بابكر عوض الكريم .. قيثارة أتبرة والقاش

 


 

 

(1)

لم تكن الخارطة الجيوسياسية عائقاً بين الشعوب، و هم قيثارة شريان الحياة، و التواصل في حيّاتهم ، و أرزاقهم ، ثقافاتهم. و هم أبناء التعايش السلمي ، السماحة و التصاهر و التراحم منذ الأزل.
السودان اليوم فسيفساء نهر الحياة جنوباً و شمالاً ، شرقاً و غرباً و لا تجدّي معه الحدود المصطنعة نفعاً. حيث شهد الشرق فتح الحدود بين المستعمرتين اريتريا و السودان بعد الحرب العالمية الثانية بعد خضوع اريتريا للإنتداب البريطاني(1942-1952م)، مما ترتب عليه حركة التنقل بلا قيود بين مدائن القاش، و دمج المشاريع الزراعية في المنطقة الغربية في اريتريا بشقيقتها في الجزيرة. مثلما تم ربط التعليم، فكان أبناء المدارس الأولية في اريتريا يلتحقون بالمدارس الوسطى في القضارف و كسلا. و أثر ذلك على أنماط سلوكهم الاجتماعي و الثقافي مع وحدة التعايش و العمل و التعليم، و المصاهرة. و شكّلت هذه البيئة نواة لأجيال التنوع الثقافي و الإرتباط بين المكانين و ثقافة النهر العطبراوي. و من هؤلاء و هؤلاء بابكر عوض الكريم ، المولود من أب رباطابي ، و أم من قبيلة ماريا في اريتريا.

(2)

هو المربي و الشاعر أبو مظفر بابكر عوض الكريم بابكر البخيت أحمد العادي الرباطابي، و هو من عائلة ديدّنها التنقل بين مدائن النهر العطبرواي يعانق الشطان هنا و هناك. و حسب سيرته على صفحة "الفيسبوك"، فقد و لد في الشواك بريف مدينة القضارف في 7 ديسمبر 1951م. و عاش طفولته في مدينة "أم حجر" في عهد حكومة اريتريا الفدرالية. درس الصفين الصف الأول و الثاني في المدرسة الأولية أيام الناظر حامد:" السنة الأولى و الثانية بمدرسة أم حجر. اقتادني ابي رحمة الله عليه لباب المدرسة، و كانت ملاصقة لمنزلنا".
عاد الى مسقط رأسه بعد الغاء الفدرالية، و لسان حاله ما سطره لاحقاً في قصيدته:" تبقى الوشائج ما بقى شجر الحراز ". و أتم المرحلة الأولية:" السنة الثالثة و الرابعة بمدرسة الشواك الأولية، و كان ناظرها المرحوم إبراهيم أبو فايدة". و أنتقل الى مدينة خشم القربة، حيث درس الوسطى، و أتقن كتابة الانشاء و الخطابة من خلال مشاركته في الجمعية الأدبية التي تُقام في يوم الأثنين.
و من ثمّ شدّه الترحل الى ثانوية بورتسودان الحكومية (مبناها حالياً مقر جامعة البحر الأحمر) في عهد ناظرها ناجي السواكني في عام 1964م:"دخلنا الثانوي في يوليو أربعة و ستين ببورسودان الثانوية الحكومية القسم الداخلي. و بدأت الدراسة في أكتوبر من نفس العام". و كان عضواً نشطاً في أنشطتها ممثلا لمجموعة السكن الداخلي "القاش"، و كان عضواً في رابطة الطلاب بالجبهة الديمقراطية. مما أهله لتمثيل السودان:" من الذكريات التي لا تنسى سفرنا في أغسطس ثمانية و ستين الى جمهورية بلغاريا للاشتراك في مهرجان الشباب و الطلاب العالمي مع عمالقة من المطربين السودانيين ".
توقف عن الدراسة بعد وفاة والده - رحمة الله عليه-، و تحمل مسؤلية و أعباء الاسرة. و مع هذا عاد الى الدراسة في سنوات لاحقة. حيث التحق بمعهد بخت الرضا لاعداد المعلمين (1974-1976). و تفرغ بعدها للتعليم حتى 1981م ليعود للدراسة العليا في قسم التاريخ بكلية التربية، جامعة الخرطوم، و حقق درجة الدبلوم العالي - تمهيدي للماجستير - في التاريخ القديم عام 1986م.

