بعض مرتكزات الفكرة الجمهورية (5) – ب

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

"إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"

صدق الله العظيم

*قمة الحضارة،*
*وبداية عدّها التنازلي*

*(1)*
*قمة الحضارة - ما بعد التنوير*

لقد تمّ التحول عن عقيدة التنوير، بصورة تدريجية لكن بإيقاع سريع.. ويرجع هذا التحول إلى عدة أسباب، *أولها، أن وعود التنوير لم تتحقق!!* والوعد الأساسي للتنوير، كان الحياة السعيدة.. يقول برينتون: "المتطرفون على الأقل من أبناء عصر التنوير في القرن الثامن عشر، اعتقدوا أن البشر يوشكون على العيش في مجتمع كامل، مجتمع ينتفي فيه كل ما يعتبره الناس شراً، ولا يبقى فيه غير ما يراه الناس جميعاً خيراً".. وأول ما أيقظ هؤلاء الحالمين من غفلتهم، هو الحروب الطاحنة، والصراعات، والأزمات السياسية.. وأول الأزمات والحروب كان صراع الثورة الفرنسية الدامي، الذي واصلته حروب نابليون.. وكثير من المفكرين الغربيين، لا يعتبرون الحروب الاستعمارية حروباً!! الحروب التي تعنيهم، هي تلك التي تنشب فيما بينهم.. ولذلك، يعتبرون الفترة من 1815م وإلى عام 1853م فترة سلام.. يقول برينتون: "لم تنشب حروب في أوروبا ذات شأن خلال الفترة 1815 -1853م *سوى حروب استعمارية روتينية"*.. وبرينتون هذا يعتبر من المفكرين الموضوعيين، الذين أرَّخوا للفكر الغربي.. لاحظ أنه هو نفسه يقول عن الحروب الإستعمارية أنها "روتينية"!! والشيء الروتيني هو الشيء المتكرر بصورة تجعله أقرب للعادة.. والحروب الإستعمارية هذه، التي يصفها بأنها ليست "ذات شأن"، هي حروب طويلة، فتك فيها الرجل الأبيض بشعوب المستعمرات، بصورة في بعض الحالات، وصلت حد الإبادة التامة!! وهذا ما حدث للسكان الأصليين لأمريكا - "الهنود الحمر".

الحروب التي حطمت تفاؤل التنوير، وقضت على عقلانيته، تتمثل في الحربين العالميتين.. الأولى 1914م – 1919م، والثانية 1939 – 1945م.. خصوصاً الحرب العالمية الثانية.. *فبدل النعيم الوشيك، الذي كان ينتظره رجل التنوير، أشعلت عقلانية الغرب جحيماً، لم ينجُ منه شعب من شعوب العالم*.. وخُتم هذا الجحيم بأكثر الأعمال جنوناً: *إلقاء الولايات المتحدة القنبلتين الذريتين، في هيروشيما وناغازاكي*.. فبعد الحرب العالمية الثانية، وصل *الكفر بالتنوير قمته، وبخاصة الكفر بالعقل والعقلانية*.
لقد ظهرت في الجزء الأول من القرن العشرين، زعامات دموية، قامت بإبادة ملايين البشر، داخل دولها، هذا خلا الحروب الطاحنة التي تسببت في إشعالها.. وكان على رأس هذه الزعامات: ستالين، وماو تسي تونغ من المعسكر الشيوعي.. وموسيليني، وهتلر، من المعسكر الرأسمالي، وغيرهم.. فحلم الحرية والديمقراطية، تمخض عن أسوأ الديكتاتوريات الدموية.. ويجب ملاحظة أن هؤلاء الزعماء، الذين يوصفون بالجنون، تبعهم ملايين البشر، وتعصبوا لهم تعصباً شديداً، الأمر الذي جعل الكثيرين يعتبرون أن *أمر العقلانية، محض وهم!!*
مشكلة هؤلاء الزعماء ليست هي فقط في دمويتهم، وإنما قبل ذلك، في أفكارهم ومعتقداتهم، خصوصاً هتلر وموسيليني.. لقد نشأت فكرة القومية، وانتشرت بسرعة هائلة في الغرب.. بدأت الفكرة بصورة مؤسسة، في إيطاليا، عند ماتزيني، ووجدت تطبيقها، في المجال السياسي، عند موسيليني.. وكانت الدولة الحديثة، قد نشأت بعد حرب الثلاثين، وأعطت الإطار السياسي، للقومية.. فأصبحت الدولة تُعرف باسم (الدولة القومية).. ويرى برينتون أن القومية امتداد للتنوير، فهو يقول: "أخيراً فإن النزعة القومية تلاءمت إجمالاً مع النظرة الكوزمولوجية (الكونية) المتفائلة للقرن الثامن عشر، والتي تسربت إلى عامة المتعلمين من أبناء الغرب في القرن الثامن عشر.. وتبدو هذه الملاءمة في أحكم صورها، وتشكل جزءاً من الآمال التنويرية في عمل الزعيم الإيطالي القومي ماتزيني".. ووصلت القومية إلى حد التقديس.. يقول ماتزيني: "إن ما يصدق على أمة من الأمم يصدق على ما بين الأمم.. فالأمم أفراد الإنسانية.. والتنظيم القومي الداخلي هو أداة الأمة لإنجاز رسالتها في العالم.. والقومية مقدسة، وقد تألفت بفضل العناية الإلهية، لتمثل في إطار الإنسانية تقسيم العمل أو توزيعه لصالح الشعوب".. كانت البداية مع ماتزيني معتدلة، رغم الإشارات إلى القداسة، ورسالة الأمة، والعناية الإلهية!! ولكن موسوليني وصل بالدولة القومية حد التأليه.. ولكن كارثة القومية الكبرى، جاءت مع هتلر.. الاتجاهات القومية، بطبيعتها
عنصرية، تقوم على مفهوم *(شعب الله المختار)*.. وقد بدأت بصورة صارخة مع اليهود.. وختمت بالقومية العربية.. لكن يعنينا بصورة خاصة، فلسفة هتلر العنصرية المتطرفة، التي عمل على تطبيقها، وتبعه في ذلك ملايين الألمان.. هذه الفلسفة تقوم على مبدأ (سيادة العنصر الآري).. ويرى هتلر في بعض الشعوب الأخرى، أنه من الخير أن تُباد، خدمة للتطور الحضاري، أو يكون الموجود منها عبيداً.. يقول برينتون: "ولكن بالإمكان دفع القومية في اتجاه الهجوم على أفكار التنوير، وليس تعديلها، مثال ذلك، مختلف شعارات القومية التي تمتدح فريقاً قومياً وتسمو به إلى مرتبة السادة، وتهبط بالآخرين إلى مستوى العبيد.. أو التي استهدفت تعمير الأرض بفريق واحد، تراه الشعب المختار، وتعمد بالتالي إلى استئصال الآخرين، فهذه كلها شعارات تتعارض مع المُثل العليا للقرن الثامن عشر.. ولقد كانت القومية الألمانية من هذا النوع الأخير المعادي للتنوير، وبلغت ذروتها في عقيدة النازية".

