الفكرة الجمهورية (4)

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
"وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ *وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ"

صدق الله العظيم
بعض مرتكزات
الواقع الحضاري

الحضارة الغربية السائدة اليوم بدأت في القرن الخامس عشر، عقب عصر الإقطاع وهيمنة الكنيسة.. وقد جاء التحول كرد فعل ضد هيمنة الكنيسة الشاملة.. وقد كانت الكنيسة تدعو الناس إلى الزهد في الحياة الدنيا، والعمل للحياة الأخرى.. وقد كان رجال الدين وهم يشجعون الناس على الزهد هم أنفسهم يعيشون في بذخ وترف دنيوي يستغلون فيه أموال الكنيسة الطائلة.. وعندما بدأ التحول الحضاري الجديد كان أساساً رد فعل ضد هيمنة الكنيسة ولذلك اتجه منذ البداية إلى التركيز على الحياة الدنيا، ومن هنا جاءت العلمانية، فالمقصود بالكلمة هذا العالم – الدنيا، كما جاء الإتجاه في التحول الجديد إلى حرية العقل.. وقد دعم الإصلاح الديني حركة التحول بصورة كبيرة إذ ساعد على التخلص من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية وظهر المذهب البروتستانتي وبدأت الإختلافات الدينية في أوروبا وأدّت إلى حروب بين الطوائف الدينية، أهمها حرب الثلاثين عاماً.. وقد تمخضت هذه الحروب عن ولادة الدولة القومية، التي بالتدريج أصبحت الشكل الأساسي للحكم.

لقد ارتبطت الحضارة الجديدة بالعلم المادي التجريبي، وتطبيقاته في الحياة –التكنولوجيا، وبالتدريج أصبح العلم المادي التجريبي هو السمة الأساسية للحضارة، وهو الذي أعطاها تصورها للكون.

في القرن الثامن عشر ظهرت الحركة الإنسانية، وظهر مفهوم التقدم الذي أصبح ديناً.. وفي عصر التنوير وصلت الحضارة الغربية إلى قمتها من حيث عقيدة أهلها فيها، وقد تبلورت هذه العقيدة في مفهوم التقدم والعقلانية واعتقد أهل التنوير أنهم قادرون على حل جميع مشاكلهم اعتماداً على العقل وعلى مفهوم الطبيعة.. ونحن سنتعرض لهذا الأمر لاحقاً.. لكن ما يعنينا هنا هو أنّ الحضارة الغربية السائدة هي البناء التحتي للحضارة الإسلامية التي نبشر بها.. ففي عهد الحضارة الغربية أصبح الإستعداد للإسلام في أكمل صورة له، من حيث الحاجة له والطاقة به.. وهذا ما سنتناوله هنا، بغرض توكيد أنّ وقت الإسلام كآخر، وأعلى رسالات السماء قد حان بسبب حاجة الناس له والطاقة به.

نحن في هذه الحلقة نريد أن نبيِّن أنّ الأرض، بفضل الله عليها وعلى الناس، قد تهيّأت، ولأول مرة في التاريخ لعهد استقبال خلافة الإنسان عليها، وهو عهد تحقيق الإسلام، وتحقيق إنسانية الإنسان، على المستوى الجماعي، بعد أن تمَّ فقط في التاريخ على مستوى أفراد قلائل، ولكن مسيرة التطور كانت دائماً تستهدفه، فهي كانت دائماً بسبيل من إعداد الأرض لتحقيق إنسانية الإنسان، وفق خطة محكمة، أعدّتها ووجهتها يد العناية الإلهية.. إننا اليوم نعيش في أكبر منعطف تاريخي في تاريخ الحضارات منذ أن بدأت الحضارات.. وهو منعطف يمثل نهاية الحلقة في تاريخ التطور على الأرض، المفضية إلى تحقيق إنسانية الإنسان على مستوى الكوكب الأرضي برمته.. وهذا ما ظل الإسلام يعدّ له منذ البداية، وهو الذي به تتوج رسالة الدين بظهور أمة المسلمين.

