دارفور المأساة المتجددة أو النزف المتواصل !

 


 

عدنان زاهر
4 March, 2023

 

( أذهب الى محاولة الكشف عما أسميه ب " البنى الأساسية لانتهاكات حقوق الأنسان فى السودان . و أعنى بذلك البنى الذهنية المفاهيمية الاجتماعية ، و الثقافية ، والنفسية ، و السياسية ، القائمة فى مجتمعنا من قبل استيلاء الاسلامويين على السلطة، و التى شكلت قواعد داعمة و مستودعات و مخابئ آمنة للطاقة العدوانية، و هيأت ظروفا نفسية مواتية لأنتهاكات حقوق الأنسان التى نرى تجلياتها المفجعة فى ممارسات النظام الراهن. ذلك أن الغول كما ألمحت فى عنوان هذه الورقة لم يقع علينا من السماء: أنه الثمرة " الطبيعية " لمفاهيم و ممارسات قامت عليها مؤسسات بعينها و ظل يدعمها و يطورها و يرعاها القطاع الغالب من "  قادة الرأى " السياسى و الثقافى و الأجتماعى فى بلادنا )

د عبدالله بولا – شجرة نسب الغول فى مشكل " الهوية الثقافية " و حقوق الأنسان فى السودان.

( بل فى مرحلة معينة فى كل صراع تنقلب الهوية من كونها أداراكا الى سبب مباشرا له،  هكذا ينتقل الوعى بالحرب من مجال المفاهيم المجردة الى سبب مادى لها. بمعنى أخر: ان الوعى ينقلب الى مورد اجتماعى محدد أخذ دوره الى جانب الموارد الطبيعية فى ضمان أستمرار القتال. يبدوا انه كلما طال أمد الأقتتال و زادت خسائر الجانبين المادية و البشرية كلما تمت امكانية تحول الوعى الى سبب مباشر للصدام و كلما أضحى الحل السلمى أكثرصعوبة و أقسى منالا )

د محمد سليمان – السودان -  حرب الموارد و الهوية – توطئة

1

لماذا الكتابة عن دارفور مجددا.......قد يكون السبب المباشر هو أحداث " بليل " فى جنوب دارفور بين الداجو و الرزيقات و اغتيال العشرات بواسطة المليشات المسلحة ( الجنجويد أو من شايعهم ) فى الصراع الدائر هنالك، و الذى وقعت أحداثه قبل بضع أسابيع.

لكن دافعى الأساسى و الجوهرى لتناول القضية مجددا  ،هو النزف المستمر فى تلك البقعة و يوميا لفترة تقارب الربع قرن من الزمان، والامكانية ذات النسب العالية فى تحول الصراع و العنف بكل مسبباته الى أماكن أخرى فى السودان، كما حدث فى كسلا، بورتسودان ،القضارف و الأنقسنا.

تلك معضلة كبيرة و خطر محدق فوق رؤوس الجميع ، و هو امكانية تحول الصراع فى السودان الى حروب فانية لا تبق و لا تذر، تؤدى فى النهاية الى تفكك الدولة و انقسامها....تفتيتها الى دويلات كما حدث فى يوغسلافيا أو حروب و فوضى أمنية كما حدث فى لبنان ، الصومال، خاصة و نحن بلد تضم بين جناحيها حوالى ال 500 مجموعة ثقافية عرقية.

2

ظاهرة الاحتكاك بين القبائل المتاخمة لبعضها البعض لها جذور عميقة فى التاريخ السودانى ، لكنها كانت تحدث فى فترات متباعدة و تحسم نتيجة وعى " المؤسسات المحلية " لأهمية و ضرورة العيش فى سلام، خاصة ان ذلك التجاور ليس عابرا و هو مستمر و دائم . ذلك الشكل من الصراع كان موجودا أيضا فى دارفور و لكنه كان يحسم فى اطار ذلك الفهم و هو أهمية و ضرورة السلام للتعايش المشترك.