لقد كانت الحركة الإستعمارية، لا تخلو من روح العنصرية.. فهي قد تعاملت مع شعوب المستعمرات بروح السيادة التي يصحبها الشعور بالتفوق العرقي.. وكانت أوضح صورة لهذه الروح العنصرية، في جنوب أفريقيا، وفي الولايات المتحدة، مع الزنوج، الذين تمّ جلبهم من أفريقيا، في *أسوأ تجارة رقيق عرفها التاريخ*.. وقد استمر التمييز العنصري داخل الولايات المتحدة لفترة طويلة.. وروح الشعور بالتفوق العنصري، يمثلها الزعم بما سُمِّي (عبء الرجل الأبيض).. فالعبارة لا تقول، عبء الرجل المتحضر، وإنما تتحدث عن (اللون الأبيض).. يقول برينتون: "وساد بين مواطني البلدان الديمقراطية، خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، شعور بأن بلادهم وأساليب حياتهم هي الأفضل والأسمى، وأن الواجب يقتضيهم العمل سلماً إن أمكن من أجل *فرض هذه الأساليب، على الشعوب السمراء*، وظهرت دراسات مستفيضة عن (عبء الرجل الأبيض) بهدف تبرير ما ظنه مؤلفوها عموماً الواجب الحتمي لتغريب بقية العالم" ..
وفي الواقع، العمل لم يكن من أجل تبرير تغريب بقية العالم، وإنما هو من أجل تبرير إستعماره.. الحديث عن التغريب، هو مجرد محاولة متهافتة لإعطاء الحركة الإستعمارية دافعاً إيجابياً.. والحركة الإستعمارية، لا يوجد خلاف حول أن دافعها كان (سياسياً إقتصادياً دينياً).. وهذا ما يؤكده الواقع في جميع المستعمرات.. ومن يريد إدخالك في أساليب الحياة الغربية، لا يمكن أن يعدمك أو يستعبدك، وينهب خيراتك لمصلحته!! وهذا ما يؤكده برينتون نفسه، في عبارته التالية: "ولكنه ظهر في البلدان ذات التراث الديمقراطي المكين، من آمن بأن الشعوب غير الغربية لا يمكنها في واقع الأمر أن تبلغ شأو الغرب، ولا أن تسمو إلى سمته.. *ومن ثم أولى بها، ولخيرها، أن تبقى إلى الأبد في مكانتها الدنيا، أو أن نساعدهم على الإندثار*.. وثمة أمريكيون من أمثال لوثرب ستودارد، ومادسون جرانت، وبريطانيون مثل بنيامين كيد، أزعجهم (المد الصاعد للعرق)، ودعوا بإلحاح إلى ضرورة عمل شيء ما لوقاية السلالات العظمى البيضاء، صاحبة السيطرة والسيادة وقتذاك.. وها هو ذا الإنجليزي سيسيل رودس، وهو ليس بمفكر نظري بل رجل أعمال حقق ثروة طائلة من جنوب أفريقيا، نراه يؤمن بأن الأنجلوسكسون (أو إن شئت الدول الانجليزية والاسكوتلانديين والويلزيين والأمريكيين) قد بلغوا من الدماثة مستوى لم تبلغه الشعوب الأخرى، وليس بالإمكان أن تدانيهم، ومن ثم يتعين عليهم أن يتحدوا ويسيطروا على أوسع رقعة من الكرة الأرضية، وأن يتكاثروا بأسرع ما يمكن ليعمروا الأرض بسلالتهم".. هذه نفس دعوة هتلر، مع شيء من التلطيف!!.

والعنصرية الغربية، تُفَرِّق بين شعوب الغرب نفسها.. فالألمان مثلاً، يرون أنهم أفضل عنصراً من بقية الشعوب الغربية.. ويدخل ضمن تمايز الألوان اللون (الأشقر) إلى جانب الأبيض.. يقول برينتون: "وينطوي التاريخ الطويل للغرب عملياً على إعلاء إلم يكن للشقرة ذاتها، فهو على الأقل للون البشرة الفاتح".. يقول: "وحدث أن كتب مؤرخ ألماني في عام 1842م يقول: (إن سلالة الكلت على نحو ما نمت وتطورت داخل فرنسا وإيرلندا، اعتادت دائماً التحرك بدافع الغريزة البهيمية، بينما نحن الألمان لا نفعل شيئاً البتة إلا تحت تأثير الأفكار والتطلعات المقدسة حقاً".. وعملياً، في العديد من دول الغرب المعاصر، حكموا على بعض الأشخاص، بعدم الإنجاب، الإجباري، بغرض إبادة العناصر غير القابلة للتحضر.

قَصدنا مما تقدم، أن فكرة التنوير عن الحرية والإنسانية وطيبة الطبيعة البشرية، *لم تصمد، وانهارت في وقت وجيز، وساد ما هو عكسها*.. فالغرب لا يملك أي منهاج تربية، يمكن أن يؤدي إلى الأصل الخيَّر للطبيعة البشرية، ووحدة هذه الطبيعة عند جميع البشر، على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم.. بل إن فكرة المساواة والعدل، حسب إطار التوجيه للحضارة الغربية، هي في الأساس مستحيلة!!.