فالحضارة الغربية الكوكبية، السائدة اليوم، هي الأرضية التي يتم عليها البعث الإسلامي الجديد المنتظر، وهي المقدمة الطبيعية له.. فحركة التاريخ على الأرض تسير على قدمين، من مادة وروح.. عهد سيادة الروح هو عهد (بعثة)، وعهد سيادة المادة هو عهد (فترة).. وعهد الفترة هو عهد احتشاد لتحقيق عهد البعثة التالية.. ونحن اليوم نعيش أكبر عملية احتشاد، لطاقات الفكر، وطاقات الحياة، على الصعيد المادي وهو احتشاد ليس له ضريب في التاريخ الماضي كله.. وهو يوشك أن يفضي إلى عهد البعثة الجديدة.. هو خلاصة، وتتويج للتاريخ الماضي كله، ليس تاريخ الحضارة، وإنّما تاريخ الحياة، منذ أن كانت الحياة على الأرض.

فبماذا استحق هذا العصر، أن يكون قاعدة الإنطلاق، لهذا البعث العظيم؟ هذا هو مدخلنا إلى الحديث عن الحضارة الغربية السائدة.. فهي الجاهلية التي يقوم عليها البعث الإسلامي، الكوكبي، التي تتحقق فيه إنسانية الإنسان على الأرض..
إنما يرشح الحضارة السائدة لأن تكون المقدمة للعهد الذهبي للإسلام أمران: الطاقة بالإسلام، والحاجة إليه.. فمن خلال هذين الأمرين سيكون تناولنا للواقع الحضاري، أو ما أسميناه المنعطف التاريخي الكبير.

1. الطاقـة بالإسلام:

لأول مرة، في تاريخ مسيرة الإنسانية، تتهيأ الأرض لتحقيق أمة المسلمين، بالطاقة لتحقيق الإسلام في مستواه الأخير، على المستوى الجماعي.. وهذا تهيؤ أعدت له، كل مسيرة التطور السابقة.. فالحضارة السائدة اليوم، ورثت جميع الحضارات السابقة قبلها، وتوَّجتها بما أضافته إليها من إنجازات عظيمة، في جميع نواحي الحياة، ونواحي الفكر.. وطاقات الحضارة المعاصرة لا تحتاج منا إلى تفصيل، فهي واضحة لكل ذي عينين.. وما يعنينا منها بالذات هو إلى أي حد جعلت الإنسان، كفرد وكمجتمع، مهيأً لدخول عهد عزّه، وكرامته، وتحقيق إنسانيته.. أو بتعبير آخر، إلى أي حد جعلت الأرض مهيأةً لتحقيق الإسلام على المستوى الجماعي، الأمر الذي عجزت عنه كل الأمم السابقة!؟.

إن أوضح، وأكبر، وأعظم إنجاز للحضارة المعاصرة هو التقدم العلمي الهائل، وما انبنى عليه من تقدم تكنولوجي، أثَّر تأثيراً هائلاً، على جميع نواحي الحياة عند الإنسان، حتى أصبح فكر الإنسان، وحياة الإنسان، في القرن العشرين، خصوصاً في النصف الثاني منه، وإلى اليوم، يكاد يكون الشبه منقطعاً بينها وبين القرون السابقة، بما فيها القرن التاسع عشر نفسه.

ففي جانب المعرفة النظرية، نجد أن تصورنا للكون الذي نعيش فيه، يختلف إختلافاً جذرياً، عن تصور إنسان القرون السابقة، حتى القرن التاسع عشر.. بل أن المعلومات المتاحة لطلاب المدارس الثانوية مثلاً، في عصرنا الراهن، أكبر، وأعمق، وأدق، من معلومات كبار العلماء في التاريخ، بمن فيهم نيوتن نفسه، والذي يعتبر أباً للعلم الحديث.. وهذا أمر طبيعي، لأن المعرفة بطبيعتها تراكمية، تبني على ما سبقها، وتصححه، وتنميه.. فلقد كان كون الإنسان القديم، كوناً محدوداً جداً.. أما اليوم، فإن كوننا غير متناه في جميع الإتجاهات.. فقد أصبحنا نقيس أبعاد كوننا الشاسع بالسنين الضوئية، ونتحدث عن مجرات تبعد عنا ملايين السنين الضوئية.. أما بالنسبة لجانب الصغر في الكون، فقد أصبحنا نقيس الأشياء، بالميكرون - جزء من ألف جزء من المليمتر، والنانومتر - جزء من ألف جزء من الميكرون-!! وأصبحنا نقيس الزمان في أجزائه الصغيرة، بالبيكوثانية ـ جزء من مليون جزء من الثانية ـ وبعد تفجير الذرَّة، ومعرفة مكوناتها، واصل العلم مسيرته ووصل الإنسان المعاصر، إلى أصغر صور المادة ـ حتى الآن ـ الكوارك.

