خطورة التجافي الوطني وآفة الاصطفاف القبلي

 


 

 

لم يكد دم الشهيد المغدور خميس عبدالله أبَّكر يجف حتى خرجت علينا مجموعة من المواطنين في نيالا - حاضرة جنوب دارفور - تُعلن عن تضامنها مع الدعم السريع وتصبغ على نفسها صفة الإمارة. إنَّ تضامنها مع الدعم السريع في ظل هذه الظروف الحرجة أمر يرجع لتقديراتها، أمَّا ادِّعاؤها صفة الإمارة فهذا أمر محير، ذلك أنَّه ليس للرزيقات "إمارة" في جنوب دارفور (هذا مجرد انتحال لشخصية)، للرزيقات نظارة مقرها شرق دارفور فيما عدا ذلك هم مواطنون يخضعون للسلطة السيادية في "الحاكورة" المعنية (هذا هو مفهوم "الحاكورة" وهو حتماً ليس التصور الأمثل لدولة المواطنة لأنّه يعيق إمكانية التوسع الأفقي للتنمية، لكن لا يسع المجال هنا لتناول هذا الموضوع. للإطلاع على تفاصيل هذا الأمر راجع كتابي "دارفور المستوطنة الأخيرة").

قبل هذه التقسيمات الإدارية - التي ابتدعتها الإنقاذ - كان الناظر إبراهيم موسى مادبو (١٩٢٠-١٩٦٠) هو رئيس مجلس البقارة الذي تقع رئاسته في جنوب دارفور، بيد أن الأمر كان شورى بين زعماء القبائل أنفسهم فيما كان يخضع التقدير أيضاً لموازنات تاريخية واجتماعية مثل شخصية الناظر، هيبته وسط أهله، تدينه، ورعه، تقواه وأمانته. وقد ظل زعماء الرزيقات مُتَمثِّلين في آل مادبو يرأسون هذا المجلس حتى أقدمت الإنقاذ على فصل شرق دارفور عن جنوبها (٢٠١٢) كي تفسح المجال لبعض المجموعات العشوائية لتَتسيَّد الموقف "بعد أن دَجَّنت القيادات الأهلية نفسها وفصلتها عن موروثها" تماماً مثل ما حدث في دار مساليت التي استحدثت فيها الإنقاذ لقب "أمير أمراء" منافيةً بذلك عرف السلطنة ومُتَحديةً السلطة السيادية للسلطان عبدالرحمن بحر الدين. إذ أنَّ لقب "أمير أمراء" مثل لقب "ناظر" يستدعي أن تكون لك حاكورة، وإلَّا فهي طاقية تحملها في رأسك حتى يوم الدين، ويوم الدين أنت من المعتدين. ألم يقل سيد الأولين والآخرين محمد - صلى الله عليه وسلم - (مَن اقْتَطَعَ شِبْراً مِنَ الْأَرْضِ ظُلْماً طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)!.

هذه الألقاب "القروسطية" والتي تتماشى مع الوهم العروبي الإسلاموي استحدثتها الإنقاذ وتكرمت بها على شخصيات مصلحية اختارتها الأجهزة الأمنية بعناية. إنَّ نيالا تعتبر عاصمة "مقدومية الصعيد" منذ الإنشاء - وتتبع زعامتها لأحفاد القائد العسكري الفذ آدم رجال، أحد قادة السلطان علي دينار، والذي كان لي شرف صداقة إبنه المرحوم المقدوم أحمد آدم رجال - وليس فيها حاكورة للرزيقات، هذا تَجَنِّي وتطاول على حقوق الآخرين، وهو من جنس المكر الذي جعل الأعراب في غرب دارفور يتطاولون على السلطة السيادية في دار أندوكة "التي آوتهم من الضياع وحفظتهم من التهلكة لقرون"، يُغِيرون على سلطانها، يقتلون أحد بنيه، يأسرون نساءه، يسرقون مقتنياتهنَّ ويحرقون ديارهنَّ. بالله عليك أي إسلامٍ هذا الذي بشَّرتنا به الإنقاذ وأي عروبةٍ تلك التي لم تتماشى حتى مع عرف أبي جهل الذي لو عاش في زماننا هذا لاستعاد لقبه (أبا الحكم) بكل فخر!.

زرتُ الدامرة (بادية العرب) يوم أن كان التحريض على قتل الزرقة على أشُدِّه (٢٠٠٥) من قبل أجهزة الأمن وقلت لأهلي العرب يومها بعد كلام طويل وشرح مبين (مستقبلنا في التعايش مع زرقتنا)، رد علي "شايب" حينها وقال لي (كلامك دا يا ولدي هو البنجينا، لكدين معايشنا اليوم مع الناس ديل" يقصد الإنقاذيين"). ليس هذا فحسب بل هنالك شهود وأدلة - منذ عهد دقشم (محمد أحمد فضل) حتى عهد تجاني الطاهر كرشوم - تبرهن على أن الإنقاذ هي من زرعت هذه الألغام العرقية والقبلية وهي من تتحمل وزر ما يجري في دارفور اليوم وغداً وبعد غد.