إن ما نتحدث عنه من أمر الفاشية والنازية، وتجارة الرقيق، والتفرقة العنصرية، لم يمض عليه قرن، فهو يعتبر أمراً معاصراً، وصل قمته في نهاية النصف الأول من القرن العشرين.
أكثر من ذلك، حاول الفكر الغربي، استغلال بعض مجالات العلم، لتأييد اتجاهاته العنصرية.. فنظرية التطور الدارونية، نشأ منها ما يُسمى (الداروينية الاجتماعية)، كعنصرية تحاول استغلال العلم.. وكذلك الحال بالنسبة لنظريات الوراثة.

نخلص من ذلك إلى أن المبدأ الإنساني بالنسبة لعصر التنوير، لم يكن أكثر من شعار، إنهار بسرعة، وحل مكانه ما هو نقيضه!!

*(2)*

*إنهيار العقلانية:*

المبدأ الأساسي للتنوير، هو العقلانية.. والاعتماد على العقل وحده، هو ما تقوم عليه الحضارة الغربية بصورة أساسية، في جميع أوقاتها.. لكن في عصر التنوير *تم رفع العقل إلى درجة التأليه!!* فهو قادر على فهم جميع الأمور، ومستغنٍ عن أي شيء خلافه، بما في ذلك الله نفسه!! *ومن هذه القمة الشاهقة، سقط العقل، خصوصاً في النصف الثاني للقرن العشرين، إلى مستوى من التحقير، لم يلحق به في أي فكر إنساني آخر!! لقد حدثت ثورة ضد العقل* والعقلانية، أطلق عليها المفكر الغربي كرين برينتون، في كتابه (تشكيل العقل الحديث)
اسم (الهجوم ضد العقل)!! *وهذه الفوضى هي ما انتهت إليه الحضارة الغربية، في وقتنا الحالي*.
ونحن هنا، سنتناول القضية بإيجاز.. ونبدأ من الذين ربطوا مواقفهم من العقل بالطبيعة الإنسانية.. ومن هؤلاء علماء النفس، ومن أشهرهم سيغموند فرويد، وبافلوف، وسكينر.. يقول برينتون عن موقف فرويد: "ولقد كان إسهام فرويد في مجال نزعة معاداة العقل المعاصرة إسهاماً عظيماً للغاية.. وإن أعماله،
بالإضافة إلى أعمال بافلوف، وكثيرين غيرهما من علماء النفس، وعلماء وظائف الأعضاء، تؤكد تأكيداً شديداً على اتساق الأفعال البشرية، التي لا تشارك فيها أبداً، أو تشارك فيها بقدر ضئيل أداة الفكر التقليدية – العقل عند أرسطو والقياس المسيحي، والعقل عند لوك والموسوعيين، بل حاسة الاستنتاج عند نيومان.. وأصبح العقل في نظر أعداء التفكير العقلي نتاج *الاستجابات التلقائية* سواء طبيعية أم شرطية، ونتاج كل أنواع الدوافع اللاشعورية والحوافز وليدة التقاليد والعادات الاجتماعية، بل والأسس اللاهوتية والميتافزيقية الناجمة عن التهذيب في مرحلة باكرة من العمر، والجانب الإشراطي في أسلوب الفرد في الاستجابة للحاجة إلى اتخاذ قرار، ويرى المؤمن بنزعة العداء للعقل أن الفكر الإستدلالي الواقعي عند الفرد بالقياس إلى الجزء الباقي من حياته، يكاد يكون أقل من الجزء الصغير المرئي من جبل الثلج فوق سطح الماء بالقياس إلى الحجم الكلي لجبل الثلج".. ويرى فرويد أن الناس يعملون ويتصرفون في حياتهم وفق مجموعة من الدوافع، أطلق عليه اسم (الليبيدو)، وربط بينها بصورة وثيقة وبين الرغبات الجنسية.. ثم أطلق عليها اسم (الهو)، وهو عنده، جزء من اللاشعور.. والهو هو الذي يرغب ويشتهي ويدفع الفرد إلى الفعل.. ويذكر فرويد جانبين أخرين هما (الأنا) و (الأنا الأعلى).. والأنا عنده جزء في الحياة العقلية الواعية للإنسان، وهو الحكم والرقيب على مصالح الكائن الحي، ولكن نشاطه ليس نشاطاً منطقياً محضاً، فوظيفته هي أن يفصل بين الرغبات المتصارعة الصادرة عن الهو، فهو يقمع بعض هذه الرغبات، إذا رأى أنها ضارة أو تثير الخزي.. ولكن هذه الرغبات تستمر قوية فعالة داخل الهو اللاشعوري، وقد يتسامى بعضها.

ليس من الضروري أن نفصِّل هنا، في الحديث عن بافلوف ومبدئه عن (الأفعال المنعكسة الشرطية) ولا عن سكينر.. فقط المهم عندي أنهم يعادون العقل من منطلق علم النفس، وفي عموم الحال، نزعة العداء للعقل لا تلغي دوره تماماً، وإنما تؤكد على ضعف دوره في حياة البشر.. يقول برينتون: "ونزعة العداء للعقل ابتداءً من أكثر صورها بساطة وبراءة، إلى أكثرها تعقيداً، *تؤكد في جميع الأحوال على الدور اللا عقلي في حياة البشر".. فالأمر في معظمه حديث عن واقع دور العقل والفكر في حياة البشر، أكثر من أنه موقف مبدئي ضد العقل.. هذا وإن كان الموقف المبدئي ضد العقل كوسيلة للمعرفة موجوداً!!*

*(3)*

*البراغماتية وما بعد الحداثة والعقل:*

البراغماتية فلسفة تعددية ترفض وحدة الكون، أكثر من ذلك هي ترفض وجود أي حقيقة، وهي ضد العقلانية ومعادية لها!! يقول جون ديوي: "أما الحقيقة الموضوعية البحتة، الحقيقة التي لا يؤدي في إرسائها ورسوخها أي دور مهما تكن وظيفة منح الرضا والإكتفاء والإشباع الإنساني في ترويج الأجزاء السابقة من الخبرة، بالأجزاء الجديدة اللاحقة، *فهذه حقيقة لا وجود لها في أي مكان*" .. فما يسميه الناس حقيقة، عنده هو مجرد ترويج "للأجزاء السابقة من الخبرة، بأجزاء جديدة".. ويقول عن البراغماتية: "فهي تتفق مثلاً مع مبدأ الاسمية في كونها تلجأ دائماً للاصطفائية في التفاصيل الجزئية، وتتفق مع مبدأ النفعية في توكيدها للنواحي العملية، وتتفق مع الفلسفة الوضعية في ازدرائها للحلول الكلامية، والأسئلة العديمة الجدوى والتجريدات الميتافيزيقية".