ثم إننا دخلنا عصر البيولوجيا الجزيئية بكل تطوراتها المذهلة، وتمَّ التوصل للخريطة الجينية البشرية (الجينوم).. وأصبحت الكلونة (الاستنساخ)، علماً تطبيقياً، أدى إلى إعادة توظيف الخلية الناضجة، الأمر الذي كان في نظر العلم إلى وقت قريب أمراً مستحيلاً.

ثم كانت هنالك النظريات العلمية الكبيرة التي غيَّرت أساسيات المسلمات القديمة، وعلى رأسها النسبية، والنظرية الكمية، اللتان غيرتا كل المفاهيم العلمية التقليدية عن الزمان، والمكان، والمادة، والطاقة، والكتلة، والحركة.. إلخ، ولم تعد مسلمات هندسة إقليدس من المسلمات، وظهرت هندسات جديدة.. وقد اتسعت المعارف والعلوم وتفرّعت، وتشكّلت، وتداخلت، وأصبح من الصعب حتى على المتخصصين، متابعة ما يستجد من معلومات، ومعارف، حتى في مجال تخصصهم.. ولقد انتشر التعليم الرسمي، وأصبح الشباب في معظم بلدان العالم، يكونون حتى العشرينات من عمرهم في تعليم رسمي، هذا إلى جانب الإمكانات الهائلة لوسائل المعرفة، من كتب، وصحافة، وإذاعة، وتلفزيون.

ثم كانت ثورة المعلومات، والتي جعلها البعض سمة للعصر، فأصبحوا يسمونه (عصر المعلومات).. وقد أثَّرت ثورة المعلومات، وتؤثر على جميع نواحي الحياة، حتى أن تملك المعلومات، أصبح بالنسبة للإقتصاد، أهم من تملك الموارد الطبيعية.

ويعتبر الكمبيوتر والانترنت قفزة هائلة جديدة، أثَّرت على جميع نواحي الحياة، خصوصاً في جانب المعلومات، والمعرفة، والسعة الهائلة في التخزين، واليسر، والسرعة الهائلة، في التواصل المعلوماتي، على مستوى الكوكب الأرضي. وقد أصبحت التكنولوجيا، الآن، تدخل في كل شيء من تفاصيل حياتنا الروتينية اليومية، حتى أن التقدم التكنولوجي أصبح معياراً للرقي الإجتماعي، ومستوى التحضر.

ونتيجة لهذا التقدم العلمي والتكنولوجي، أصبح عامة الناس، أصحاب قدرات عقلية أكبر بكثير من أسلافهم، وأصحاب معرفة أكبر من أسلافهم، وبصورة تنقطع فيها المقارنة.. وأدى استخدام العلم والتكنولوجيا إلى إخصاب الحياة، في جميع مجالاتها، في المأكل، والملبس، والمسكن، وسبل المواصلات، ووسائل الراحة والترفيه، كل ذلك أصبحت فيه الوفرة والتنوع، واليسر، بصورة لا تخطر على خيال الأسبقين.. وكذلك الحال بالنسبة لعلاج الأمراض، والخدمات الطبية.. فأبسط الناس في أكثر الدول تخلفاً، يجد من وسائل الحياة، ما لم يتوفر لعظماء الملوك والمترفين في التاريخ.. وأصبحت الآلة تسدّ مكان الإنسان في مجال العمل اليدوي، والكثير من مجالات العمل الذهني.. وهي تؤدي العمل بكفاءة، في كثير من الحالات، أكبر من الكفاءة البشرية بكثير.. وأصبح الإنسان باستمرار يحول عمله على الآلة، مما زاد في الإنتاج، وفي وفرة، وتنوع الخدمات، وقلل من ساعات العمل، وأدى إلى وجود وقت فراغ كبير عند الناس.. وزيادة وقت الفراغ أمر مهم جداً، ومؤثر على الحياة بصورة كبيرة، فهو إما أن يملأ بصورة إيجابية، تساعد بفعالية على تنمية الإنسان، أو يملأ بصورة سلبية، تزيد من مشكلاته.