تأجج الصراع فى دارفور و تحول لاحقا الى حرب ضروس، عند بداية الجفاف و التصحر فى نهاية سبعينات و بداية ثمنينات القرن الماضى، الذى ضرب جزء من مناطق تلك البقعة ، مما أدى الى هجرة قبائل الابالة و القبائل التى تربى البقر الى أراضى قبيلة الفور المستقرة و الغنية، و من ثم الأعتداء على زراعتهم و القضاء عليها، و محاولات طرد ساكنيها للأستقرار بدلا عنهم فى المنطقة.

فكرة ارجاع تأجج الصراع الى عامل شح الموارد المتحورة فى المنطقة ، تبناها د محمد سليمان فى كتابه ( السودان حرب الموارد ) 1  .....يقول ( أصرارنا على أن الأرض و البترول و المياه هى السبب الأول للحرب الأهلية الثانية 2  لا يعنى أن نغفل السبب الآخر، الصراع من أجل الهوية : بل لاحظنا أن دور الهوية يزداد مع استمرار التناحر و القتال. فكلما طال أمد الحرب كلما أخذت قضايا الهوية مكانا متقدما فى وعى، فهم ، احساس ، ادراك المقاتلين من الجانبين )......

يقول حول تغير الصراع و أنتقاله الى أشكال أخرى الآتى : ( من صراع اقتصادى – ايكولوجى الى صراع سياسى – عرقى – اقليمى ).

د عبدالله بولا يربط النزاعات المشتعلة، و الحروب و انتهاكات حقوق الأنسان بمشكل " الهوية الثقافية "..........يقول فى ورقته " شجرة نسب الغول ...".3 ....... ( " الهوية الثقافية " و هو المشكل الذى اصطلحت معظم الأطراف،المحتربة و المتصالحة معا، على كونه أحد العناصر الرئيسية التى ولدت النزاعات و الحروب الأهلية القائمة فى بلدنا منذ عشية الأستقلال، ان لم نقل انه العنصر الرئيس بين جملة العناصر ).......يستنتج القارئ بسهولة من مقولة " بولا " انه يميل و يعتقد ان مشكل " الهوية الثقافية " هو الأعلى كعبا فى اضرام نيران الحروب و النزاعات.

فى رأى و اعتقادى، ان عامل " الهوية و العرق " يتساوى فى قوة تأثيره مع العامل الأقتصادى الايكولوجى و يعمل على تأجيج النزاعات المنتشرة بأمتداد الوطن. و قد لعب الأسلامويون عندما حكموا السوان لمدة ثلاثين عاما على دفع العرقية و القبلية الى الواجهة من جديد عندما حولوا الحروب الى جهاد، بل أقول انهم صبوا مزيدا من الوقود لتستعر و تشتعل، يدفعهم الى ذلك الموقف سببين، الاول و المتعلق بدارفور هو رفض القبائل الأفريقية لمشروعهم المزيف4    مع تزايد مصالحهم الاقتصادية فى الأقليم ، فتحالفوا مع القبائل العربية و تواطؤا معها .....سلحوها و تغاضوا عن تجاوزاتها اللاأنسانية و التى تتعارض مع كل القيم الراسخة هنالك و تجافى قوانين حقوق الأنسان . أما السبب الثانى فهو اللجوء الى كنف القبيلة و الأحتماء بها عندما تدور عليهم الدوائر، و قد عايشنا ذلك بعد سقوط نظامهم المهترئ عقب ثورة ديسمبر المجيدة.

