تحوّل بنيويّ جديدٌ للمجال (للفضاء) العام والسياسة التداولية (التشاورية) (2 ـــ 3)

 


 

 

Jürgen Habermas يورجن هبرماس

تقديم ومراجعة حامد فضل الله/ برلين

لم تحل فكرة أخرى محلّ الفكرة الدينية للشرعية ، بل بالأحرى إجراء التمكين الذاتي الديمقراطي، بحيث يكون حراً ومتساوياً، مما يمكن ممارسة المواطنين، وإضفاء الطابع المؤسس في شكل حقوق ذاتية موزعة بالتساوي. للوهلة الأولى، تبدو فكرة غامضة إلى حدّ ما، إنه من خلال هذا التأسيس القانوني لعملية صنع القرار الديمقراطي، أي من "الشرعية" الخالصة، ينبغي مع ذلك أن يؤدي إلى "شرعية" نتائج مقنعة بشكل عام. ويتمثل جزء أساسي من التفسير في تحليل الأهمية التي يكتسبها هذا الاِجراء من وجهة نظر الأطراف ؛ أي أنه مدين بقوته الإقناعية من تداعي محتمل من شرطين:
يتطلب الاِجراء من ناحية إشراك جميع المتأثرين بالقرارات المحتملة كمشاركين متساوين في تكوين الإرادة السياسية ومن ناحية أخرى، يجعل القرارات الديمقراطية، التي يتخذها الأفراد بشكل مشترك، تعتمد على الطابع الخطابي إلى حدّ ما للمداولات السابقة. فإن صنع القرار الشامل بهذه الطريقة، يعتمد على قوة الأسباب التي يتم حشدها أثناء عملية تكوين الرأي. يتوافق الإدماج مع المطلب الديمقراطي بالمشاركة المتساوية لجميع المتأثرين في تكوين الإرادة السياسية، بينما تتخذ مصفاة (فلتر) التداول في الاعتبار توقع الحلول الصحيحة والمعرفية والقابلة للتطبيق للمشكلات، ويبرر افتراض النتائج المقبولة عقلانيا.
يمكن تبرير هذا الافتراض بدوره بافتراضات قابلة للدحض، هذا في تلك الاعتبارات التي تستعد لاتخاذ قرار بشأن الأغلبية، تتم بقدر الإمكان مناقشة جميع الموضوعات ذات الصلة والمعلومات الضرورية والمقترحات المناسبة للحلول مع الحجج المؤيدة والمعارضة في تلك المداولات استعداداً لقرار الأغلبية. وهذا مطلب التداول الحر هو الذي يفسر الدور المركزي للجمهور السياسي. وبالمناسبة، فإن هذا الاعتبار المجرد يجد تأكيداً تاريخياً في حقيقة أنه أولاً في إنجلترا، ثم في الولايات المتحدة، وفي فرنسا ودول أوروبية أخرى في نفس الوقت. لقد طورت الديمقراطية الليبرالية شيئاً مثل "المجال العام البرجوازي".
ومع ذلك، فإن هذين المطلبين للعملية الديمقراطية، المداولات ومشاركة جميع المواطنين، لا يمكن تحقيقهما إلا على مستوى مؤسسات الدولة تقريباً، وقبل كل شيء في الهيئات التمثيلية للتشريعات البرلمانية. وهذا يفسر المساهمة الجوهرية والمحدودة التي يمكن أن يقدمها التواصل السياسي في المجال العام للعملية الديمقراطية برمتها. إنها تقدم مساهمة كبيرة لأنها المكان الوحيد الذي يشمل الرأي السياسي الشامل بشكل أساسي وعملية صنع القرار جميع المواطنين البالغين المؤهلين للتصويت.
تحفيز القرارات التي يجب أن يتخذها المواطنون معاً، ولكن كأفراد وفي عزلة مقصورة الاقتراع، أي بإرادتهم الحرة. تؤدي في هذا الصدد، هذه القرارات الانتخابية إلى تصويت يكون ملزماً لجميع المواطنين، النتيجة، من هذا القبيل، هي التكوين السياسي الحزبي للبرلمانات، وتحديد الحكومة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر أيضا.