والوعي الزائد عند الإنسان المعاصر، والرهافة الزائدة، جعلت الإنسان أكثر اهتماماً بحياته، وبمصيره، وأكثر إلحاحاً في طلب الإجابة على الأسئلة المتعلقة بوجوده.. "فعصرنا يمكن أن يوصف بأنه عصر الذرة: ويمكن أن يوصف بأنه عصر استكشاف الفضاء الخارجي، ولكن ينطبق عليه أكثر كونه عصر رجل الشارع.. عصر الرجل العادي المغمور، الذي استحرت على مضجعه شمس الحياة الحديثة، فنهض وحمل عصاه على عاتقه، وانطلق يسير في الشعاب، يبحث عن حياته، وعن حريته، وعن نفسه".

فالإنسان المعاصر أكثر وعياً بحقوقه، وأكثر حرصاً عليها.. كما أنه أكثر وعياً بحقوق الآخرين، وأكثر تعاطفاً معهم، واستعداداً للعمل في سبيل أن ينالوا حقوقهم، ولذلك كثرت التنظيمات الطوعية الخاصة بخدمة الآخرين، والعمل من أجل أن ينالوا حقوقهم.. وذلك مثل منظمات الهلال الأحمر، والصليب الأحمر، ومنظمات حقوق الإنسان، المنتشرة في أنحاء العالم، ومنظمات العون، والإغاثة، بمختلف أشكالها، وكل منظمات المجتمع المدني.. وقد قُنِّنَت حقوق الإنسان، وضُمِّنت في كثير من الأحيان بالدساتير.. فنتيجة للوعي، وزيادة التعليم، والشفافية، أصبح للمستضعفين نصراء كثر، يكافحون من أجل قضاياهم، وهذا في حد ذاته خطوة كبيرة في سبيل تحقيق إنسانية الإنسان، هذا مع ملاحظة أن الوعي بالحقوق نفسه، ازداد بصورة كبيرة.. وهنالك احترام واسع لإنسانية الإنسان، في عالمنا المعاصر، في إطار الحدود التي تفرضها الحضارة السائدة، ومعاييرها.. ونحن نرى أن هنالك خللاً كبيراً في هذه المعايير.. ولكن رغم هذا الخلل، هي أمر تفرَّد به هذا العصر.

ومن الإنجازات العظيمة التي تمت في عصرنا، ترسيخ المبادئ الدستورية في الحكم، وانتشار الأنظمة الديمقراطية، والتقلص الهائل في الأنظمة الشمولية، خصوصاً بعد سقوط الإتحاد السوفيتي.. وسيادة حكم القانون بصورة عامة.. فقد أصبحت الحرية الإجتماعية بصورة عامة حق تتضمنه الدساتير، وتنص عليه القوانين في المجالات المختلفة، وكل ذلك فيه نظر من حيث التطبيق وسلامته، ومن. حيث الفلسفة والموجهات التي يقوم عليها، ولكن مجرد الإتجاه العام لصيانة الحريات، والسعي في تنظيمها، ووضع الأسس لكفالتها، هو من القيم الرفيعة التي يتميز بها العصر، بل في الحقيقة انفرد بها هذا العصر.. وذلك من أكبر ما يرشحه لأن يكون قاعدة الانطلاق لتحقيق الإسلام في المستوى الجماعي، وبالتالي تحقيق إنسانية الإنسان.

ولقد أصبح إنسان العصر يتطلع إلى المساواة الإقتصادية، كحق أساسي من حقوق الإنسان، وكقيمة أساسية ضرورية لتحرير الإنسان من رق الحاجة، ذلك الرق الذي ظل يرزح تحت نيره طوال تاريخه، ولم يتخلص من عقابيله حتى الآن.. وقد قامت محاولات في التنظير والتطبيق الإشتراكي، أشهرها وأهمها المحاولة التي قامت على أساس الفلسفة الماركسية.. وقد فشلت تلك المحاولة، بسبب قصور الفلسفة التي قامت عليها.. وقد ظنَّ كثيرٌ من الناس أن فشل الماركسية هو فشل الإشتراكية، وهذا خطأ كبير.. والحق أن فشل الماركسية كان ضرورياً لإنتصار الإشتراكية.. فأقل ما يقال عن أخطاء الماركسية الفادحة في محاولتها تطبيق الإشتراكية، أنها جعلت هذا التطبيق يقوم على نظام شمولي فظ، وبذلك هزمت الغاية بالوسيلة.. فالإشتراكية وسيلة للحرية، وللديمقراطية، وليست بديلاً عنهما!!.

