نشرت قبل سبع سنوات
أحمد البلال الطيب صاحب امبراطورية الصحافة والعقارات ,او ميردوخ السودان ,كان موظفا صغيرا حتي عام 69 تاريخ إستيلاء النميري علي السلطة يبيع الطوابع في مصلحة البوستة والتلغراف أسم وزارة المواصلات سابقا , وفي بداية السبيعات من القرن الماضي ,بدأ البلال الطيب صعوده الملوث عندما قرر النميري إقامة مشروع أطلق عليه مشروع الأدخار الإجباري بعد ان حل مشروع (توتوكوره)الشهير, ولما كان المشروع الجديد يحتاج الي دعاية كبيرة أسندت هذه المهمة للناقد الرياضي الكبير كمال طه الذي يعيش حاليا في الأمارات ,كلف من قبل إدراة المشروع بتخيص صفحة أسبوعية فى صحيفة الأيام التي كان يرأس تحريرها الراحل الفاتح التيجاني للترويج للمشروع ليجذب الناس الي شراء سنداته , إستطاع البلال الطيب في بداية تطوره الجيني إقامة علاقة سريعة مع كمال طه الذي كان يتردد علي الوزارة فأقنعه بأن يكون مساعده في الصفحة , فأسند اليه طه مهمة أخذ مادة الصفحة التي يحررها الي مطبعة الايام في المنطقة الصناعية ليأتي طه بعد ذلك لمراجعتها حتي دخولها المطبعة, اذن فان وظيفة البلال كانت إيصال المادة الصحفية فقط وليس تحريرها ,أوحتي مراجعتها ,وكانت تلك مهمة جديدة عليه فرح بها أيما فرح ,ولكن في عقله الباطني كانت تنمو بذرة طموح غريب رعاها بالسقيا حتي إستوت علي سوقها.
في صحيفة الأيام وفي أولي خطواته تعرف علي المحررين ثم درجة درجة وصل الي مكتب رئيس التحرير , ثم رئيس مجلس الادارة يومذاك الراحل موسي المبارك ,أجاد في ذلك الزمان فن العلاقات العامة مؤسسا مدرسة خاصة به , أقام حفلات العشاء والغداء داعما ذلك بالهدايا في المناسبات وغير المناسبات ,وكعنكبوت حاذق مد خيوطه الي الصحف الأخري فتعرف علي صحافييها , ثم مد البصر الي الأتحاد الأشتراكي ناشر شباكه بدربة اسد في اصطياد فرائسه ,وحنكة ثعلب في الدخول ليلا الي الاقفاص.
أنجز البلال الطيب المرحلة الأميبية بدخوله جو الصحافة ,وصار تنشر له مقالات هدفه منها تقديم نفسه الي هذا العالم الجديد ,راضيا بهذا الظهور المحدود , غير مستعجل للظهورالموسع مطمئنا في الوصول الي أهدافه , مقلدا (الضب) في كمونه الذي يستغرق ساعات حتي ينال من فريسته, واجهت البلال الطيب عقبة كبيرة أمام حلمه وهي أن النميري شكل لجانا لقيد الصحفيين كانت أولاها برئاسة القاضي محمد الحسن الطيب , وعضوية كل من قيلي احمد عمر , وعبد الله عمر من وزارة الداخلية وسكرتارية يحي الشريف الموظف بوزرارة الإعلام, كانت اللجنة ترسل اوراق المتقدم الي أول جهاز امن برئاسة الرئد مامون عوض ابوزيد للموافقة سياسيا عليه , ولم يكن البلال يومها قد ظهر في المشهد , حلت تلك اللجنة الأولي بعد تغيير قانون الصحافة الأول بأخر جديد, شكلت لجنة أخرى برئاسة القاضي مصعب الهادي الموجود حاليا بقطر فأنهت هذه مهمتها بأجازة عدد محدود من الصحفين ثم شكلت لجنة ثالثة أخري برئاسة القاضي المعروف حسن ساتي والذي يدير أيضا مكتبا للمحاماة في الدوحة .
يروي حسن ساتي إن اللجنتين السابقتين كانتا تشترطان الشهادة الجامعية أوالثانوية ,إضافة الي الخبرة لإجازة من يريد أن يلتحق بمهنة الصحافة ولكنه ساتي حسب قوله تجاوز هذه المادة إستنادا لسوابق في الصحافة أحد أهم نماذجها عمالقة كعبد الله رجب ,ومحمد احمد السلمابي, ومحمد الخليفة طه الريفي , ويحي عبد القادر ,وعوض برير ومحمود ادريس وغيرهم من الذين كان حد تعليمهم مرحلة الخلوة .
