حتى الصندوق، للمفارقة، يطالب ب”المرونة”: اقتصاد البصيرة أم حمد السياسي “إصلاح الظل، والعود أعوج” (2)
خالد التيجاني النور
13 June, 2021
13 June, 2021
(1)
ما سر توقيت قرار الحكومة فرض هذه الزيادات الفاحشة بمضاعفة أسعار الوقود بكل تبعاتها الكارثية؟ ليس للأمر علاقة بتحرير ولا إصلاح، إذ لا تعدو أن تكون مغامرة أخرى تسبّبها متلازمة الرهان الحكومي المولع بحل سحري يأتيه من الخارج، فقد أزف موعد تقييم البرنامج المفروض عليها من مجموعة أصدقاء السودان تحت رقابة صندوق النقد، وتريد الحكومة أن تثبت بهذه الإجراءات القاسية المفتقرة لأي رؤية أنها ملتزمة باشتراطات البرنامج بغض النظر عن تبعاته المأساوية على المواطنين، وقد سبق للحكومة القيام بخطوة مماثلة في 21 فبراير الماضي بخفض سعر العملة الوطنية على عجل دون توفر الاشتراطات اللازمة لذلك، استباقاً للتقييم المرحلي الأول الذي تم في أوائل مارس الماضي، والنتيجة ما نراه اليوم من مطاردة الحكومة اليائسة للسوق الموازي للحفاظ على سعر صرف موحد متوهم لن يتحقق أبداً بالفهلوة.
(2)
ذلك أن المجلسين التنفيذيين لصندوق النقد والبنك الدوليين سيبتّان بنهاية الشهر الجاري في شأن قبولهما وصول السودان ل"نقطة القرار" التي تؤهله رسمياً للاستفادة من مبادرة "هيبيك"، وهي عملية معقدة ومتطاولة على أية حال سوف تستغرق وقتاً طويلاً لتصل نهايتها عند "نقطة الإنجاز"، أي باكتمال تنفيذ كل الاشتراطات المطلوبة لخفض الديون، وحسب بيان للصندوق فإن هذا المسار سوف يستغرق ثلاث سنوات حتى يصل لمبتغاه في يونيو 2024. والسؤال هل يحتمل الشعب السودان ترف الانتظار كل هذه السنوات ليأتيه الفرج، وقد لا يأتي، في وقت تطحنه يومياً مفرمة إحراءات قاسية عشوائية باسم "الإصلاح الاقتصادي"؟!
لا حاجة لأن نعيد سوق ما تناولناه مراراً من خطل إصرار الحكومة على الرهان المرضي وتعلّقها بحلول خارجية بهلوانية، في غياب تام لأي سياق موضوعي مما ظل يكذبه الواقع على مدار العامين الماضيين، ذلك أنها لم تجن منها شيئاً حتى الآن سوى وعود خاوية ودعم بلاغي يتضح كل يوم أنه سراب بقيعة، ولو كانت للوعود الدولية المسرفة في إعلانها بدعم الحكومة المدنية الانتقالية من جدوى لما كانت النتيجة ما نراه اليوم من أوضاع مأساوية يدفع ثمنها غمار الناس.
(3)
وحتى لا يظن أحد أننا نتعسف بهذا القول، لندع صندوق النقد يقيّم بنفسه جدوى النهج الحكومي، ففي آخر نسخة من "التقرير القطري للسودان العام 2020" الذي أصدره في اجتماعه السنوي الأخير، كانت السمة الرئيسية لذلك التقرير تشكيكه في نجاعة الإجراءات الحكومية في تحقيق الإصلاح المرجو في ظل عدم توفر الشروط الموضوعية اللازمة لذلك، فقد تضمن توقعات قاتمة في قراءته لمستقبل الأوضاع الاقتصادية في البلاد، حيث أبدى تحفظاً واضحاً حول نجاعة الإجراءات التي وصفها بأنها "صعبة ومؤلمة"، وأن القدرة على تحملها شعبياً "يتسم بالهشاشة بالنظر إلى طول أمد الاختلالات الاقتصادية و بسبب ضغوط التضخم العالية وانعكاساتها، مع ضعف القدرات في إدارة الملف، وتأخر الشروع في تنفيذ الإصلاحات".