وهنالك محاولات للقضاء على الفقر والجوع والمرض.. وهي محاولات، على ضعفها، تستحق التقدير، خصوصاً إننا هنا نتحدث عن إيجابيات العصر.. ونستطيع أن نقول، وبكل تأكيد، إن جميع الشروط المادية للكفاية، والمساواة الإقتصادية، قد توفرت.. فالإمكانات البشرية، والمادية، والعلمية والتكنولوجية، المتوفرة الآن، كفيلة بتحقيق جنة الأرض، ولا يحول دون ذلك إلا غياب القيم والمبادئ والأفكار الموجِّهة.

ومن الإنجازات العظيمة، التي ترشح عصرنا إلى ما نحن بصدده من قيام المجتمع الإسلامي وما يتحقق فيه من كمالات إنسانية، ما صار إليه كوكبنا الأرضي من وحدة، بفضل الله ثم بفضل التطور الهائل في وسائل المواصلات، وسبل الإتصال.. فقد أصبح الناس جيراناً، على مستوى الكوكب الأرضي كله، بينهم من العلائق، وتداخل المصالح، وتكاملها، ما لم يكن موجوداً بين الجيران بالأبيات في العهود السابقة.. فقد ألغى تطور المواصلات، وسبل الإتصال، الزمان والمكان، أو كاد!! وهذا أدى إلى الشعور القوي بوحدة الإنسانية، بصورة توشك أن تتجاوز عقابيل العرق، والعقيدة، والجنس، لتفضي إلى ما يوحد بين الناس، من حيث هم ناس - العقل والقلب.. ووحدة الكوكب الأرضي، تفرض تحديات كبيرة، على رأسها أن يعيش الناس في جميع بقاع الأرض في سلام، متآخين، متحابين، تقوم، علائقهم في القاعدة على حكم القانون، وفي القمة على الأخلاق، ويتم تنظيم مجتمعهم في جميع مستوياته، من الأسرة، وحتى المجتمع الكوكبي، وفق مقتضيات الواقع الجديد، والذي يفضي إلى وحدة الكوكب الأرضي، ووحدة الإنسانية فيه.. وهذا يقتضي، ضمن ما يقتضي، تجاوز الحرب كوسيلة لفض النزاعات.. ولقد قامت عدة محاولات في هذا الصدد، منذ عصبة الأمم، وإلى هيئة الأمم المتحدة الحالية، ولكنها كانت في جملتها فاشلة، ولكنها مع فشلها تدل على الحاجة الجديدة، والتطلع للإستجابة لما تقتضيه هذه الحاجة، من وحدة، ومن سلام.. هذه صورة عامة، وموجزة أشد الإيجاز لطاقات العصر، التي ترشحه لبعث الإسلام فيه، على المستوى الجماعي، والذي به تتحقق خلافة الأرض، وإنسانية الإنسان فيها.. وكل ما ذكرناه، هو مما يتم ـ في هذا المستوى الذي تم فيه ـ لأول مرة في تاريخ البشرية. (لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى كتابنا: "الإسلام والسلام عند الأستاذ محمود محمد طه").

2. الحاجة للإسلام:

قلنا إن ما يرشح البشرية المعاصرة لبعث الإسلام، الحاجة إليه، والطاقة به.. ولقد تحدثنا فيما سبق عن طاقة العصر التي ترشحه لبعث الإسلام، حديثاً، هو في الواقع مجرد إشارات للخطوط الرئيسة.. ونحن هنا سنتحدث عن حاجة العصر للإسلام أو مشكلات العصر، التي نزعم أنه لا سبيل لحلها بغير الإسلام.. وبالطبع نحن نعني الإسلام في المستوى، وبالمعنى، الذي نتحدث عنه، وليس المعنى الدارج، الذي يتحدث عنه دعاة الإسلام من السلفيين.. ونحن هنا أيضاً لا بدَّ لنا من الإيجاز، وذكر الخطوط العامة، الرئيسة، لمشكلات الإنسان المعاصر، كفرد وكمجتمع.. وهذه المشكلات تواجه الحضارة القائمة، وتواجه كل فكر أو دين يطرح نفسه، ليكون بديلاً لها.. وهي مشكلات، نعتقد أن الحضارة الغربية المادية القائمة، بطبيعتها، لا تملك لها حلولاً، وقد فشلت بالفعل في حلها.. بل أكثر من ذلك، فإن الكثير من هذه المشكلات، هي نتاج لهذه الحضارة، ودليل قوي، وواضح، على أنها لا تملك أن تكون مدنية المستقبل.. فلا يمكن لحضارة تتسبب في مشكلات أساسية، ناتجة من طبيعتها هي نفسها، ثم ينتظر أن تقوم نفس الحضارة بحل هذه المشكلات، دون أي تغيير أساسي فيها.

إن مشكلة الإنسان الأساسية، تنبع من طبيعته.. فطالما أنه صاحب عقل، وصاحب قلب، فإن إشباع حاجاته المادية، وحدها، لا يمكن أن يكفيه، أو يحقق له السعادة المنشودة.. من المؤكد، أن الحاجات المادية، الحاجات الجسدية، حاجات ضرورية، ومباشرة، ولا يمكن أن تقوم الحياة من دونها..وهذه الحاجات بالنسبة للحيوان هي كل المطلب، وهي ما أسميناها إرادة الحياة.. ولكن بالنسبة للإنسان، إرادة الحياة تمثل بُعداً واحداً أما البُعد الآخر، فهو (إرادة الحرية)، ولا يمكن لحياة الإنسان أن تستقر، وتستقيم، دون اعتبار البعدين معاً.. وهذا هو المعنى، الذي قال به السيد المسيح: "ليس بالخبز وحده، يحيا الإنسان".. فالإنسان بحكم طبيعته يريد أن يعرف من هو؟ ومن أين أتى؟! وما هو مصيره؟! ويريد أن يعرف الكون حوله؟ وهذه الأسئلة الوجودية، ليست ترفاً أو فضولاً، فالإجابة عنها تشكِّل حاجة أساسية، من حاجات الإنسان الضرورية، المرتبطة بطبيعته الأساسية.. والإجابة عن هذه الأسئلة، أصبحت أكثر إلحاحاً.. فالإنسان القديم، في إطار الحياة المادية الصعبة التي كان يعيشها، كانت حاجات المعدة والجسد تلهيه هوناً ما، عن هذه الأسئلة، أضف إلى ذلك أن الأساطير، والأديان القديمة، كانت تقدم الإشباع لهذه الحاجة، في المستوى الذي يناسب الوقت.. أما الآن، وقد أصبحت حاجات المعدة والجسد الضرورية، مشبعة إلى حد كبير، وقد ازدادت المعرفة، وتطورت القدرات العقلية، فقد أصبح إلحاح الإجابة على الأسئلة الوجودية أكبر.. والإنعكاس السلبي على حياة الناس، الناجم عن عدم الإجابة عليها أكبر، وأخطر، خصوصاً أن الإنسان المعاصر قد فقد روابطه التقليدية، القديمة، التي كانت تحل، أو حتى تسكّن، أزمته الوجودية، دون أن توفر له الحضارة البديل.. فالخلل الأساسي في الحضارة السائدة، هو أنها حضارة ذات بعد واحد، هو البعد المادي، ولا نصيب لها يذكر، من البعد الروحي، والحياة كما سبق أن قررنا، تسير على رجلين من مادة وروح.. والحضارة المادية العلمانية السائدة، لا تملك أي مذهبية، توفر للإنسان الإطار المرجعي لمعرفة معنى حياته، وغايتها.. بل إنّ مِنْ أبناء هذه الحضارة، ومِمّن يُعتبرون فيها من المفكرين، مَنْ يَعتقِدُون أن عهد المذهبيات قد ولّى!! ولكنْ من الوجه الآخر فإن الكثيرين من مفكري العصر، من العلمانيين، على وعي كبير، بضرورة المذهبية، وعلى وعي كبير بالخلل الذي تسبب فيه غياب البُعد الروحي للحضارة.. وكثيرون منهم تحدثوا حديثاً جيداً عن الأثر السلبي الخطير على حياة الناس، الناجم عن غياب المعنى، والهدف النهائي للحياة.