من ناحية أخرى، فإنّ المساهمة السياسية للرأي العام في تكوين الآراء الديمقراطية والإرادة محدود لأنه ، كقاعدة عامة، لا يتمّ اتخاذ قرارات فرديّة ملزمة جماعياً هنا (فقط في حالات نادرة يسمح الهيكل الواضح للقرارات الأساسية بمثل هذه الاستفتاءات).
إنّ تشكيل الآراء التي تتحكم فيها وسائل الإعلام الجماهيري يولد تعدداً من الآراء العامة في جمهور المواطنين المتناثرين. هذه الآراء، المُجمعة والموجزة من الموضوعات والمساهمات والمعلومات، تتنافس على اختيار وترجيح الموضوعات ذات الصلة، والأهداف السياسية الصحيحة وأفضل استراتيجيات لحل المشكلات.
هناك ظرف واحد ذو أهمية خاصة في سياقنا: إن ثقل إرادة المواطنين، أي المكاسب السيادية، على قرارات النظام السياسي ككل لا يعتمد بشكل كبير على الجودة الإعلامية للمساهمة التي تقدمها وسائل الإعلام في تشكيل الرأي. لأن هذا يتغذى على المعالجة الصحفية السابقة للموضوعات والمساهمات، والاقتراحات والمعلومات والبيانات البديلة المؤيدة والمعارضة، باختصار، المدخلات التي تأتي، من بين أمور أخرى، عبر قنوات المعلومات للأحزاب السياسية وجماعات المصالح و وكالات العلاقات العامة للأنظمة الوظيفية الاجتماعية وكذلك يتم إدخالها إلى المجال العام من قبل الفاعلين والمفكرين في المجتمع المدني. من خلال هذه التعددية في الرأي، التي يتمّ تصفيتها من قبل النظام الإعلامي بشكل أو بآخر، تمنح كل مواطن الفرصة لتكوين رأي خاص به واتخاذ قرار التصويت الذي يكون دافعاً عقلانياً قدر الإمكان من وجهة نظره. ومع ذلك، فإن التنافس على الآراء والقرارات في المجال العام نفسه لا يزال مفتوحاً؛ هنا لا تزال المداولات منفصلة عن القرارات الفردية المتخذة، لأنه في الانتخابات العامة للبرلمانات يتم الإعداد لها فقط. يمكن لأعضائها المنتخبين فقط التشاور واتخاذ القرار معاً وفقاً للإجراءات الديمقراطية. فقط في الهيئات التمثيلية المكونة من الناحية التمثيلية ومؤسسات الدولة الأخرى ، ولا سيما بشكل رسمي في المحاكم، تكون القواعد الإجرائية مصممة لهذا الشكل التداولي للرأي وتشكيل الإرادة، مما يبرر افتراض قرارات الأغلبية المقبولة بشكل عقلاني إلى حد ما.
من أجل التقييم الصحيح للمساهمة المحدودة للمجال السياسي العام، يجب علينا أن ننظر إلى الجزء التنظيمي للدستور وهيكل النظام السياسي القائم على تقسيم العمل ككل وقراءتهما كمخطط انسيابي. ثم يدرك المرء، كيف يتفرع التيار الديمقراطي لرأي وإرادة المواطنين ويتجاوز عتبة قرارهم الانتخابي والمحاصر من وراء كواليس الأنظمة الوظيفية وتهريبه عبر قنوات السياسة الحزبية والتشريعات والقضاء والإدارة والحكومة. ويؤدي إلى القرارات، التي تنبثق في إطار القوانين من توافق بين الضروريات الوظيفية والمصالح الاجتماعية وتفضيلات الناخبين.
