لن يكون مثله بعد انحسارها. نحن الان الوحيدون في المنطقة من نصنع التاريخ، وكل رادارات العالم مصوبة نحونا ، العالمون معجبون بثورة شعبنا الفريدة وقوة شكيمة ثواره فلا تبتذلوها في صراعات دونكشوطية.
والبشريات ماثلة امامنا بنهضةٍ غير مسبوقة قادمة اذا أُحسنت النوايا رغم انف الأعداء والخونة، ولا مجال لشعبنا ابداً ان يعود القهقرى والعودة مرة اخرى لمحطات الضياع التي عشناها لثلاث عقودً حسومة.
سنعبر ان شاء الله
لنعود بسرعة البرق لحضن المجتمع الدولي الذي كنّا نعرفه ويعرفنا بعد ان فتح لنا ذراعيه بكرمٍ بالغٍ واحترام أكيد نستحقه. هذه الثورةُ تكاد ان تكون الثورة الوحيدة في هذه المنطقة المضطربة التي تسير نحو اهدافها الكبرى بثقةٍ وثبات. غايات شعبنا والمتمثلة في الحرية والسلام والعدالة ستتحقق ان شاء الله، وغداً سوف تَرون اشتعال الارض والحقول قمحاً وعداً وتمني كما بشّر بذلك شاعر الأمة محمد المكي ابراهيم، وسنشهد عندئذٍ إنطلاق وخروج المارد من قمقمه.
أعلموا تماماً أيضاً ايها الثوَّار الشباب بان بلادنا تُعدُ من اغنى دول العالم وان شعبنا لهو من اعظم شعوب الارض، تاريخه يعود لتسع ملايين سنة، بدأ بحضارة كرمة القديمة والتي طبقت شهرتها الآفاق على يد العالم السويسري شارلي بونيه الذي يقول بقدمها حيث تعتبر اقدم مدينة حضرية ادارية في العالم.
مخرج غنائي إحتفائي:
سأُغنِّي هذه الليلةً شعرًا
لجموعِ الشعبِ والثُّوَّارِ
في ليلِ الفداءْ?? !
سأُغنِّي للملايينِ التي
أرهقَها الظلمُ
وأعياها البُكاءْ !
سأُغنِّي حينما
ترقُدُ أحزاني
على هَدبِ السَّماءْ !
أيُّها المجذوبُ في جُبَّتِهِ
أقِمِ اللَّيلَ على غارِ حِراءْ !
باسِلٌ إذْ هَبَّ من هجعتِه
زانَهُ اللَّوحُ على حِبْرِ البهاءْ !
ناعمُ الطَّرفِ، نديمُ الكبرياءْ
ضامرُ الخِصرِ إذا شَدَّ البَلاءْ !
سأُغنِّي للملايينِ التي
داستْ على الأحزانِ،
مرفوعي الجِباهْ!
سأُغنِّي للرُّعاةِ الظاعنينَ
وللمروجِ الخُضرِ
في ظلِّ المساءْ!
سأُغنِّي للجنودِ
الصامدينَ على
الثغور، على الفداءْ!
سأُغنِّي للقِبابِ الخُضْرِ
والدرويشِ والإبريقِ
في ليلِ البهاءْ!
سأُغنِّي للنخيلِ الشُّمِّ
في كرمةَ،
مأخوذًا بأسرار الإلهْ !
سأُغنِّي للجماهيرِ الَّتي
بايعها الرَّبُّ
وأضناها الحياءْ !
سأُغنِّي للفتى الماظِ
على المدفعِ،
مرفوعًا على
قوسِ الفِداءْ !
سأُغنِّي للصَّحابي علي
سكنَ النِّيلَ وحيَّاهُ السَّماءْ!
أعْطِني النَّايَ أُغَنِّي
للِفَتى النُّوبي
مهدي الإباء
كلَّما أسرفتُ
في الراتب فجراً
جندلَ القنديلُ أحزاني
وأحزانَ المساءْ!
سأُغنِّي بالرَّبابةِ
للأميرِ السَّمهريّ
لفتى الشرقِ،
وللأطلالِ في
ليلِ الغِـناءْ!
سامحوني أيُّها الأحبابُ
إنْ غنَّيْتُ في عشقِ الإلهْ
ودَعُوني،
لا تسوموني عذابًا
ليتَ شعري
كيفَ أحتمِلُ البُكاءْ ؟؟!
بَايعوني يا صِحابي
ودعوني أعْلِفُ الخيلَ
على نارِ المساءْ !!
بايعوني يا صِحابي
ودعوني أحمِلُ النِّيلَ
لشمسِ الأستواءْ !!
سأُغنِّي وأُغنِّي
وأُغنِّي وأُغنِّي
طالما كانَ على
الجَفْنِ حياءْ !!
zomrawi@msn.com