وهذه كلها – كما ترون – *إتجاهات مضادة للمذهب العقلي.. وضد المذهب العقلي كدعوة وطريقة نجد البراغماتية مسلحة تسليحاً كاملاً وجهادية*".. ويقول عنها أيضاً: "وليس لها أية عقائد يقينية أو جزمية او أية مذاهب او مبادئ، اللهم سوى طريقتها ومناهجها".. يقول عن اختلاف البراغماتية مع المذهب العقلي: "وهكذا، تماماً تولي البراغماتية وجهها شطر المستقبل، نجد أن المذهب العقلي، يولي وجهه ثانية، هنا، إلى الخلف هنا شطر الخلود الماضي.. وإخلاصاً لعادته المتأصلة، فان المذهب العقلي ينكفئ إلى المباديء، ويعتقد أنه بمجرد أن يسمي (مجرداً) ما، فإن لدينا حداً فاصلاً قاطعاً".. ويواصل فيقول: "إنني أرغب في غضون ذلك، في أن أختم هذه المحاضرة بأن أبين سمو المذهب العقلي لن ينجيه من *الخبل العقلي*".. في البراغماتية، المنفعة هي ما يحدد ما هو صواب وحقيقي، وما هو ليس كذلك!! يقول ديوي: "إن الحقيقة في أوجز عبارة (ليست سوى النافع المطلوب في سبيل تفكيرنا، تماماً كما أن الصواب ليس سوى الموافق للنافع المطلوب في سبيل مسلكنا".. بالطبع، المنفعة عندهم هي منفعة مادية دنيوية.
وعن رفض ما هو كلي والتمسك بالجزئيات، عند البراغماتيين، يقول د. زكريا إبراهيم، عن وليم جيمس: "وما دام العالم (كما يراه جيمس) هو عبارة عن مجموعة من الجزئيات، فلا بد من التعلق بالجزئي، بدلاً من الاقتصار على النظرة إلى الكليات.. وهنا نجد أن الفلسفة العملية تريد أن تتعلق بالشخص، بدلاً من أن تكتفي بالنظر إلى المجرد، لأنها ترى بأن الصفة المميزة للفيلسوف المحدث، هي أنه يفهم بالمدركات، لا بالمفهومات أو التصورات.. والواقع أن الفيلسوف العملي أو (البراغماتي) أنما هو ذلك الذي يقترب من الأشياء وينظر إليها عن كثب، بدلاً من أن يحلق في أجواء الفضاء كما يفعل *الفيلسوف الواحدي* الذي ينظر إلى الأشياء من علياء سمائه، فيراها تختلط بعضها ببعض، *بدلاً من أن يرى كل شيء على حِدة في وضوح وتمييز*.. والفلسفة العملية بهذا المعني هي فلسفة اسمية لا تؤمن إلا بالجزئي، أو الفردي، أعني أنها تجزئ الواقع وتحلله، *بعكس تلك المباديء المطلقة التي تؤمن بأن هناك حقيقة كلية شاملة*.. وتبعاً لذلك فإن الفلسفة العملية تؤكد أننا نستطيع أن نعرف جوانب مختلفة من الواقع أو أجزاء متعددة من الوجود الخارجي دون ان نحيط علماً بكل ذلك الواقع أو بوحدة ذلك الوجود الخارجي العام، ولكننا إذا أردنا أن نسلم بأن مثل هذه المعرفة الجزئية ممكنة، فلا بد لنا أيضاً من أن نسلم بأن أجزاء الواقع *مستقلة بعضها عن بعض*، وهنا تتمثل الفلسفة العملية على شكل مذهب واقعي يقول بأن الأشياء مستقلة عن العقل المدرك، وان ثمة واقعاً تشيع فيه الكثرة والتعدد".. هذا النص يلخص جوهر البراغماتية.. والبراغماتية بصورة عامة، هي التي تمثل إنسان الحضارة الغربية عملياً، عرف هذا الإنسان البراغماتية أو لم يعرفها!! والبراغماتية هي النقيض لمبدأ التوحيد الديني، كما أنها نقيض للفكرة العلمية الحديثة، التي ترد الكون كله، بكل اختلافاته إلى (مفردة)، انبثق منها كل شيء – نظرية الإنفجار العظيم.

قلنا إن حلم، حركة التنوير بالسعادة، وجنة الأرض، انتهى إلى شقاء وجحيم الحربين العالميتين الأولى والثانية – خصوصاً الثانية.. وحلم الحرية والديمقراطية، انتهى إلى أبشع وأعنف الدكتاتوريات، والأنظمة الشمولية عند: هتلر، وموسليني، وستالين، وماو، وغيرهم، ممن عرفهم النصف الأول للقرن العشرين، وعرف معهم أبشع صور الإبادة الجماعية، والابتكارات الشيطانية في أساليب التعذيب.. وكان طبيعياً أن تحدث ردة فعل ضد أحلام التنويريين.. وكانت ردة الفعل هذه، هي ما عُرف باسم (ما بعد الحداثة).. وهي ردة فعل عنيفة، ورافضة لكل ما له صلة بالتنوير ومبادئه وأحلامه.