فى دارفور كان صراع الهوية كامنا فى بنية المجتمع كما هو الحال فى أماكن أخرى متعددة فى السودان ، و كان مهيأ للظهور و الانتشار فى أى منعطف عندما يجد المبررات لذلك. يقول د محمد سليمان فى كتابه ( السودان حرب الموارد ) و هو يقوم بتوزيع المجموعات السكانية فى دارفور الى ثلاث مجموعات مستندا على تقسيم المؤرخ " ريكسى ش أوفاهى " 5 ، و هم مجموعة رعاة الأبل و رعاة الأبقار الذين يعتبرون أنفسهم عربا، و المجموعة الثانية القبائل الأفريقية المستقرة مثل الفور،البرتى و المساليت،و المجموعة الثالثة و هم التجار و المسؤولين الحكوميين و أصحاب الأراضى و المهنين المقيمين فى المناطق الحضرية،.....يقول عن المجموعة الأولى التى ترتبط مصالحها على الدوام مع المجموعة الثالثة، ( المجموعة الأولى و هم رعاة الأبل و رعاة الأبقار الذين يعتبرون أنفسهم عربا. و بالرجوع الى تصورهم المشترك عن أنفسهم فأنهم يحملون صفة " عرب " هذه باحساس ذاتى بدوى " ر’حل " مدعم بشعور بالتعالى و نزوع نحو العنف. و تنظر هذه المجموعة الى المزارعين المستقرين و غيرهم من المجموعات الريفية الأخرى كمجموعات و ضيعة المكانه و أقل درجة منها، ليس فقط على الصعيد العرقى و انما على الصعيد الثقافى استنادا الى ما يعتبرونه تدنيا فى أنواع مهنهم اذ يعتبرونهم سكان " التكل " و تعنى المطبخ فى اشارة لنمط حياتهم المستقر).

التاريخ يقول ان الأستعمار لعب أيضا دورا فى تلك النزاعات بين الفور و القبائل العربية لزعزعة حكم السطان الفوراوى على دينار و اسقاط  حكمه ، فقد قام بقيادة " ونجت " باشا بتقديم دعم سرى عسكرى و مادى لمليشيات القبائل العربية ( الرزىقات – الهبانية – بنى هلبه ) و باشراف هارولد ماكمايكل مدير الاستخبارات، حتى قتل السلطان على دينار فى جبل مرة فى 6 – 11 – 1916  6.

3

الحرب فى دارفور تحولت الى حرب ابادة عرقية تمارسها المليشيات المدعومة بسلطة الدولة المركزية و المليشيات الأجنبية مثل " فاغنر " و الدول ذات المصالح فى المنطقة ،خاصة عندما أكتشف و عرف ان مناطق القبائل المستقره تحتوى على قدر هائل من الذهب ، البترول و المعادن الأخرى ذات القيمة المادية العالية.

الصراع تحور من عملية التنافس و الأستحواذ على الموارد المتناقصة الى حرب حول الموارد المكتشفة حديثا.........افناء سكانها  عن طريق القتل المباشر....حرق القرى و أغتصاب النساء فى محاولة لتغير العرق و كسر الأرادة و ضرب الروح المعنوية لدى تلك القبائل.... انه سلاح استخدام " الجونسايد " فى أبشع صوره . حروب دارفور تستدعى الى الذاكرة أبشع الأحداث المشابهة فى مسيرة تاريخ العالم ، و منها قتل الهنود الحمر فى أمريكا....الأستيلاء على مناطقهم و أحلال المغامرين الامريكان مكانهم....ان ما يجرى فى دارفور هو حرب اعادة استيطان عرقية اقتصادية.

استدعت بشاعة أحداث دارفور أيضا الى الذاكرة مشهد و حوار، من فيلم شاهدته قبل عدة سنوات و عدت مرة أخرى بمشاهدته بعد أحداث " بليل "...... الفيلم بعنوان ( الهجوم على دارفور ) لمخرج لم ينل حظه من الشهرة يدعى " أوى بول " و هو فيلم روائى يشابه الفيلم التوثيقى بذل فيه مجهود لتوثيق الحرب فى دارفور . الفيلم يجسد و يعكس مدى الجرم و القسوة التى تمارسها مليشيات الجنجويد . فى احد المشاهد و بعد الهجوم على قرية وادعة، تقوم مليشات الجنجويد بقتل الرجال، النساء بعد اغتصابهم و ذبح الأطفال و بقر بطونهم.