ثم يتم بعد ذلك في المجال السياسي العام تقييم النتائج السياسية المشروعة وانتقادها، ومعالجتها في تفضيلات جديدة للناخبين بعد نهاية الفترة الانتخابية. غالباً ما يُساء فهم الافتراض القائل، بأن الخطابات السياسية موجهة نحو هدف التوصل إلى اتفاق أيضاً. وإنه لا يعني بأي حال من الأحوال الفكرة المثالية للعملية الديمقراطية كحدث سلمي لحلقة دراسية. على العكس من ذلك ، يمكن للمرء أن يفترض أن توجه المشاركين العقلانيين نحو حقيقة أو صحة قناعاتهم العقلانية يؤدي بالفعل إلى إشعال الخلافات السياسية ويمنحهم طابعاً حاداً بشكل أساس. من يجادل، يناقض. تتكشف من خلال الحق، أي وحتى تشجيع لقول لا بشكل متبادل، الإمكانات المعرفية للآراء المتضاربة في الخطاب فقط، لأن هذا يهدف ألي التصحيح الذاتي للمشاركين، الذين لن يكونوا قادرين على التعلم من بعضهم البعض دون النقد المتبادل.
هذه هي حكمة السياسة التداولية: إنه يمكننا تحسين قناعاتنا في النزاعات السياسية والاقتراب من إيجاد الحلّ الصحيح للمشاكل. مع ظهور نشاز الآراء المعارضة في العلن، يفترض مسبقاً شيئاً واحداً فقط: الإجماع على مبادئ الدستور المشترك الذي يضفي الشرعية على جميع الخلافات الأخرى. في ظلّ هذه الخلفية التوافقية، تتكون العملية الديمقراطية بأكملها من طوفان من الاختلاف، ينبع من بحث المواطنين دائماً من جديد لاتخاذ قرارات مقبولة منطقياً.
يتمّ في المجال السياسي العام، قياس الطابع التداولي لتكوين رأي وإرادة الناخبين من خلال نتيجة الجودة الخطابية للمساهمات، وليس بهدف الإجماع الذي لا يمكن الوصول إليه بالفعل؛ بدلاً من ذلك، من المفترض يثير اتجاه الحقيقة للمشاركين إلى تأجيج النزاع الذي يظل مفتوحاً، وتنبثق منه أراء عامة متنافسة.
هذه الديناميكية المتمثلة في استمرار المعارضة العامة تشكل المنافسة بين الأطراف والصراع بين الحكومة والمعارضة أيضاً، فضلاً عن الاختلافات في الرأي بين الخبراء؛ وبالتالي يمكن لميزانية الحجج، التي يتم تعبئتها والقرارات الإجرائية الملزمة التي يجب اتخاذها في الأماكن ذات الصلة من النظام السياسي
إن إضفاء الطابع المؤسسي، ضدّ القوي الفوضوية المطلقة والقائلة دوما بلا، في النقاشات العامة والحملات الانتخابية، وفي الخلافات بين الأحزاب، وفي مفاوضات مجلس النواب ولجانه، وفي مداولات الحكومة والمحاكم، لا يتطلب سوى تكامل سياسي مسبق، من جميع المشاركين في إجماع حول الرغبة الأساسية لدستورهم. هذا بسيط بما فيه الكفاية: إنه يوضّح ببساطة إرادة المواطنين لطاعة القوانين التي قدموها بأنفسهم. بدون مثل هذا التوافق على أهمية التشريع الذاتي الديمقراطي الذي يتم تنفيذه بطريقة تداولية، لن يكون للأقليات المعنية أي سبب للخضوع لقرارات الأغلبية لفترة محدودة من الزمن.
يجب ألا ننسى الشيء الرئيسي الذي يقرر في النهاية مصير الديمقراطية: من أجل الحكم من وجهة نظر معيارية، يجب اتخاذ القرارات المؤسسية ككل، وتوظيفها بطريق حقيقة واقعية أيضاً، بحيث تجعل الناخبين، بأن توافقهم الدستوري، تؤكده التجربة من وقت لآخر. يجب أن تكون نتائج الإجراءات الحكومية مرتبطة بوضوح، بحيث يرى فيها المواطنون القوة العقلانية الخاصة بهم وتؤكد بمقدار تشكيل رأيهم وإرادتهم. يجب على المواطنين أن يدركوا بأنّ جدالهم ليس فحسب بأنه بالغ الأهمية، بل وفي عين الوقت كنزاع حول أفضل الأسباب.