(3)

بدأ حياته العملية مبكراً، حيث التحق بالجبهة الديمقراطية. و عمل في لجان السكرتارية المتعددة لفروعها حتى أصبح السكرتير السياسي للمكتب القائد للمكاتب القيادية لفروع الحزب بالمدراس الثانوية بمدينة بورتسودان. و كان ضمن القافلة المساندة للحراك الشعبي 1964م، و المتجهة بالقطار من القضارف الى الخرطوم بقيادة المناضل محمد جبارة العوض أحد القيادات الاتحادية التاريخية. التحق بالسلك التعليمي بوزارة التربية و التعليم. كما عمل مدرسا لمنهجي التاريخ و الجغرافيا للمرحلة الوسطى. و عمل في فرع التعليم التابع لإدارة غوث اللاجئين، و حينها حقق عدداً من المنجزات، أهمها توقيع إتفاقية بين الحكومة السودانية والأمم المتحدة تسمح لأبناء اللاجئين بتلقي التعليم فوق الإبتدائي بالمدارس السودانية مع إلتزام الأمم المتحدة بالبناء و التجهيزات اللازمة لوائح وزارة التربية والتعليم في السودان.

(4)

كانت مدينة بورتسودان - أنذاك-، تعجُ بفحول الشعر، رواد منتدى"خميلة الشعراء"، الذي يُقام بإشراف كرسني مدرس اللغة العربية على مسرح المدرسه الثانوية، و نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:"مصطفى سند (ت2008م)، محمد عثمان كجراي(ت2003م)، مبارك المغربي (ت1982م)". فكأن المنتدى تجربة استفاد منها لصقل قريحته الشعرية التي تفتقت أنذاك على قصائد الصمت و الرماد، عصارة قلب،عاشق النيل، و الحان الكروان.
حيث وجد تشجيعاً من المغربي:" بدأت منذ عام سبعة و ستين، أحاول كتابة الشعر. و قد شجعني بقوة المرحوم الشاعر مبارك المغربي". و تاثر حينها بالحراك الثقافي في بلاد الرافدين، مع تأثره بالتاريخ و التراث العربي.
و ربما أسماء أبناؤه تفصح شيئاً من ثقافته القرائية لكل معاني العزة و الكرامة، و الشجاعة. فنجد من أعلام النساء زرقاء اليمامة، و سفانة بن حاتم الطائي، السميدع بنت قيس بن مالك. و هي صفات تميز بها و منحها لذريته:"مظفر،السياب،عزيزة، السميدعة، السمندل، النورس، سفانة، اليمامة". و هو صاحب إرث حضاري: السيف، الفرس، الدرع ، الصلاة :
" فامنحونی إرث جدّی.
سیفه الضاری ..
وقلبا تتمناه الضواری..
واسرجوا الفرس المطهم..
درعونی بالصلابة ..
والصلاة المستجابة..
اسندوا ظهری بإیمان الغلابة..
دعونی املأ الساحة هزجا بالملاحم ملء تجویف العقیرة ".

كما تاثر بالقصص القرأني ، حيث تم توظيف الرمز في عدد من قصائده ، مثل قصة سيدنا يوسف عليه السلام:
" لملم جراحك سیدی
ما أنت الا بعض من رحلوا خفافا
والحشاشة مرجل..
والعین من طول البكاء تبیضت ظلما وحیف.
لا یوسف فی القوم كي یلقی الرداء لتستعید بریقها
ویعود ذاك الحلم فی مهد الصبا.. وتعود تخضر الربی
.. وتدب تركض كالأیائل فی ابتداءات الخریف.
یا أیها الوجع المعشش فی الضلوع بلا نزیف.
ارحل.. فما عادت لديك زوامل للحمل إن جار الزمان ،
وصوحت فی التل أشجار الأرز..".

(5)