عند عثور أحد الجنود على طفل حى فى حجر أمه يأمره القائد بقتله ،عند تردد الجندى ينتزعه القائد من بين أيديه بعنف، ثم يقذفه على الأرض محطما جمجمته ثم قائلا ( ده لو خليتوا يحيا، لمن يكبر حيجى يقتل أولادك و أهلك انتقاما لما فعلته )!

جملة قائد الجنجويد لخصت موقفهم المزدوج ....القسوة المفرطة و الخوف من المحاسبة و المسأءلة مستقبلا !!

4

عشية تكوين الأحزاب فى مؤتمر الخريجين، و المتناسلة من المدارس الأدبية فى أمدرمان، تفادت و تحاشت النخب النيلية مناقشة أهم الأجندة التى سوف تواجه سودان ما بعد الاستقلال السياسى ألا و هى مسألة العرقية أو الهويات الثقافية ( كما يسميها بولا ) ، بل الأدهى انها تبنت التوجه العربى الأسلامى فى بلد متعدد الأعراق ، الثقافات و الأديان فى موقف يعبر عن فقدان الرؤى المستبصرة.

ذلك الموقف البائس أدى الى نشوء جرحا تقيح مع مرور الزمن، و أدى الى " الغرغرينا " السياسية التى نعانى منها اليوم . أنقسم الجنوب و ذهب مبكيا عليه، و ها نحن اليوم نواجه بممارسات سوف تؤدى مستقبلا الى نفس درب التشظى ....الأنقسام و التباعد.

فى اعتقادى لا زالت الفرصة موجودة لتدارك سلبيات الماضى و اخفاقات النخب النيلية التى تداولت مراكز السلطة و القرار فى دولة سودان ما بعد الاستقلال . أمكانية لحق درب الدول المنطلقة الى الأمام بخيول جامحة رامحة ، يحتاج الى قوة ارادة....عزيمة...عمق فى التفكير مع العمل الجاد المتفانى " لحلحلة " مسألة الهويات الثقافية أو " الهويات القاتلة "  7 !!

عدنان زاهر

مارس 2023

المراجع

1- د محمد سليمان – السودان حرب الموارد و الهوية – الطبعة الأولى 2000

2- فى كتابه حرب الموارد قسم د محمد سليمان فترات الحرب الى مرحلتين، المرحلة الأولى من 1983 – 1987 و المرحلة الثانية من 1987 الى 1993 .

3-  دراسة ل د عبدالله بولا بأسم ( شجرة نسب الغول فى مشكل " الهوية الثقافية " و حقوق الأنسان فى السودان – أطروحة فى كون الغول الاسلاموى لم يهبط علينا من السماء ).

4 – الترابى توصل لأستنتاج مفاده " ان الاسلاميين من القبائل الزنجية صاروا يعادون الحركة الأسلامية. و تهدف خطة الجبهة الأسلامية الى تأييد القبائل العربية باتباع الخطوات التالية : التهجير القسرى للفور من جبل مرة و حصرهم فى وادى صالح و نزع سلاحهم كليا،اعادة توطين المهيريا و العطيفات و العريقات ( قبائل عربية ) ، و عدم اعادة السلاح للزغاوة و تهجيرهم من كتم الى أم روابة ( ولاية شمال كردفان )، و تسليح القبائل العربية و تمويلها بحيث تكون نواة التجمع العربى الأسلامى ". - كتاب السودان حرب الموارد –  ص 382

5- ريكس ش أوفاهى – حصل على الدكتوراة فى التاريخ عن رسالة عن تاريخ دارفور السياسى تحت اشراف المؤرخ هولت – عمل بعدة جامعات أوربية كما عمل بقسم التاريخ جامعة الخرطوم فى الأعوام 1966 – 1970 .

6 – كتاب " السودان حرب الموارد " – ص 381

7 - التعبير مقتبس من عنوان كتاب للروائى اللبنانى الأصل أمين معلوف -  بأسم ( الهويات القاتلة ) صدر من دار الجندى للنشر فى العام 1999 .

 

elsadati2008@gmail.com

////////////////////////////////////////////////////////

 

آراء