لكن الأوضاع ليست كذلك - ولا حتى في أقدم الديمقراطيات الأنجلو سكسونية. كما يجب أيضاً، فهم الصدى الإيجابي الذي وجدته العاصفة في مبنى الكابيتول بين ناخبي ترامب على أنه تعبير للناخبين، الذين لم يعد بإمكانهم على مدى عقود التعرف على تصور سياسي مترتب على مصالحهم المهملة.
إن قوة الترشيد العقلاني للمنازعات العامة، تكاد أن تنحدر، بالقياس السياسي، منذ نهاية القرن الماضي في معظم ديمقراطيات الغرب تقريباً. أن الاعتماد على قوة حل مشكلات الديمقراطية على تدفق السياسات التداولية، يسلط الضوء على الدور المركزي للمجال العام السياسي.
ومع ذلك، بدون سياق مناسب، لا تجد المتطلبات الأساسية للسياسة التداولية، والتي تعتبر ضرورية لإضفاء الشرعية الديمقراطية للحكم، أي دعم من الشعب الذي "يُفترض أن تنبع منه كل السلطة". يجب أن تلتقي الإجراءات الحكومية، والأحكام التاريخية الصادرة عن المحاكم العليا، والتشريعات البرلمانية، والمنافسة الحزبية، والانتخابات السياسية الحرّة مع مجتمع مدني نشط، لأن المجال العام السياسي متجذر في مجتمع مدني - وكصدى للاضطرابات في الأنظمة الوظيفية الهامة التي تتطلب الإصلاح – وينشئ الروابط التواصلية بين السياسة و المحيط الاجتماعي. ومع ذلك، لا يمكن للمجتمع المدني أن يضطلع بدور نوع من نظام الإنذار المبكر للسياسة إلاّ إذا أفرز الفاعلين الذين يقومون بالتنبيه بالقضايا المرتبطة بالمواطنين.
بيد أن المستوى المطلوب وظيفياً من التزام المواطن، كان منذ البداية، في المجتمعات الإقليمية الواسعة النطاق للديمقراطيات الحديثة في الغرب، متوتراً بين الالتزامات الخاصة والشخصية والمصالح التي يريدها المواطنون ويجب عليهم الوفاء بها في نفس الوقت. وينعكس هذا الصراع الهيكلي بين الأدوار العامة والخاصة للمواطنين في المجال العام نفسه أيضاً
تمكن المجال العام البرجوازي في أوروبا، في شكله الأدبي والسياسي الانفصال تدريجياً من ظلّ التشكيلات القديمة - وقبل كل شيء في المجال العام الديني لنظام الكنيسة والمجال العام التمثيلي للحكم ً
المتجسّد شخصياً في الأباطرة والملوك والأمراء – بعد أن تحققت المتطلبات الاجتماعية ـ البنيوية - للفصل الوظيفي بين الدولة والمجتمع، والمناطق الاقتصادية العامة والخاصة. من منظور عالم المعيش للمشاركين، يقف المجتمع المدني للمواطنين الناشطين سياسياً في مجال التوتر بين المجالين الخاص والعام. سنرى أن رقمنة الاتصال العام، حيث تصبح الحدود بين مجال الحياة الخاصة والعامة غير واضحة، على الرغم من أن الشروط الاجتماعية الهيكلية المسبقة لهذا التمييز، والتي لها عواقب من حيث النظام القانوني، لم تتغير أيضاً. من منظور مساحات الاتصال شبه العامة وشبه الخاصة التي يتحرك فيها مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، يختفي الطابع الشامل للساحة العامة التي كان يمكن التعرف عليها، على أنها منفصلة عن المجال الخاص، كما أودّ أن أشير إلى ظاهرة مُقلقة تتعلق بالجانب الشخصي لمستخدمي وسائل الإعلام، والتي في نفس الوقت تلفت الانتباه إلى التنظيم السياسي غير الكافي لوسائل الإعلام الجديدة.