يقول ديفيد هارفي عن التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة: "وجاء القرن العشرين يمزق ذلك التفاؤل إرباً، عبر معسكرات الموت، وفرق الموت، وعبر العسكرة، والحربين العالميتين، وخطر الفناء النووي وتجربته بالفعل في هيروشيما وناغازاكي، بل أنه ضمن، وعلى نحو أسوأ، أن يكون مشروع التنوير قد حُكم عليه *أن يتحول إلى عكس ما يعلنه*، وأن يتحول مطلب التحرر الإنساني إلى نظام *اضطهاد عالمي باسم تحرير البشر*.. تلك كانت الأطروحة الجريئة التي تقدم بها هوركهايمر وأدورنو في عملهما (ديالكتيك التنوير) الصادر عام 1972.. لقد حاولا البرهنة، وفي الذهن تجربة ألمانيا هتلر وروسيا ستالين، على أن *المنطق الذي يقبع خلف عقلانية التنوير هو منطق هيمنة وإضطهاد*.. والتلهف على *السيطرة على الطبيعة جلب معه السيطرة على البشر*، ولم يكن يمكن أن يوصل ذلك في النهاية (إلا إلى كابوس قهر الذات).. وهكذا جرى تصور تمرد الطبيعة البشرية بالذات على سلطة الإضطهاد لدى *العقل الأدوي* الصرف، ضد الثقافة والشخصية..".. [كلمة (أدوي) هي تعريف لكلمة Instrumental.. وهي الكلمة التي تعبر عن موقف ما بعد الحداثيين والبراغماتيين، من العقل.. فهو عندهم مجرد أداة للعيش، وليس وسيلة للمعرفة!!] وهذا هو المصير الذي صار إليه العقل والعقلانية، في النصف الثاني من القرن العشرين!!
ما بعد الحداثة ضد الوحدة، ومع التعدد والتباين والاختلاف (الكولاج).. وضد الانتظام، ومع التشظي، وخصوصاً ضد ما هو كلي.. يقول ديفيد هارفي: "ولكن طالما أننا لا نستطيع، كما يشدد مفكرو ما بعد الحداثة، أن نطمح إلى أي تمثيل موحَّد للعالم، ولا تصويره كُلاً مشتملاً على روابط وتمايزات، وليس مجرد شظايا في حالة تغيير مستمر؟ الإجابة ما بعد الحداثية ببساطة هي، أنه طالما أن كل صورة متجانسة هي إما قمعية أو وهمية (محكوم عليها بالتالي أن تتغير وتنكسر)، فعلينا بالتالي ألا نحاول الارتباط بأي مشروع له طابع كلي.. وهكذا تغدو الذرائعية (من النوع الديوي) هي الفلسفة الوحيدة الممكنة".. [كلمة (الديوي) إشارة للمفكر البراغماتي، جون ديوي، وهي بالتالي إشارة للبراغماتية..] وهذا ما عليه واقع حياة الناس، فالحياة فعلياً تقوم على الذرائعية!! يتحدث ديفيد هارفي عن (رورتري) - أحد مفكري ما بعد الحداثة - عن موقف ما بعد الحداثة من الفلسفة فيقول: "ومثله رورتري الذي يخلص، في معرض هجومه على فكرة الأمل في دور الفلسفة في تعريف إطار إبستمولوجي (معرفي) دائم للبحث، إلى التشديد إلى أن الدور الوحيد المتبقي للفيلسوف وسط هذا الخليط أو النشاز الثقافي، هو (إدانة فكرة أن يكون لك موقف، أو يجب أن يكون لك موقف ممن لهم مواقف).. إن الخاصية المجاوزة للخيال، كما يُخبرنا كُتاب ما بعد الحداثة، هي باعتبارها (تقنية تنشد تعليق التصديق وتعليق عدم التصديق كذلك).. وفي ما بعد الحداثة هناك دعوة واضحة لتعليق الاستمرار والإيمان بالقيم والاعتقادات، أو حتى باللااعتقادات كذلك.

هذا الافتقار للاستمرارية التاريخية
في القيم والاعتقادات يُضاف إليه اختزال العمل الفني إلى مجرد نص رمزي متقطع في الزمن، رفض على الحكم النقدي الجمالي مشكلات من كل نوع.. فرفض (أو عملية تدمير) كل المعايير الثابتة للحكم الجمالي باعتبارها معايير سلطوية، لا يبقى للحاكم على ما بعد الحداثة غير إمكانية للحكم على مشهدية المشهد لا أكثر".. فما بعد الحداثة ثورة ضد كل مباديء وأحكام القيمة!! فمثلاً بارينو، أحد كبار رموز ما بعد الحداثة، يقول عنه برينتون: "علاوة على هذا فإن بارينو يستثير بشدة الكثيرين من قرائه، لإصراره في حماس شديد، أنه الأول دون سائر البشر الذي عمد إلى دراسة العلاقات الإنسانية بروح العالم النزيه المحايد، بعد أن طرح جانباً كل أحكامه القيَّمية خارج نطاق بحثه، أو مؤكداً، كما قال بالفعل، على أنه لا يصدر أحكام قيَّمية على الإطلاق".. ويقول عنه: "إن كراهيته الشديدة تتركز ضد أولئك البشر ممن يسميهم (دعاة الفضيلة) أو الاصلاحيين المقاتلين الذين يتوسلون بالتشريعات وبالإجراءات البوليسية، وربما ببعض التعليم، لكي يمحو من على وجه الأرض مظاهر الشذوذ الجنسي والمشروبات الكحولية والمغامرة، وغير ذلك من الرذائل".. ويقول هارفي، عن بيرمان ولوكاتشي، في وصفهما للحضارة الغربية، بأنها حضارة (فاوستية) ما نصه: "وتبدو صورة (التدمير الخلاق) في غاية الأهمية لفهم الحداثة، لأنها نابعة تماماً من المآزق العملية التي واجهت تطبيق المشروع الحداثي، إذ كيف يمكن في النهاية، أن يقوم عالم جديد من دون تدمير العالم الذي كان موجوداً من قبل؟ والإجابة عند سائر مفكري الحداثة، من غوتة إلى مامو، هي أنك ببساطة لا تستطيع صنع طبق جعة من دون كسر البيض الضروري لذلك، أما نموذج هذا المأزق، بحسب بيرمان ولوكاتشي، فتجده جلياً في (فاوست) للفيلسوف الألماني غوتة.. و(فاوست) البطل الملحمي المستعد لتدمير الخرافات الدينية، والقيم التقليدية والتقاليد، لبناء عالم جديد شجاع، من رماد العالم القديم، (فاوست) هذا نموذج تراجيدي.. يجبر (فاوست) نفسه، وكل الآخرين (بمن فيهم الشياطين) بالفكر والعمل معاً، على طلب الحد الأقصى من التنظيم، والألم والكد، وصولاً إلى السيطرة على الطبيعة، وخلق مشهد جديد، رائع وسامٍ، يستوعب كل الطاقات الكامنة والكفيلة بتحرير البشرية من الفاقة والحاجة.. ولإظهار إرادة إزالة كل ما يعيق ولادة هذا العالم الجديد السامي، لا يتورع فاوست في منتهى رعبه، عن ترك شياطينه تقتل زوجين متحابين طاعنين في السن، يعيشان في كوخ صغير على شاطئ البحر، لا لسبب إلا لكونهما ببساطة لم يعودا ملائمين للعيش طبقاً لتصميم العالم الجديد، ويبدو بحسب بيرمان، أن عملية التطور نفسها، تحيل الأرض البرية إلى مكان طبيعي وإجتماعي ومثمر، تعيد زرع البري هذا داخل الإنسان الذي أنجز العملية.. تلك هي مأساة عملية التطور" .. أي بمعنى آخر: الإنسان خرج من الغابة، واحتفظ بقيَّم الغابة داخله!!.

