سيد خليفة: اثنتان والثالثة عالقة في الذهان

 


 

 

(*)
ورد في المصادر الفنية و الموسوعة المعرفية، أن محمد بن الأمين، سوداني الجنسية. ولد في قرية الدبيبة شرق الخرطوم في عام 1931م، و فيها نشأ في خلوة أبية المدّاح و الصوت الدافئ . و فيها درس الأولية ، و المرحلة الوسطى بمدينة العيلفون، و الثانوية في الخرطوم. و من هناك الى رواق السنارية في جامعة الأزهر، التي وصل اليها عام 1951م. و كاد أن يكون على خطى أبيه الأزهري الخليفة المرغني حتى خلع جلبابه، والتحق بمعهد الملك فؤاد الأول للموسيقى العربية-المعهد العالي للموسيقى العربية حالياً، و أكمل دراسته عام 1958م.
عمل خلال فترة الدراسة في الإذاعة المصرية (ركن السودان)، و شارك بالغناء في الأوبرا المصرية، و في البرنامج الإذاعي "أضواء المدينة" من اعداد و تقديم الإعلامي جلال معوض. كما أرتبط بصداقة مع عدد من أعلام الفن الموسيقى أنذاك: يوسف وهبي ، محمد عبد الوهاب ، عبدالحليم حافظ . و كوكبة من الفنانين في السينما و المسرح. و أثمرت صداقته مع المنتج و المخرج حسين فوزي، المشاركة في التمثيل كمطرب في فيلمين:" تمر حنة "1957م ، بطولة نعيمة عاكف، رشدي اباظة، أحمد رمزي، فايزة أحمد. و الثاني:"أحبك يا حسن"1958م بطولة شكري سرحان، و نعيمة عاكف، توفيق الدقن، عبدالمنعم إبراهيم.
(1)
الخرطوم ملتقى النيلين، ملتقى العرب و الوحدة بعد النكسة في المؤتمر الرابع لجامعة الدول العربية - اللاءات الثلاث 1967م. حينها كان الشاعر المصري صلاح عبدالصبور(1931-1981م) ضيفاً فيها، يتغزل بجماليات الجغرافية الطبيعية. حيث النيل و أمواجه، و لقاء الأبيض و الأزرق في حالة أشبه ما تكون برقصة برازيلية (سامبا) في بدايتها، و في أعماقها غموض الغربة و الشتات مع أمواج صارخة بايقاع (رومبا). و حين تهدأ تتشكّل ايقاعات(تانغو) متناغمة مع إيقاع (سوينغو) و رومانسية حالمة. و يتفرق العشاق فزعاً مع طبول الحرب عند العربان ، و الهنود الحُمر يرقصون حول النار في ليالي الأحزان.
هذه واحدة من جماليات القصيدة، حيث تتشكّل أكثر من صورة حول الخرطوم بلقاء الوحدة العربية مثل لقاء العشاق في النيلين. و في مجموعها أكثر من صورة جمالية تعادل صورة جمالية واحدة، هي رقصة الخرطوم التي تتفوق عليهم يوم النصر يا سمرا ".
لا السامبا ولا الرمبا تساويها
لا التانغو ولا سوينغو يدانيها
ولا طبل لدى العربان يوم الثار
ولا رقص الهنود الحمر حول النار
ولا هذي ولا تلك
ولا الدنيا بما فيها
تساوي رقصة الخرطوم
يوم النصر يا سمرا
يا قدران في مجرى
تبارك ذلك المجري
فيمناهو على اليسرى
ويسراهو على الأخري
فهذا الأزرق العاتي
تدفق خالدا حرا
وهذا الأبيض الهادي
يضم الأزرق الصدرا
لا انفصلا ولا انحسرا
ولا أختلفا ولا اشتجرا
ولا هذى ولا تلك
ولا الدنيا بما فيها
تساوى ملتقى النيلين
في الخرطوم يا سمرا
حقاً، التقاء النِّيلَين وحدة لا مثيل لها(سبحان الله جلّ جلاله)، و الشاعر يمنحنا إحساسا بقصة حب مع الإنبهار بهذا المشهد البديع. حيث موج النهر يعلو نغماً (مُفاعَلَتُنْ)، و ينزل نغماً (مفاعَلَتُن) حتى يُعانق بحر الوافر. هذه القصيدة من نوادر عبدالصبور قبل خلع رداء الرومانسية، و رفع صوته مع قصيدة التفعيلة الصارحة، و السباحة في بحر التيار الواقعيّ جنباً الى جنب مع الملائكة و السياب حتى مات بأزمة قلبية بعد نقاش حاد في منزل صديقه الشاعر عبدالمعطي حجازي. و القصيدة فيها من الإنتماء العربي ما يتوافق مع معطيات تلك المرحلة التي أجتمعت فيها كل الأطراف مع أمواج النِّيلَ الغنائية جعلها على كل لسان. و من ثمّ تفاوم النسيان بلحن خماسي و إيقاعُ راقص في رائعة من روائع محمد الأمين.