قبل أن أتناولَ تغييرات محددة في بنية وسائل الإعلام وأتوصل إلى فرضيات حول تأثيرها على الوظيفة السياسية للمجال العام، أودُّ أن أسترعي الانتباه إلى شروط الحدود الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يجب الوفاء بها بشكل كافٍ للسياسة التداولية. لأنه فقط في ظل خلفية تعقيد أسباب أزمة استحقاق الديمقراطيات الرأسمالية، نكتسب الإحساس الصحيح بالتناسب مع المساهمة المحدودة التي يمكننا تقديمها للأسباب المحتملة، لإعاقة تشكيل تداولية الرأي والاِرادة، والتي يمكن إرجاعها إلى رقمنة الاتصالات العامة.
تتطلّب المواطنة النشطة أولاً، ثقافة سياسية ليبرالية على نطاقٍ واسعٍ، تتكّون من نسيج مُخترق من المواقف والافتراضات الثقافية. لأنّ الفهم الأساس للجمهور حول المبادئ الدستورية الديمقراطية، والذي يظلّ ضمنياً إلى حدّ كبير، متضمناً في شبكة واسعة من الذكريات التاريخية والمعتقدات التقليدية والممارسات والتوجهات القيمية؛ يتم الحفاظ عليها من جيلٍ إلى جيلٍ فقط، بفضل الأنماط المعتادة للتنشئة الاجتماعية السياسية والأنماط المؤسسية الرسمية للتربية السياسية.
لقد تطلبت فترة نصف قرن على سبيل المثال، إعادة التوطين الاجتماعي لسكان جمهورية ألمانيا (القديمة) بعد نهاية الدكتاتورية النازية، ومن 150 عاماً من التطور الدستوري، إنه مؤشّرٌ على الصعوبات التي يجب تجاوزها للتأقلم مع ثقافة سياسية ليبرالية بشكلٍ عام.
الجوهر الأخلاقي لمثل هذه الثقافة، هو استعداد المواطنين من أجل الاعتراف المُتبادل بالآخرين بوصفهم مواطنين ومشرعين ديمقراطيين متساوين.
يبدأ هذا بالتصور التوفيقي الجاهز للتسوية، بأنّ الخصم السياسي باعتباره الخصم الذي لم يعد عدواً، ويعبر استقراره حدود مختلف أشكال الحياة الأثنية (العرقية) واللغوية والدينية مع التضمين المتبادل للغرباء، الذين يريدون أن يظلوا غرباء عن بعضهم بعض، في ثقافة سياسية مشتركة. يجب أن يكون هذا قد ميّز نفسه عن ثقافة الأغلبية المعنية إلى الحدّ الذي يمكن فيه لكل مواطن في مجتمع تعددي أن يتعاطف معها. سوف تظلّ الرابطة الاجتماعية للمجتمع، بغضّ النظر عن تكوينه بشكلٍ غير متجانس، سليمة فقط، إذا كان التكامل السياسي يضمن عموماً التضامن المدني الذي لا يتطلب بأي حال إيثاراً غير مشروط فحسب، بل بالأحرى رغبة متبادلة محدودة للمساعدة. هذا النوع من الدفاع عن بعضنا البعض يتجاوز الرغبة في التسوية على أساس المصالح، ولكن بين الرفاق في نفس المجتمع السياسي، يرتبط هذا فقط بالتوقعات غير المحددة للمصالح المتبادلة، التي قد تكون ضرورية على المدى الطويل- على وجه التحديد مع توقّع أنّ الشخص الآخر في وضع مماثل، سيشعر بأنّه ملزم بتقديم مساعدة مماثلة.