يقول حسن ساتي مثل أمامي أحمد البلال الطيب وطلب مني إجازته كصحفي, وعندما سألته شهادته المدرسية وشهادات الخبرة لم يستطع تقديمها لأنه لا يملكها أصلا, فأعتذرت له وطلبت منه أن يبحث عن أي مهنة اخري غير الصحافة , يستمر القاضي حسن ساتي فيقول لم يستسلم البلال الطيب حضر الي مكتبي مرة أخري وترجاني , والحف في الرجاء أن امنحه شهادة القيد الصحفي لأنه وجد وظيفة فيالإمارات العربية المتحدة وأذا لم أعطه هذه الشهادة فسأكون سببا في ضياعها منه وبحذر القاضي حررت له الشهادة وختمتها بختم اللجنة ,ولكني لم أعطه الأصل بل مزقته أمامه ,وفعلت ذلك لوثوقي من أنه لن يعمل في السودان , فلماذا أكون سببا في قطع رزقه ما دام سيستخدم صورة الشهادة في الإمارات , عموما يقول حسن ساتي المحامي الموجود فى الدوحة غادرت بعد ذلك الي قطر ولكني أكتشفت ان البلال كذب علي لأنه أستخدم صورة الشهادة تلك وأستطاع ان يعمل بها في الصحافة وحسب رواية القاضي حسن ساتي نعرف ان البلال التحق بالأيام بشهادة مشكوك في طبيعتها ,أوهي نسخة وليست أصلا ,وأنه خدع القاضي وربما حسب رأي ساتي يكون قد وجد طريقا اخر تمكن به من الحصول علي أصل جديد مختوم , وما يهمنا في هذه الواقعة ان البلال بدأ مشواره الصحفي بالكذب علي القاضي .
عمل البلال محررا متدربا في الايام وأختار قسم التحقيقات دون غيره من الأقسام لأن هذا القسم هو جواز المرور لأبواب الوزراء والمسئولين بمختلف درجاتهم, واللافت ان البلال وضع منهجا تدرجيا في زحفه الي أهدافه , وبالرجوع الي دار الوثائق فى مرحلة الثمانينات نجد البلال يبدأ تحقيقاته مع كبار المسئولين أمثال اللواء محمد الباقر احمد , وابو القاسم محمد أبراهيم , والرشيد الطاهربكر نواب النميري رئيس الجمهورية ,وكانت تلك التحقيقات التي تبدأ بالغزل وبتمجيد المسئول وإظهار ولائه لثورة مايو , وحرصة علي تنفيذ برنامج العمل الوطني غالبا ما تنتهي بسؤال جوهري عن خطط الثورة الإسكانية الجديدة أوكيف تمضي عملية توزيع الأكشاك التي نشطت في عهد النميري ؟وهنا يفضي المسئول بما لديه من معلومات ,ويركز البلال في نشر التحقيق علي الجزء الخاص بالإسكان وتوزيع الأراضي' بعد ذلك يمهد الجو للخطوة المقبلة , ويتبع البلال التحقيق بتحقيق فوري اخر ,ولكن هذه المرة مع وزيرالإسكان ,او المحافظ حسب ما تقع عليه مسئولية الأراضي مع الوزير ,أو مع المحافظ ,وفى عهد النميري أستطاع البلال ان يجعل من والده واخوانه صحافيين مثله فكان ينشر لوالده مقالات في الأيام فيها كثير من النفاق للنميري ونظامه فاتحا له أبواب الاتحاد الأشتراكي حتي صار مسئولا عن فرع الأتحاد في القرية.
لتجديد عدة الشغل وبعد أن أعتمد الثنائية صحافة مقرؤه ,وإعلام مرئي شارك البلال الراحل حسن ساتي في برنامج الكرسي الساخن , ثنائي خطير يتفوق كل علي الاخر فى ماراسون المصالح لايطرف لهما رمش ولا تهتز خلجة وجه في سبيل الوصول الي الهدف
لم يقتنع البلال بالشراكة في التنافس علي المسئولين , ورأي في حسن ساتي الصحفي وليس القاضي محاورا ذكيا ذا مدرسة تأتي أوكلها بطيئا ولو بعد حين ,وهنا قرر البلال فض الشراكة ليقدم برنامجيه الخاصين لوكنت المسئول ) واخيرا ( في الواجهة), وبرنامج في الواجهة الذي يعده الان هو سلاح ثلاثي الإستخدام يحقق مصالحه هو, أو يحافظ عليها ,ثم مصالح الضيف ,كما ان له وظيفة أخري صامته هي إرهاب المسئولين في التلفزيون ,فكيف لا وللرجل له حظوة عند رئيس الجمهورية ثم نوابه ثم بقية المسئولين من الوزير الي الوالي الي المحافظ.