(4)
وفي تقييمه ركّز التقرير على استكشاف مدى قدرة المواطنين على تحمّل تبعات هذه الإجراءات القاسية في ظل هذه التعقيدات، وخلص إلى نتيجة ليست في صالح نهج الحكومة الحالي المتجاهل لعواقب ما تقدم عليه دون اعتبار لمآلاته، ودون توفر العوامل الحاسمة التي لا غنى لضمان إصلاح حقيقي، فقد لاحظ تقرير الصندوق "تآكل الاستعداد العام"، في إشارة إلى تراجع شعبية الحكومة، للتسامح مع "الاصلاحات المؤلمة"، مما يؤدي إلى تفاقم التوترات الاجتماعية، وتزايد الاحتقان الذي سيؤدي بالضرورة إلى زعزعة الاستقرار السياسي، وقد يقود إلى انهيار الفترة الانتقالية الهشة أصلاً.
(5)
وحول أهم الشروط الموضوعية التي شدّد عليها الصندوق ما ذكره نصاً "أحد العناصر الأساسية لنجاح برنامج الحكومة للإصلاح هو توفر التمويل الكافي من المانحين لدعم الانتقال الصعب إلى اقتصاد قائم على السوق يعمل بشكل جيد"، لافتا إلى أن "أن المساعدات المالية للسودان من قبل المانحين كانت أقل بكثير من المبالغ المطلوبة لتسهيل التكيف الهيكلي التدريجي المنظم للإصلاح الاقتصادي"، وقدّر الصندوق أن هناك حاجة ملحة لحصول الحكومة على "منح بنحو 5,4 مليار دولار بصورة مباشرة لدعم موازنة 2021"، وهو أمر لم يتحقق وغير وارد في ظل تمنع المانحين، وهو ما جعل الصندوق يقر بأنه "قد تكون هناك حاجة إلى المرونة في الجداول الزمنية للإصلاح نظراً لهشاشة الظروف الاجتماعية والاقتصادية"، وعندما تأتي المطالبة ب"المرونة " عند تنفيذ الإجراءات المطلوبة من قبل الصندوق نفسه، فهذا يعني أنها توصية هامة لا يمكن القفز عليها، ولكن ما العمل إذا كان الحكومة تصر على أن تكون كاثوليكية أكثر من البابا نفسه، لا شك أن نهج البصيرة أم حمد الشهير لن يقود إلا إلى المزيد من الانهيار الاقتصادي بكل تداعياته الاجتماعية والسياسية.
(6)
وخلص التقرير إلى أن البرنامج المراقب من الصندوق "يواجه مخاطر عالية، بما يعني العجز عن تحقيق الهدف المرجو منه بتحقيق سجل موجب لأداء الاقتصاد الكلي وتنفيذ الاصلاحات، ضمن الشروط الأخرى لتسوية عبء الديون، وتسهيل الحصول على تمويلات خارجية"، فإذا كانت هذه توقعات الصندوق نفسه فعلى أي شئ تراهن الحكومة؟
ونأتي للسؤال الجوهري، هل استطاعت الحكومة على الرغم من زخم المؤتمرات، والوعود الدولية، والاحتفالات ب"فك العزلة الخارجية"، أن تحصل فعلياً على موارد مالية مباشرة من المانحين مخصصة لسد عجز الموازنة، وهي معضلتها أساسية؟، وهل اجتهدت حقاً في رفع إيراداتها الضريبية، وترشيد انفاقها المنفلت، وتعزيز صادراتها وضبط واراداتها، وبسط ولايتها الكاملة على المال العام وإعادة تريب أولوياتها ؟ ذلك أن أي إجراءات باسم إصلاح في غياب هذه الشروط الحاسمة لن تنتج إلا المزيد من التخريب الاقتصادي.