رفض ما بعد الحداثة، للعقل والعقلانية، ليس مجرد ثورة مؤقتة، وإنما هو زعم بأن هذا ما تقوم عليه الطبيعة البشرية!! يقول برينتون: "وتؤكد نزعة العداء للعقل، مقابل هذا المعتقدات الديمقراطية، *إيمانها بأن البشر ليسوا في الواقع، ولا يمكنهم، الاهتداء بالعقل، حتى مع توفر أفضل نظام تعليمي*، وأن الدوافع والأفعال المنعكسة الشرطية هي التي تحكمهم، في الغالب الأعم، ولا سبيل إلى تغييرها سريعاً، أي أن هنالك باختصار شيئاً ما في طبيعة الإنسان يجعله الآن، وفي المستقبل القريب، يسلك على نحو لا يختلف كثيراً عن سلوكه في الماضي".

*من الموكد عندنا، أن الخلل ليس في العقل، ولا في الطبيعة البشرية، وإنما هو في تصور الغرب لهما*.. أهم من ذلك، الخلل، كل الخلل، في الإطار المرجعي الذي تقوم عليه الحضارة الغربية.. الخلل في نظرتها للوجود، وللطبيعة البشرية، وبالتالي طبيعة العقل، وطبيعة الفكر، فمع هذه النظرة، من المستحيل في أي وقت من الأوقات، أن تصل الحضارة الغربية إلى التفكير المستقيم، الذي يستجيب لتحديات الواقع.. فثورة ما بعد الحداثة، ضد التنوير، وضد العقل، هي عمل في *هدم الخطأ، ولكنها لا تملك، بأي حال من الأحوال، الوصول إلى الصواب*.

في إجابة على السؤال بماذا يؤمن الغرب؟ أجاب كارل بوبر، فيلسوف العلم الكبير، بقوله: "إنني أعرف تماماً أن *العقلانية والتنوير لم يعودا من الأفكار العصرية* ـ ويصبح من السخرية، إذاً أن أصر على أن الغرب يؤمن بهذه الأفكار واعٍ بذلك أو غير واعِ".. وبوبر يرى، مع ما ذُكر، أن العقلانية لعبت دوراً بارزاً في الحضارة الغربية، فيقول: "يمكن أن نميز حضارتنا الغربية، بأنها الحضارة الوحيدة التي لعب فيها التقليد العقلاني دوراً بارزاً".. هذا فيما ما مضى – في عصر التنوير – أما الآن، يقول بوبر: "إنني آخر بقايا التنوير، الحركة التي مضى زمانها منذ أمد طويل، والتي اتضحت ضحالتها، وسذاجتها بشكل مقزز حقاً.. وهذا يعني أنني عقلاني، وأنني اعتقد في الحقيقة وفي العقل البشري، وهو لا يعني بالطبع أنني اعتقد في أن العقل البشري قوة كلية القدرة".. قوله: "وهو لا يعني بالطبع أنني اعتقد في أن العقل البشري قوة كلية القدرة".. هذا هو جوهر القضية.. وقد رأينا أن دعاة التنوير يعتقدون أن العقل كلي القدرة، وما لا يدركه اليوم، سيدركه غداً.. فهو لا يحتاج لغيره، حتى ولا الله نفسه!! فعندهم قوانين الطبيعة بطبيعتها منظمة بالصورة التي تمكن العقل من أن يدركها، والعقل هو الآخر، مؤهل لفهم الطبيعة، ولا يوجد شيء خارج الطبيعة.. فالله تعالى، فرضية لا حاجة لها، كما يُنسب للابلاس..