يقدم البلال الضيف متتبعا تاريخة كقصاص اثر حاذق منذ ولادته وحتي يجلس علي كرسي الوزارة , مشيدا بعلمه وخبراته وشطارته ليدخل بعد ذلك في ما يظن المشاهد انه اللحم الحي عندما يوجه سؤاله بلهجة قوية الي المسئول لماذا أزمة الأسمنت مثلا وفي البلاد أكثر من مصنع للأسمنت ؟ أو لماذا تصدرون الخراف الي السعودية بينما كيلو اللحم قفز الي أكثر من ثلاثين جنيها ,وهنا يسارع المسئول ,أما الي النفي ,أو التبرير ,فأذا نفي إستعان البلال بلطف ورقة بالأخبار الرسمية التي تشير الي المشكلة ,وإذا برر فأنه يجد له العذر ,وفي ختام البرنامج نجد ان البلال يتبني وجهة نظر المسئول التي هي وجهة نظر النظام , وتلك هي الفلسفة من البرنامج فالمطلوب هو التأكيد علي أن النظام يمارس سقفا عاليا من الديمقراطية وحرية الراي والرأي الاخر ,عكس ما تروج له المعارضة من (إكاذيب) أنظر اليه يرافق الوالي الي مشروع سندس الزراعي الذي لم يتبق منه الا اسمه ,ينقل البلال علي الهواء مباشرة شهود زور من شاكلته علي نجاح المشروع الفضيحة الذي صرف عليه اكثر من 160 مليون دولار معظمها مدخرات مغتربين, انه يحاول نفخ الروح في جثة أشبه بمومياء رمسيس في المتحف المصري , صار البلال الساحر يخرج بيضه وارانبه ومناديله البيضاء ليقدم صورة ذاهية لمشروع هرب مديرة الفاسد وعششت فى ميكناته وطلمباته الخفافيش والغربان وكل هوام الارض.
لا يخامر الشك اي مراقب في ان النظام بكل مسئوليه يفهم ما يريده البلال ,وهؤلاء المسئولون من الذين عاشوا عصر النميري وما بعد النميري يعرفون جيدا صناعة الرجل في ذلك الوقت ,ولكنهم يتجاوزن عن ذلك مادام بضاعتة تجد لها مشترين وزبائن كثر, وما دام هو مستعد للإنحناء فالنظام ورجاله يحتاجون الي كل قلم وحلقوم يدافع عنهم , وهو يحتاج الي من يحمي مصالحه وينميها ما أمكن ذلك .
ان البلال الطيب هو ترس من تروس كثيرة إستعان بها النظام في مراحل متنوعة من مراحله , فعلي الضفة نفسها يقف رؤساء تحرير كانت صحفهم يوما منبرا للمعارضة يلهثون الان وراء الإستوزار واخرون يلهثون وراء المال صحفهم اشبه ببييوت البغاء تستقبل كل زبون في جيبه مال , صف طويل من سماسرة الشمولية قرروا وضع الوطن تحت أحذيتهم لتفيض جيوبهم مالا , وتفيض ضمائرهم دما وقيحا .
لماذا البلال ولماذا العظماء ,عبد الله رجب والسلمابي, ورحمي سليمان ؟ لقد جاء عبد الله رجب الي الخرطوم يحمل شنطة صفيح تائه في شوارع العاصمة , عابرا علي قدميه كوبري النيل الابيض حتي شارع الأربعين بحثا عمن يأويه ويسكت كلاب الجوع في بطنه , لم يكن عبد الله رجب يحمل شهادة جامعية ,أو ثانوية ولم يكن السلمابي كذلك فقد أتم الأثنان الخلوة وحفظا لقران , قرأ عبد رجب مختصر خليل والمنفلوطي والاشتراكية الفابية والرسمالية والشيوعية وانكب يتعلم الانجليزية حتي صار مترجما يشار اليه بالبيان ,دخل عبد الله رجب السجون دفاعا عن إستقلال السودان وتعرض للأعتداء من الأنصار في سبيل ارائه كانت صحيفة الصراحة منبرا جريئا للوطنيين من كل مشرب ,باعت المحكمة مطبعته لتسسدد ديونه ومات معدما لتخرج جنازته من بيت إيجار في أم درمان ,لم يبع عبد الله رجب الصراحة للإستعمار ولا للأ نظمة الوطنية بعد الإستقلال كما يفعل البلال الذي يعرض مطبوعاته شققا مفروشة لكل الأنظمة شمولية كانت أم ديمقراطية, فقد طلب من النميري ونظامه يترنح تحت عاصفة الأنتفاضة ان يضرب بيد من حديد علي كل العابثين بمقدرات ثورة مايو وحين سقوط النظام خلع البلال بسرعة فائقة قناعه القديم ليلبس اخر جديدا وطفق يوجه نيرانه علي عهد النميري المستبد عدو الشعب , مبشرا بالديمقراطية والتعددية مشاركا من سلالته محي الدين تيتاوي الذي تذبح الصحافة يوميا أمامه فلا يحرك ساكنا فهو موظف في المؤتمر الوطني يتحدث لغته , وأذا سقط المؤتمر الوطني فهو يجيد لغة البديل المقبل.