عن صحيفة إيلاف
khalidtigani@gmail.com
ما سر توقيت قرار الحكومة فرض هذه الزيادات الفاحشة بمضاعفة أسعار الوقود بكل تبعاتها الكارثية؟ ليس للأمر علاقة بتحرير ولا إصلاح، إذ لا تعدو أن تكون مغامرة أخرى تسبّبها متلازمة الرهان الحكومي المولع بحل سحري يأتيه من الخارج، فقد أزف موعد تقييم البرنامج المفروض عليها من مجموعة أصدقاء السودان تحت رقابة صندوق النقد، وتريد الحكومة أن تثبت بهذه الإجراءات القاسية المفتقرة لأي رؤية أنها ملتزمة باشتراطات البرنامج بغض النظر عن تبعاته المأساوية على المواطنين، وقد سبق للحكومة القيام بخطوة مماثلة في 21 فبراير الماضي بخفض سعر العملة الوطنية على عجل دون توفر الاشتراطات اللازمة لذلك، استباقاً للتقييم المرحلي الأول الذي تم في أوائل مارس الماضي، والنتيجة ما نراه اليوم من مطاردة الحكومة اليائسة للسوق الموازي للحفاظ على سعر صرف موحد متوهم لن يتحقق أبداً بالفهلوة.
(2)
ذلك أن المجلسين التنفيذيين لصندوق النقد والبنك الدوليين سيبتّان بنهاية الشهر الجاري في شأن قبولهما وصول السودان ل"نقطة القرار" التي تؤهله رسمياً للاستفادة من مبادرة "هيبيك"، وهي عملية معقدة ومتطاولة على أية حال سوف تستغرق وقتاً طويلاً لتصل نهايتها عند "نقطة الإنجاز"، أي باكتمال تنفيذ كل الاشتراطات المطلوبة لخفض الديون، وحسب بيان للصندوق فإن هذا المسار سوف يستغرق ثلاث سنوات حتى يصل لمبتغاه في يونيو 2024. والسؤال هل يحتمل الشعب السودان ترف الانتظار كل هذه السنوات ليأتيه الفرج، وقد لا يأتي، في وقت تطحنه يومياً مفرمة إحراءات قاسية عشوائية باسم "الإصلاح الاقتصادي"؟!
لا حاجة لأن نعيد سوق ما تناولناه مراراً من خطل إصرار الحكومة على الرهان المرضي وتعلّقها بحلول خارجية بهلوانية، في غياب تام لأي سياق موضوعي مما ظل يكذبه الواقع على مدار العامين الماضيين، ذلك أنها لم تجن منها شيئاً حتى الآن سوى وعود خاوية ودعم بلاغي يتضح كل يوم أنه سراب بقيعة، ولو كانت للوعود الدولية المسرفة في إعلانها بدعم الحكومة المدنية الانتقالية من جدوى لما كانت النتيجة ما نراه اليوم من أوضاع مأساوية يدفع ثمنها غمار الناس.
(3)
وحتى لا يظن أحد أننا نتعسف بهذا القول، لندع صندوق النقد يقيّم بنفسه جدوى النهج الحكومي، ففي آخر نسخة من "التقرير القطري للسودان العام 2020" الذي أصدره في اجتماعه السنوي الأخير، كانت السمة الرئيسية لذلك التقرير تشكيكه في نجاعة الإجراءات الحكومية في تحقيق الإصلاح المرجو في ظل عدم توفر الشروط الموضوعية اللازمة لذلك، فقد تضمن توقعات قاتمة في قراءته لمستقبل الأوضاع الاقتصادية في البلاد، حيث أبدى تحفظاً واضحاً حول نجاعة الإجراءات التي وصفها بأنها "صعبة ومؤلمة"، وأن القدرة على تحملها شعبياً "يتسم بالهشاشة بالنظر إلى طول أمد الاختلالات الاقتصادية و بسبب ضغوط التضخم العالية وانعكاساتها، مع ضعف القدرات في إدارة الملف، وتأخر الشروع في تنفيذ الإصلاحات".