يبقى السؤال، لماذا لم تقف الحروب بعد ذهاب الإنقاذ؟. الإجابة ببساطة "العقل الذي دبَّر الإبادة الجماعية قادرٌ على إعادتها بذات المنهجية وذات الآلية، لأنه ببساطة لم يتم استبداله"، وهو الآن يسعى لإحداث تغيير بسيط في السيناريو مع الإبقاء على نظرية "أضرُب الحجَر بأخوه". هذه المرة تم تسليح الأهالي المساليت - المدنيين خاصة - عوضاً عن تحريك القوات النظامية للدفاع عنهم، وذلك بغرض إشعال نار فتنة قبلية تشد السودان من جميع أطرافه عَلَّ ذلك يساعد في فك الحصار عن الخرطوم. إن الشخصيات الأمنية والقبلية التي خططت ونفذت الإبادة الجماعية هي من تدير المشهد الأن من وراء الحدود ومن داخلها بغرض التشفي من قائد الدعم السريع والذي لهم معه ضغائن شخصية ولا يهمهم في سبيل تنفيس حقدهم التسبب في إذكاء نار الفتنة وتشريد الملايين من السودانيين.

لا أصدق أنَّ حميدتي قد حَرَّض على قتل الوالي، فتأجيج دارفور لا يصب مطلقاً في مصلحته السياسية "أو العسكرية" لا سيما أنَّه في فترة وجوده في المجلس السيادي قد أولى غرب دارفور أهمية قصوى، زارها خمس مرات، مكث فيها ثلاثة أشهر، وعقد ما لا يقل عن خمسين معاهدة صلح. كما إنَّه لم يعد لديه إمكانية لمسايرة الأوضاع على الأرض نسبة لظروفه الصحية وفقدانه السيطرة بالكلية، بل الأرجح أن جيشه قد تمَّ اختراقه بواسطة الأجهزة الأمنية التي انتمى كثير من قادتها للدعم السريع في وقت من الأوقات، وهي من تدير المشهد الآن بقصد تفكيك المنظومة العسكرية والاقتصادية والسياسية التي ساعدوا في تشييدها.

قد يقول قائل أنَّ ما فعله حميدتي أخطر من التحريض، فمجرد التفكير في العروبة بمعناها العرقي وليس العروبة بمعناها الثقافي والاجتماعي نكون قد وقعنا في المحظور الذي ينذر بالشرور. أحد هذه الشرور هو محاولة خلق كيان عربي عابر للحدود تتسلل منه أوهام التوحد الأيديولوجي مع مجموعات ما ورائية تستقي الحمية في التساكن ولا تُعَوِّل على مفهوم المواطنة التي تلزمنا التعايش مع الأهل في حدود دوائرنا الجغرافية. وما عدا ذلك فهو مجرد أماني وأشواق وجدانية يحملها النوبيون والعبابدة والحباب والبجا والزغاوة والتاما لذويهم خلف الحدود. إنَّ أوَّل من يتضرر من هذه الأيديولوجيات هم العرب أنفسهم "عرب دارفور" الذين يتم توظيف بعض مقاتليهم اليوم لصالح مشروع إمبريالي تَوسُّعي سيصطدم لا محالة بطموحات قوى إقليمية أخرى أكثر نفاذاً وأعظم مِراساً.

ختاماً، إنّ لقيادة قبيلة الرزيقات التاريخية دورٌ يجب أن تقوم به في ظل هذه الظروف العصيبة، إذ لا يمكن لقيادة هذه القبيلة متمثلةً في الناظر محمود موسى إبراهيم موسى مادبو، ووكيله وعُمَدِه أن يلوذوا بالصمت، فيما يتَفرَّغ أفراد وهميون وكيانات هلامية للإعلان عن اصطفافهم تارة مع الجيش وتارة مع الدعم السريع منتحلين صفة الإدارة الأهلية. إنَّ لقادة القبيلة مسئولية وطنية تستلزم تبيانهم لموقفهم من الاقتتال كوسيلة لحل خلافات سياسية يمكن أن تحسم بالحوار السلمي المتحضر، ومسئولية دينية تستوجب النصح لأولي الأمر لئلا يشقُّوا على المواطنين - مسلمين كانوا أم غيرهم - فيُحمِّلونهم ما لا طاقة لهم به، ومسئولية أخلاقية تقتضي البراءة من الاعتداءات التي طالت المنشآت والممتلكات، والظلم الذي حاق بالمواطنين والمواطنات من جراء القصف بالطائرات والتراشق بالرَّاجمات والمدفعيات، إذ لا يجدي النكران في أمورٍ شاهدَها العيان "وقد باء كلا الفريقين بالخسران".

Auwaab@gmail.com

 

آراء