أقول إن هذا جوهر القضية، لأن كل شيء متعلق بالفكر يعتمد عليه.. *فإذا كان العقل كلي القدرة، فهو يستطيع أن يستغني عن أي شيء.. وإذا كان ليس كلي القدرة، فهو يحتاج لغيره، وطبيعي أن يكون ما يحتاج له هو أكمل منه، وإلا فلا معنى له!!* وفي وقتنا الحاضر، لا اعتقد أن هنالك من يقول بأن العقل كلي القدرة.. وأساساً عند جماعة التنوير، عندما قالوا أن العقل كلي القدرة، كانت عقيدتهم في العلم المادي التجريبي، ومنهجه.. أما الآن، فإن العلم هو من يدحض الزعم بأن العقل كلي القدرة.. وهو – العلم – يقر أن منهجه، لا يملك إمكانية تفسير الكون، بالصورة التي تغني عن كل مجال غيره في المعرفة.. وخطأ التصور الغربي، خطأ أساسي، يتعلق بتصوره لطبيعة الوجود والطبيعة الإنسانية.. ولذلك هو خطأ لا يمكن تصحيحه في إطار التوجيه الذي تقوم عليه الحضارة الغربية، فلا بد من إطار توجيه مختلف.. فإطار التوجيه الذي تقوم عليه الحضارة الغربية، يرفض وجود أي شيء وراء الطبيعة، أو على أحسن الأحوال هو يرى أن ما وراء الطبيعة، إن وجد، فهو لا دخل له فيما يجري في الطبيعة.. هو يرفض المطلق – الذات الإلهية.. *ولهذا السبب دي بالذات، لا يملك أي إمكانية لتجاوز العقل (الأداتي)، عقل المعاش.*
ومن حيث المبدأ، *لا بديل على الإطلاق للعقل*، لذلك تصبح القضية: ليست عقل أو لا عقل، *وإنما هي أي عقل!؟*
عملياً، كارل بوبر، طالما أنه حكم على العقل بأنه ليس كلي القدرة، فهو يختلف مع عقلانية التنوير، وإن قال خلاف ذلك!! ثم ان بوبر لا يبعد كثيراً عن (ما بعد الحداثة)، ويظهر هذا من إجابته على السؤال: بماذا يؤمن الغرب؟ يضع بوبر السؤال هكذا: "تبدو العقلانية عند الكثيرين، وقد فات زمانها، أما العلم فقد أصبح عند الكثيرين من الغربيين، أولاً شيئاً غريباً، ثم غدا بعد القنبلة الذرية، شيئاً بشعاً لا إنسانياً.. إذاً بماذا نؤمن الآن؟ بماذا يؤمن الغرب؟".. ويجيب بوبر على السؤال بقوله: "فإذا تفكرنا بعمق في هذا السؤال، وحاولنا الإجابة عليه بأمانة، *فإن معظمنا قد يعترف بأنا لا نعرف حقاً بماذا نؤمن*.. لقد أدرك معظمنا في وقت أو في آخر – أننا نؤمن بنبي زائف، وبإله ما زائف من خلال هذا النبي الزائف.. لقد خضنا جميعاً جيشاناً في معتقداتنا.. وحتى من بقيت معتقداته راسخة عبر كل هذا الجيشان، سنجده يعترف بأن من الصعب عليه اليوم أن يعرف ما الذي نؤمن به في الغرب.. ربما بدت هذه الملاحظات سلبية جداً، أعرف الكثير من الناس الطيبين الذين يعتبرون أن من ضعف الغرب عدم عثوره على فكرة مساندة موحدة، على عقيدة موحدة نعارض بها في فخر دين الشيوعية في الشرق.. وهذه الرؤية الشائعة مفهومة حقاً، لكنني اعتقد أنها خاطئة تماماً.
لنا أن نفخر ان ليس لنا فكرة واحدة، بل الكثير من الأفكار، طيبة وخبيثة، أن *ليس لنا اعتقاد مفرد*، دين واحد، وإنما العديد، طيب وخبيث.. إن قدرتنا على هذا دليل على قوة الغرب الفائقة.. إن إتفاق الغرب على فكرة مفردة، على اعتقاد مفرد، ودين واحد، ستكون فيه نهايته، استسلامنا غير المشروط لفكرة الشمولية".. هذا موقف لا يختلف كثيراً عن (كولاج) ما بعد الحداثة.. في الواقع، الغرب يؤمن بدين واحد هو العلمانية.. وكل هذه الاختلافات، لا تخرجه من دين العلمانية.. ولكن العلمانية نفسها، دين لا يملك أي مقومات لتوحيد أتباعه.. فكل الاختلافات، المذكورة وغيرها، هي في إطار العلمانية.. وقد ازدادت الاختلافات في وقتنا الحالي، لأن *جميع أسس العلمانية اهتزت* بصورة تؤدي إلى نهايتها.. *فالعقلانية*، رأينا ما وصل إليه الأمر في نهايتها من رفض للعقل نفسه.. والركيزة الثانية، *المادية*، انتهت بصورة نهائية عن طريق تطور العلم – وهذا ما سنناقشه لاحقاً – أما *الدنيوية* فهي أكثر أعمدة العلمانية رسوخاً، في ظل الرأسمالية المعاصرة، ولكنها فشلت تماماً في تحقيق السعادة المنشودة.. بل على العكس الشقاء في ازدياد!!

من المؤكد أن الغرب، بلا مذهبية، تملك أن توحد الناس حولها.. يقول الدكتور زكريا إبراهيم في عنوان جانبي له (لا مذهبية في الفكر المعاصر)، يقول: "لقد أصبح (الإنسان) لا (المذهب) هو يعني الفيلسوف المعاصر.. فليس بدعاً أن نرى معظم المفكرين في القرن العشرين ينددون بالروح المذهبية..".. الوحدة الفكرية، هي حاجة الإنسانية الأساسية.. هذه الإنسانية التي توحدت جغرافياً، لا بد لها من أن تتوحد فكرياً.. والوحدة الفكرية، لا تعني "الاستسلام غير المشروط بفكرة الشمولية"، كما يقول بوبر، وكما أوهمتهم التجربة الماركسية.. فالوحدة الفكرية لا تتم إلا على أساس من الحقيقة.. وفي التوحد على أساس الحقيقة.. لكل فرد فرديته التي تميزه عن الآخرين.. فالحقيقة لا تتجلى لشيئين، تجلياً واحداّ، في وقتٍ واحدٍ.. فالاختلاف لا يكون قيمة إيجابية لمجرد الاختلاف، وإنما يكون قيمة إيجابية عندما يقوم على التنوع، الذي يحقق فيه كل فرد، فرديته، التي ينماز بها عن الآخرين، ثم هو في توافق معهم.. تحقيق الفردية لا يكون بالتناقض مع البيئة الاجتماعية أو الطبيعية.. الأمر على عكس ذلك، هو يكون في الوحدة، التي يكون فيها الجميع سيمفونية واحدة، داخل هذه السيمفونية لكل فرد نغمته الخاصة، التي تميزه، ثم هي في وحدة واتساق مع بقية النغمات.
الوحدة الفكرية لا تكون إلا على أساس الالتفاف حول الحقيقة الواحدة.. والحقيقة بطبيعتها واحدة، ولا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك.. الاختلاف حول الرؤية الواحدة للحقيقة، إنما يأتي من أن الأفراد يرون أوجهاً من الحقيقة ولا يرون الحقيقة كلها.. وهذا ما يصوره فيل كريشنا.. يقول كولون ويلسون: "هناك قصة لراما كريشنا عن مجموعة من العميان وقفوا حول فيل، أحدهم أمسك بخرطومه وقال: أنه يشبه التنين، وأمسك الثاني بساقه وقال: أنه يشبه جذع شجرة، وثالث أمسك بذنبه وقال: أنه يشبه قطعة الحبل، ورابع وقف تحت بطنه وقال: كلكم على خطأ.. أنه يشبه حقيبة جلدية كبيرة".. فإذا أبصر العميان فسيرون الفيل – الحقيقة - كما هو ويتخلون عن نظرتهم الجزئية.. فعلينا أن نبصر جميعاً، حتى نستطيع أن نرى الحقيقة الواحدة.. فتعدد الحقيقة يعني غياب الحقيقة، كما هو واضح من مثل العميان والفيل!!.. وكارل بوبر من الذين يؤمنون بالحقيقة، وعنده: *"المعرفة هي البحث عن الحقيقة*".. ويقول: *"الحقيقة إذن هي هدف العلم.. العلم هو البحث عن الحقيقة*.. فإذا لم نستطع (كما يرى زينوفانيس) أن نعرف ما إذا كنا قد بلغنا هذا الهدف، فإن لدينا على الأقل من الأسباب القوية ما نفترض معه بأنَّا قد اقتربنا من الحقيقة أكثر أو كما يقول آينشتين: - "بأنَّا على الطريق الصحيح."..