حذا السلمابي حذوه عبد الله رجب كاتبا وطنيا ينتظر الناس مقالاته يوميا أهدي مكتبته الي جامعة الخرطوم , رجل أعمال أشاد صرح أعماله ليس بالتقرب والتزلف للوزراء والمسئولين ,ولكن بالأعتماد علي الذات وبنظافة اليد وعفة النفس ,وشجاعة القلم واللسان .
تحتاج السلطة الشمولية دائما إلي الانتهازي المنافق , كاتبا كان أم صحافيا ' أم أكاديميا , ويجد هؤلاء فيها مجالا مغناطيسيا يتم الانجذاب إليها بوصفها سلطة مستعدة لمنحهم ما يريدون, وتلجأ السلطة الشمولية أيضا إلي الانتهازيين إحساسا منها بان ماقامت به من إنقلاب علي النظام الديمقراطى هو عمل غير شرعى ومرفوض سياسيا ولامبرر له سوى أنها تسعي إلي الحكم والي فرض برنامجها علي الآخرين بقوة السلاح , وهو البرنامج الذي فشلت في تنفيذه في العهد الد يمقراطى, ولا أدل علي ذلك من قيام نظام ( الإنقاذ ) باللجوء الي امثال البلال الطيب للترويج لمشروعه , وتهافته إلي مائدتها من أول إيماءه بينما يستمر أمن النظام باعتقال كل الصحفيين المناوئين له وغير القابلين للمساومة أو الرشوة انظر قضية فيصل محمد صالح . علي شاكلة البلال الطيب إن صحافيا كان قد كتب مقالة طويلة حذر فيها حكومة الصادق المهدي من مؤامرات يدبرها الإسلاميون ضد النظام الديمقراطي, بل وذهب إلي حد اتهام زعيمهم الترابي باتهامات يعجز القلم عن كتابتها, غير إن الصحافي نفسه عاد وأرتدى قناعا جديدا وأجري مقابلة مطولة مع زعيم بارز من زعماء الانقلاب العسكرى هاجم واساء فيها إلي النظام الديمقراطي بل وطالب بمحاكمة قادة العهد البائد كماوصفهم يومذاك .
لايكفي الكتابة عن ظاهرة احمد البلال الطيب وغيره من هذه السلالة التي أضرت كثيرا بالتجارب الديمقراطية في السودان , فالكثيرون كتبوا عن هذا الوباء الفيروسي الذي اطلقته الأنقاذ , ولكن لا احد قدم حتي الان حلولا لمستقبل الصحافة في السودان بعد ذهاب هذا النظام , إذن ما العمل وكيف سيتم التعامل مع هذه الحالة التي أستمرت لأكثر من عشرين عاما, لقد أحدثت الإنقاذ تغييرا شاملا في التركيبة الثقافية للمجتمع بحجة القضاء علي البناء اللبيرالي الموروث منذ الإستقلال وإستبدلت ذلك كله بمشروع (حضاري) كانت نتائجة هذا الإنهيارالعظيم في منظومة القيم الإجتماعية والرابطة الأنسانية والدينية الشعبية التي كانت تحكم علاقات الناس بعضهم ببعض, ما العمل للخروج من هذا المأزق الكبير والذي تمثل الصحافة أحد أهم أضلاعة؟, هل نتداول جميعا حول هذه المعضلة, هل نتواثق علي بدائل ترسم لنا طريقا جديد البناء سودان جديد خال تماما من نماذج كالبلال الطيب؟
siddiqmeheasi7@gmail.com