ليست الثقافة السياسية الليبرالية هي السبب الجذريّ للمواقف التحررية؛ إنما تطالب توجهاً نحو الصالح العام بأقل ما يمكن. حتى يمكن قبول قرارات الأغلبية من قبل الأقلية، وأخيراً لا يُسمح لجميع المواطنين باتخاذ قرارات التصويت الخاصة بهم، فقط لمصلحتهم الذاتية قصيرة الأجل. يجب أن تكون نسبة كافية منهم - وتمثيلية أيضاً - على استعداد ورغبة لتولي دور المشرع الديمقراطي للمصلحة العامة.
الشرط الثاني الضروري للسكان النشطاء، هو إجراء المساواة الاجتماعية التي تتيح مشاركة عفوية وكافية للناخبين في تكوين الرأي الديمقراطي والاِرادة، والتي يجب ألاّ تكون إلزامية. إن المعمار للنظام القانوني الأساسي للدولة الدستورية، والتي تضمن من ناحية حقوق خاصة ذاتية (ومطالبات الدولة الاجتماعية) ومن ناحية أخرى التواصل الذاتي والمشاركة العامة، التي تكفل الاستقلال السياسي للمواطنين، لا تستمدّ بالكامل إلاّ من الاحساس الوظيفي بالدور التكميلي، الذي يؤديه كلّ من الاستقلال الذاتي السياسي والعام للمواطنين، بصرف النظر عن القيمة الجوهرية لبعضهما البعض.
تُمكِّن الحقوق السياسية من ناحية أخرى للمواطنين المشاركة في التشريع الديمقراطي، الذي يبت من بين أمور أخرى، في توزيع الحقوق والاستحقاقات الخاصة وتقرر بالتالي في نطاق اكتساب مكانة (وضع) المواطن الاجتماعي؛ ومن ناحية أخرى تنتج هذه المكانة الاجتماعية، الشروط الاجتماعية والدوافع، ليستخدمها المواطنون في الواقع من أجل حقوقهم الوطنية.
لقد تم على نطاق واسع، توثيق العلاقة المرتبطة بين الوضع الاجتماعي وإقبال الناخبين.. لكن هذا التوقع بالتمكين المتبادل للمشاركة الديمقراطية والحفاظ على المكانة ينجح فقط، طالما أنّ الانتخابات الديمقراطية تؤدي إلى تصحيح التفاوتات الاجتماعية الكبيرة والمتجذرة هيكلياُ. تؤكد التحقيقات التجريبية الحلقة المفرغة التي تنشأ عندما يصبح الامتناع عن التصويت في الشرائح الهامشية من السكان مترسخاً أيضاً، عند غياب التحسينات الملموسة في الظروف المعيشية. ثم تميل الأطراف التي كانت ذات يوم "مهتمّة" بمصالح هذه الفئات المحرومة، إلى إهمالهم حيث لا يتوقعون منهم حالياً أي أصوات؛ وهذا الاتجاه بدوره يقوي بدوره دوافع الامتناع عن التصويت. في غضون ذلك، نحن لا نلاحظ انعكاساً، بل انعكاساً ساخراً لهذه الحلقة المُفرغة إلى الحدّ الذي تنجح فيه الحركات الشعبويّة في تعبئة إمكانات هؤلاء غير الناخبين.
لم تعد المجموعات المتطرفة من غير الناخبين بالطبع، لا تُشارك في الانتخابات في ظلّ ظروف انتخابات ديمقراطية فحسب، بل ولكن بقصد العَرقلة باعتبارها "مُعارضة منهجية". حتى لو كان لا يمكن تفسير هذه الشعبويّة لـ "المتخلفين عن الركب" من خلال عدم المساواة الاجتماعية وحدها، لأن الطبقات الأخرى والتي غارقة في التكيف الضروري للتغير التكنولوجي والاجتماعي المتسارع، تشعر بأنها "متخلفة عن الركب" أيضاً ، فإن هذا يظهر تفككاً اجتماعياً حاسماً وغياب سياسة مضادة ناجحة.
يلفت هذا الانتباه أخيراً، إلى العلاقة غير المستقرة بين الدولة الديمقراطية والاقتصاد الرأسمالي، الذي يميل إلى زيادة التفاوتات الاجتماعية.

hamidfadlalla1936@gmail.com

 

آراء