*الوحدة الفكرية تعني أن نكون جميعاً على تصور واحد للحقيقة الواحدة بطبيعتها.. وأن نكون على الطريق الصحيح المؤدي لهذه الحقيقة.. وفي هذه المسيرة، لكل فرد موقعه الذي يختلف عن الأفراد الآخرين* – هذا أمر سيتضح أكثر عندما نتحدث عن الإسلام.

مشكلة الفكر الغربي الأساسية، هي أنه لم يعد يؤمن بأن هنالك حقيقة واحدة، أو حتى يرى أنه لا وجود لأي حقيقة كما يرى البراغماتيون، ومفكرو ما بعد الحداثة.. يقول جون ديوي مثلاً: "أما الحقيقة الموضوعية البحتة، الحقيقة التي لا تؤدي في إرسائها ورسوخها أي دور مهما تكن وظيفة منح الرضا والاكتفاء والإشباع الإنساني في ترويج الأجزاء السابقة من الخبرة بالأجزاء الجديدة اللاحقة، فهذه حقيقة لا وجود لها في أي مكان على الإطلاق".. فالحقيقة عنده، مجرد خبرة بشرية ليس لها مقابل موضوعي!! يقول د. زكريا إبراهيم عن الحقيقة عند وليم جيمس "الحقيقة في نظر وليم جيمس ليست صفة (ساكنة) أو (خاصية باردة) في أية فكرة من الأفكار".
عدم وجود حقيقة أو تعددها، يعني بالضرورة عدم وجود معرفة موضوعية، وهذا ما يقود إلى (النسبوية) التي نمت في الفكر الغربي، وكذلك (الذاتية).. وكِلاهما ضد الموضوعية.. فهما يريان أنه لا وجود لمعرفة موضوعية يمكن أن يشترك فيها الناس.. فالمعرفة ذاتية، فيها كل فرد يرى الموضوع بصورته الخاصة، التي تختلف عن الآخرين، ولا يمكن وجود رؤية واحدة مشتركة، حتى للموضوع الواحد.. بالطبع الواقع يكذب هذا التصور بداهةً.. يقول كارل بوبر: *"النسبوية هي إحدى الجرائم العديدة التي ارتكبها المثقفون.. إنها خيانة للعقل وللإنسانية*.. إنني اعتقد أن ما يُدَّعى من نسبية الحقيقة، التي يدافع عنها بعض الفلاسفة، إنما تنشأ عن الخلط بين معنى الحقيقة ومعنى اليقين".
لخص إريك فروم أسباب فشل الوعد العظيم، كما يراها، في نقاطٍ هي صحيحة، ولكنها لا تمثل جوهر القضية!! فهو يقول: (الحق أنّ العصر دي الصناعي أخفق في الوفاء بوعده العظيم.. ويوماً بعد يوم، يتزايد عدد الناس الذين أصبحوا مدركين لما يأتي:
1. إنّ إشباع كل ما يعنّ للناس من رغبات، بغير حدود، لا يوصل للحياة الطيبة، وليس هو السبيل إلى السعادة، ولا حتى المتعة القصوى.
2. إنّ حلمنا بأن نكون السادة الأحرار لحياتنا قد انتهى، وذلك عندما بدأنا نتنبه إلى أننا جميعاً قد أصبحنا مجرد تروس في الآلة البيروقراطية، وأن الصناعة والحكومة وأجهزتهما الإعلامية هي
التي تشكل مشاعرنا وأفكارنا وأذواقنا وتتلاعب بها كما تريد.
3. إنّ التقدم الصناعي ظل مقتصراً على الأمم الغنية، وأن الهوة التي تفصل الأمم الغنية عن الأمم الفقيرة تزداد اتساعاً يوما بعد يوم.
4. إنّ التقدم التكنولوجي نفسه، قد خلق مخاطر إيكولوجية (أي تهدد البيئة الطبيعية) ومخاطر الحرب النووية، وهذه أو تلك، أو كلتاهما معاً، يمكن أن تكونا السبب في إنهاء كل أشكال الحضارة، وربما كل أشكال الحياة على ظهر هذا الكوكب..

من أراد التوسع فيمكنه الرجوع إلى كتابينا: (الفكر بين الإسلام والحضارة الغربية) و(الإسلام ديمقراطي إشتراكي)

 

يتبع...
خالد الحاج عبد المحمود
رفاعة في 28/3/2023م

 

 

آراء