(4)
وفي تقييمه ركّز التقرير على استكشاف مدى قدرة المواطنين على تحمّل تبعات هذه الإجراءات القاسية في ظل هذه التعقيدات، وخلص إلى نتيجة ليست في صالح نهج الحكومة الحالي المتجاهل لعواقب ما تقدم عليه دون اعتبار لمآلاته، ودون توفر العوامل الحاسمة التي لا غنى لضمان إصلاح حقيقي، فقد لاحظ تقرير الصندوق "تآكل الاستعداد العام"، في إشارة إلى تراجع شعبية الحكومة، للتسامح مع "الاصلاحات المؤلمة"، مما يؤدي إلى تفاقم التوترات الاجتماعية، وتزايد الاحتقان الذي سيؤدي بالضرورة إلى زعزعة الاستقرار السياسي، وقد يقود إلى انهيار الفترة الانتقالية الهشة أصلاً.
(5)
وحول أهم الشروط الموضوعية التي شدّد عليها الصندوق ما ذكره نصاً "أحد العناصر الأساسية لنجاح برنامج الحكومة للإصلاح هو توفر التمويل الكافي من المانحين لدعم الانتقال الصعب إلى اقتصاد قائم على السوق يعمل بشكل جيد"، لافتا إلى أن "أن المساعدات المالية للسودان من قبل المانحين كانت أقل بكثير من المبالغ المطلوبة لتسهيل التكيف الهيكلي التدريجي المنظم للإصلاح الاقتصادي"، وقدّر الصندوق أن هناك حاجة ملحة لحصول الحكومة على "منح بنحو 5,4 مليار دولار بصورة مباشرة لدعم موازنة 2021"، وهو أمر لم يتحقق وغير وارد في ظل تمنع المانحين، وهو ما جعل الصندوق يقر بأنه "قد تكون هناك حاجة إلى المرونة في الجداول الزمنية للإصلاح نظراً لهشاشة الظروف الاجتماعية والاقتصادية"، وعندما تأتي المطالبة ب"المرونة " عند تنفيذ الإجراءات المطلوبة من قبل الصندوق نفسه، فهذا يعني أنها توصية هامة لا يمكن القفز عليها، ولكن ما العمل إذا كان الحكومة تصر على أن تكون كاثوليكية أكثر من البابا نفسه، لا شك أن نهج البصيرة أم حمد الشهير لن يقود إلا إلى المزيد من الانهيار الاقتصادي بكل تداعياته الاجتماعية والسياسية.
(6)
وخلص التقرير إلى أن البرنامج المراقب من الصندوق "يواجه مخاطر عالية، بما يعني العجز عن تحقيق الهدف المرجو منه بتحقيق سجل موجب لأداء الاقتصاد الكلي وتنفيذ الاصلاحات، ضمن الشروط الأخرى لتسوية عبء الديون، وتسهيل الحصول على تمويلات خارجية"، فإذا كانت هذه توقعات الصندوق نفسه فعلى أي شئ تراهن الحكومة؟
ونأتي للسؤال الجوهري، هل استطاعت الحكومة على الرغم من زخم المؤتمرات، والوعود الدولية، والاحتفالات ب"فك العزلة الخارجية"، أن تحصل فعلياً على موارد مالية مباشرة من المانحين مخصصة لسد عجز الموازنة، وهي معضلتها أساسية؟، وهل اجتهدت حقاً في رفع إيراداتها الضريبية، وترشيد انفاقها المنفلت، وتعزيز صادراتها وضبط واراداتها، وبسط ولايتها الكاملة على المال العام وإعادة تريب أولوياتها ؟ ذلك أن أي إجراءات باسم إصلاح في غياب هذه الشروط الحاسمة لن تنتج إلا المزيد من التخريب الاقتصادي.
عن صحيفة إيلاف
khalidtigani@gmail.com