ساهم في اثراء المحافل الأدبية بالكتابة و الإلقاء، و الاعداد لإذاعة القضارف، و إذاعة صوت الجماهير في اريتريا. كما ساهم في الإعلام الإريتري بعد التحرير، متعاونا في القسم العربي بإذاعة صوت الجماهير. حيث قدم من برامج المنوعات. و كان من الأقلام التي بذّلت جهداً في توعية الجماهير ضمن الحملة الداعمة لعملية الإستفتاء ، الذي تم في ابريل 1993م. كما ساهم في الحياة الأدبية و الثقافية من خلال مشاركاته في الاحتفاليات و المناسبات الوطنية . و هو صاحب الغنائية لمدينة مصوّع لؤلؤة البحر الأحمر في عرس التحرير الذي يقام سنوياً. حيث كان خطابه الشعري مشرقاً بنور الصباح ، المفردة التي سطر منها عنونة أجمل قصيدتين عن مصوّع. فكان النداء اليها كميناء:"يا صباحات المؤاني"، و الثانية نداء بالإسم التاريخي بلغة الضاد المهملة:"باضع.. صباح الخير".
حقق جائزة"رايموك الأدبية"، القسم العربي لثلاث أعوام متتالية (2000/2001/2002م). و كذلك في السودان حصل على درع الثقافة – النص الشعري في مسابقة الخرطوم عاصمة الثقافة العربية 2005م. و كان التكريم تتويجاً لأعمالها الشعرية التي جمعها في ثلاث دواوين:
ديوان "أروى رنة الفرح المهاجر"، اصدار دار عزة للنشر ، الخرطوم 2005م (124 صفحة)
ديوان " لا تودعني و سافر "، اصدار دار عزة للنشر ، الخرطوم 2014م (52 صفحة).
ديوان " الفجر في عينيك فجر ثاني "(مخطوط). يتوقع إصداره قريباً بدعم من الصندوق القومي لرعاية المبدعين ضمن مشروع طباعة ثمانية دواوين للشعراء بولاية القضارف ، و من ضمها الديوان المشار اليه أعلاه.يلمس القارئ في ديوانه ملح الغربة، و الحماسة و الرمزية التي يسردها بلغة شعرية و تصويرية عالية- من مركزية الحياة إلى هامشها لغوياً ، اجتماعياً، سياسياً. و ترتكز القصيدة على مواطن الذكريات المادة الأساسية التي تتشكل منها أغراض شعره في منظومة رومانسية وعنايته بالجانب الوجداني للذات الإنسانية. هي أشعار الفرح في ظاهرها، عميقة المعاني في باطنها، لأن الشاعر يُتقن الألقاء و مفوه في الخطابة.
كان شاعراً بلا قيد ولا شرط،، و العواطف جياشة بلا حدْ. أرتبط بالنهر العطبرواي، فأصدر كتاباً يوثق للأثار الشاهدة على اصالة التاريخ و العراقة في المنطقة. و هذا لا يعني التمسك بالماضي و التوقف عتده، و إنما قاعدة يستند عليها حين طرح سؤال المثاقفة من أجل المستقبل. الأمر الذي أنجزه بسؤال عن الحضارة إن كانت عن متجذرة أم تناقل ثقافات ؟.. و من ثمّ ميلاد كتابه في التاريخ و الأثار (مخطوط) تحت عنوان اسم النهر باسم محبب اليه :" الأتبراوي حضارة متجذرة أم تناقل ثقافات..؟ ".. طرح السؤال ، و رحل بصمت دون أن يودع احد ، حيث وافاه الأجل في العشرين من ديسمبر 2016م ، و هو القائل:
" ﻻ ﺗﻮﺩﻋﻨﻲ ﻭﺳﺎﻓﺮ .
ﻓﻐﺪﺍ ﻳﺸﺮﻕ ﺻﺒﺢ .
ﻭﻏﺪﺍ ﻳﺒﺮﺃ ﺟﺮﺡ
ﻭﻏﺪﺍ ﺗﺄﺗﻲ ﺍﻟﻔﺮﺍﺷﺎﺕ ﺍﻷﻧﻴﻘﺔ
ﻭﺍﻟﻐﻨﺎﺀ ﺍﻟﺜﺮ ﻏﺎﻣﺮ .
ﻭﻏﺪﺍ تنسى ﺑﺄﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﺍﺳﻤﺎ
ﻣﺮ ﻓﻲ ﻣﺎﺿﻴﻚ ﻋﺎﺑﺮ .
ﺭﺑﻤﺎ ﺗﺬﻛﺮ ﻳﻮﻣﺎ ﺇﻧﻨﻲ ﻛﻨﺖ ﺣﺒﻴﺒﺎ
ﻳﺎﻧﻊ ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ ﺁﺳﺮ .
ﺭﻏﻢ ﻫﺬﺍ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﻲ .. ﺭﻏﻢ ﻫﺬﺍ ﻻ ﺗﻮﺩﻋﻨﻲ ﻭ ﺳﺎﻓﺮ ".

و السؤال: هل طواه النسيان حسب كلماته " ﻭﻏﺪﺍ تنسى ﺑﺄﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﺍﺳﻤ / ﻣﺮ ﻓﻲ ﻣﺎﺿﻴﻚ ﻋﺎﺑﺮ"، أم مازال في وميض الذاكرة "ﺣﺒﻴﺒﺎ، ﻳﺎﻧﻊ ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ ﺁﺳﺮ". و في كلا الحالتين على القارئ ان يسافر بلا وداع على أنغام قيثارة أتبرة و القاش .

jaliloa1999@gmail.com
/////////////////////////

 

آراء