بعض حكاوى الحرب .. صور متقاطعة !

 


 

عدنان زاهر
29 June, 2023

 

حكاية أولى

طلب عدمى !
فى كتاب عن حياة روميل، حكى ابنه عن والده القائد العسكرى الفذ الذى لقب فى التاريخ العسكرى بأسم " ثعلب الصحراء " قائلا ....عندما تم القبض على والده، بتهمة التآمر لقلب نظام الفوهرر النازى ابان محاولة اغتيال هتلر الفاشلة، قد عرض جهاز " الجستابو " النازى على والده وهم - يعلمون أن محاكمته علنيا قد تأثر على روح الجند المعنوية باعتباره قائدا مرموقا يحظى باحترام الكثيرين - أن ينهى حياته بنفسه مقابل أن يتم له تشيع رسمى كما سوف تتمتع أسرته بكل الامتيازات الموجودة و دون التعرض لها من أحد.
وافق روميل على الطلب ، و هو يقوم بالتخلص من اشيائه الصغيرة قبل وداع أسرته، و عندما أفرغ جيوبه من النقود التى كانت بها، طلب فى رفق من الأسرة أن يحتفظ ببعض " الماركات الألمانية " معه........فعل ذلك و هو يعلم انه ذاهب الى حتفه و انهاء حياته .
تذكرت القصة و أنا أستمع لصديقى و هو يحكى قصة هروبهم من المنزل مع أسرته جراء القنابل المنهمرة من الطيران السودانى و زخات رشاشات الجنجويد المنطلقة بلا ضابط فى الشوارع، و عند ركوبهم البص المنطلق نحو المجهول، قال لصديقه الذى أتى لتوديعه رافضا المغادرة مع أسرته هامسا ( هل من الممكن أن يقوم برى وروده فى المنزل حتى لا تموت من العطش )
لا أدرى لماذا ارتسمت فى ذهنى فى تلك اللحظات ( قصة روميل و ابنه و الماركات الألمانية ) !

الحكاية الثانية

أطفال !
كانت العربة تنطلق جامحة كأنها هى الأخرى هاربة من جحيم الحرب. الأسرة الصغيرة رغم علقم الفرار، الا أن احساس النشوة المنبثق من امكانية وجود مكان آمن فى هذا الكون، منحهم بعض الأمل و الراحة. الأطفال كانوا مشغولين و فرحين بالذهاب الى أماكن بعيدة عن صوت الدانات المنفجرة، لعلعة الرصاص و هدير طائرات الموت الانتنوفى .
ظلوا ينظرون فى الأرض الجرداء الممتدة امام العربة بلا حدود أو خطوط مرسومة. جهنمية الجو مع رتابة حركة العربة جعلهم يغفون بعض الوقت.
بعد رحلة امتدت خمس ساعات و صلت العربه الى هدفها، وقف السائق و أبطل ماكينة العربة. طلب الوالد من الأطفال النزول و دخول منزلهم الجديد، رفض الأطفال الخروج من العربة أو كما ذكروا لاحقا لوالدتهم فهم ليسوا متعودين على السكن فى البيوت الخربة .عندما اجبروا بالقوة للخروج من العربة كان النحيب و الصياح قد أيقظ سكان " الخرابات " المذعورين و المندهشين........... الذين تكرموا بايواء الأسرة من ظلال الموت !

الحكاية الثالثة

الموناليزا !
لم يكن قرار الرحيل و التخلى عن كل ما حرص على اغتنائه، رعايته و المحافظة عليه طوال هذه السنوات سهلا. الخيارات المتاحة أمامه كانت محدودة، كان أمام خيارين أما أن يغادر أو أن يقتل جراء القنابل المنهمرة من السماء أو بواسطة رصاص " الجنجويد " و قناصيهم المتربصين بالمواطنين الأبرياء فى شوارع الحى و أزقته،اختار قرار المغادرة مستصحبا معه المثل السودانى الذى يقول ( كل شئ ممكن يروح الى الروح... فهى لن تعود )
وقف ينظر الى الكتب التى اصطفت فى ارففها بعناية واهتمام،اللوحات المعلقة فى الجدار لفنانين عالمين و مشهورين ، التحف التى حرص على جمعها طوال عمله و سفره فى ارجاء المعمورة.
نظر بحسرة و حزن الى الكتب التى حرص على اقتناءها منذ أيام مكتبة أمدرمان الوطنية.......تنوعها و تفردها و أماكن شرائها.....المكتبات العامة ، معارض الكتب ،الوراقين الجالسين امام الجامع الكبير ...ميدان أبوجنزير و ميدان البوسته بأمدرمان ، مكتبة مروى و المكتبة الثقافية، سودان بوكشوب ،الاصدارات المهداة اليه بتوقيع مؤلفيها .
الكتاب المصريين، المؤلفين السودانين و الأكادميين ، كتاب الرواية العالميين و الكتاب اليابانيين الذين أدمن قراءتهم، كتب الفلسفة والتاريخ، الشعراء الذين أحبهم محمود درويش ....الفيتورى ....صلاح أحمد أبراهيم ...محمد عبدالحى و صلاح عبدالصبور ....الأبنودى و أمل دنقل ...لا يدرى لماذا أرتسمت فى ذهنه تلك اللحظات قصيدة الشاعر ت س اليوت " الأرض اليباب " .... ......مسح بنظراته الجدار و اللوحات المعلقة ، صور كبار الفنانين ...شاهد بيكاسو....سيزان....ليوناردوا دافنشى....فان جوخ...مونيه.....مايكل أنجلوا لوحات لبعض التشكلين السودانيين النجباء الذين يجهلهم الكثريين. وجد نفسه يناجى بصوت خافض الكتب ...اللوحات ،الشعراء و الكتاب.
أوقف المناجاة ..السرد واسترجاع ذكرى الأشياء ،اخذ حقيبته الصغيرة التى احتوت قميص...بنطال و كتاب صغير من المكتبه أخذه دون حتى أن يعرف عنوانه، و أتجه نحو الباب فقد كانت أصوات الرصاص الدواية تقترب من المنزل.
فتح باب الصالون المطل على الشارع ....و هو يخطوا خارجا ألتفت ليلقى آخر نظراته قبل المغادرة.... لدهشته شاهد " الموناليزا " تحدق به من خلال صورتها المعلقة بعرض حائط الصالون..... و دموعها تنهمر بغزارة !

عدنان زاهر
28 يونيو 2023

elsadati2008@gmail.com

 

آراء