فالإنسان المعاصر، بعد إشباع حاجاته المادية، إلى حد كبير، أصبح يشعر بالجوع الروحي، خصوصاً في أكثر الدول تقدماً وأصبح يعاني من الشعور بالاغتراب، بصورة حادة، وكثرت عنده الاضطرابات والقلق، والأمراض النفسية.. وكثرت وسائل التسلية الهروبية، وساعد عليها التقدم التكنولوجي، وانتشر تعاطي المخدرات والإنتحار.. كما انتشرت الجريمة، وزادت أحداث العنف، وهو عنف في كثير من الأحيان، غير مبرر، وزادت الحروب.. وبصورة عامة في خضم التطور العلمي والتكنولوجي الهائل، فقد الإنسان نفسه، وأصبح يشعر بالتعاسة، بدل السعادة، ويفتقر بصورة حادة إلى السلام الداخلي، والسلام الإجتماعي، ولذلك يمكن أن يُقال إن حاجة الإنسان المعاصر الأساسية، هي للسلام، وهو سلام لن يتحقق إلا إذا تمّ تصحيح العلاقة بين الفرد والكون، والفرد والمجتمع، وهذا أمر نعتقد أنه لا سبيل إليه، إلا ببعث الإسلام، في مستوى أصوله.

إن الحاجة للسلام أكدتها، ظروف الواقع الحضاري الجديد، المتمثلة في توحُّد الكوكب الأرضي، بالصورة التي جعلت كل الناس فيه جيراناً، ولا يمكن لحياتهم أن تستقر، ما لم يوفوا بمقتضيات الجوار، من سلام، وتوادٍّ، وتكافل.. ومن الجانب الآخر فإن تطور أسلحة الدمار الشامل، جعل الحرب، إذا قدر لها أن تنشب بهذه الأسلحة، تعني فناء الحياة، وهكذا أصبح التحدي حاسماً، إما السلام أو الفناء.. فالحاجة للسلام، أصبحت حاجة حياة أو موت.. إننا نعيش في وضع حضاري غريب، فهو يملك كل الإمكانيات المادية لإقامة جنة الأرض، كما يملك كل الإمكانيات لإفناء الحياة على الأرض.. ولأن الحضارة التي توجه حياة الناس، وتضع الإطار لقيمهم، لا تملك المذهبية، ولا القيم، ولا المنهج، الذي يحقق السلام، فقد أصبح احتمال أن تفني الحضارة الحياة أقرب للمنطق، ما لم تتدخل يد العناية الإلهية، ويتوفر البديل الحضاري، الذي يحقق ما عجزت الحضارة الغربية عن تحقيقه، وبه تكون منجاة الإنسانية.

إن التحدي حاسم وغريب: إما الكمال أو الفناء!! فحل مشكلات الإنسان المعاصر يقتضي أن تكمل حياة الناس، كأفراد، وكمجتمع، بالصورة التي تؤهلهم لتحقيق السلام الداخلي، وتحقيق السلام الإجتماعي، اللذين، بهما، تستقر حياتهم.. والسلام الداخلي والسلام الإجتماعي، لا يقومان إلا على مستوى رفيع من المعرفة، ومن السلوك المتمدن، بهما تكمل حياة البشر المعاصرين، فيدخلون عهد إنسانيتهم، و إلا فإن مصيرهم هو مصير جميع الأحياء الذين فشلوا في التواؤم مع بيئتهم، فانقرضوا.. فكأنما يد العناية الإلهية، تسوق البشرية المعاصرة، إلى كمالها، سوقاً هي فيه مضطرة اضطراراً للكمال، لأنه أصبح الخيار الوحيد، وإلا فإن بديله هو الفناء.!

نحن نزعم أن الإسلام وحده، في المستوى الذي نتحدث عنه، هو الكفيل بالإستجابة، لتحديات العصر، وحل مشكلاته، بالصورة التي تحقق السلام الشامل، وذلك بنفخ الروح في الحضارة المادية القائمة..

يتبع...

رفاعة في 24/3/2023م

 

آراء