(2)
هي المفردة، الكلمة، بداية القصيدة. و يأتي اللحن موازياً لها حتى تفوح أريجاً في سماء الأغنية. و هي التجربة التي عاشها سيد خليفة مع قصيدة"أنت السماء"، رائعة الشاعر السوداني ادريس محمد جمّاع (1922-1980م)، المنشورة في ديوان(لحظات باقية)، حيث أنتشرت غنائياً باسم"غيرة" في عام 1963م.
أعلى الجمال تغار منا ** ماذا عليك إذا نظرنا
هى نظرةً تنسى الوقارَ ** وتسعدُ الروحَ المعنىّ
دنياى أنت وفرحتى ** ومنى الفؤادِ إذا تَمَنىّ
أنتَ السماءُ بدتْ لنا ** واستعصمتْ بالبعدِ عنا
هلاَّ رحمتَ متيمًا ** عصفت به الأشواق وهنا
وهفت به الذكرى فطاف ** مع الدجى مغنى فمغنى
هزته منك محاسن ** غنى بها لمّا تغنَّى
يا شعلةً طافتْ ** خواطرنا حَوَالَيْها وطفنا
أنست فيكَ قداسةً ** ولمستُ إشراقاً وفناً
ونظرتُ في عينيكِ ** آفاقاً وأسـراراً ومعنى
كلّمْ عهوداً فى الصبا ** أسألْ عهوداً كيف كُنا
كمْ باللقا سمحتْ لنا ** كمْ بالطهارةِ ظللتنا
ذهبَ الصبا بعُهودِهِ ** ليتَ الطِفُوْلةَ عاودتنا
معاني عميقة،و تساؤلات اذا نظرت اليها أرتد البصر اليك مذهولاً:"أعلى الجمال تغار منا"،"هلاَّ رحمتَ متيمًا"،"وأسأل عهودك كيف كنـّا". معانأة نفسية أوجزها (ود جمّاع) في السماء، و أنزلها (محمد الأمين) الى الأسماع بلحن خُماسي أوجع القلوب فكأن السؤال من قائلها، كان حينها (ود جمّاع) يخضع للعلاج النفسي في المستشفى، مما جعل الأديب عباس محمود العقاد(1889-1964م) أن يوجز شهادته حول القصبدة بقوله:"هذا مكانه- يقصد المستشفى-، لأن هذا الكلام لا يستطيع قوله ذوو الفكر".
توقف الأديب السعودي غازي القصيبي(1940-2010م) أمام بيت واحد ليقول شهادته:(هذا أروع بيت شعر نظم في العصر الحديث:"أنتَ السماءُ بدتْ لنا/ واستعصمتْ بالبعدِ عنا"). و صدق فيما قال، لأن أقصى ما وصل اليه العرب في التعبير عن بُعد المسافة لا يتجاوز مد البصر عند زرقاء اليمامة، أو جبال صمّ و نجم الثريا في السماء، و جزيرة دهلك الإريترية، قال أبو المقدام:
" ولو أصبحت بنت القطاميّ، دونها ... جبال بها الأكراد صمّ صخورها
لباشرت ثوب الخوف، حتى أزورها ... بنفسي، إذا كانت بأرض تزورها
ولو أصبحت خلف الثريّا لزرتها ... بنفسي، ولو كانت بدهلك دورها ".
(3)
الطريف في الأمر،أن الذاكرة الفنية نمطياً متوقفة عند(المامبو سوداني)، و هي توليفة مستوحاة من الايقاعات الإيطالية اللاتينية الصاخبة لأغنية المامبو ايتاليانو في الفلم الإيطالي(أنا) في عام 1954م. و تأثر محمد الأمين حين مشاهدة الفلم، فطلب من صديقه الشاعر عبدالمنعم عبدالحي (1922-1975م) كتابة ما يتوافق مع اللحن الذي توصل اليها. فكان ميلاد الأغنية الأكثر شهرة مع بساطتها، بلا صورة جمالية ، بمعى أدق مصفوفات من المفردات تتوافق مع الإيقاع الذي أشتعل فتيله في ذهنية (ود الأمين) حسب ما أشار اليه في عدد من اللقاءات الصحافية.
و شارك بهذه الأغنية في الفلمين "تمر حنة"،"احبك يا حسن"، و في المشاركات الفنية منذ 1957م ، مما منح الأغنية طريقاً الى الشهرة لحناً و غناءً بصوته، و حركاته، وملامح الوجه الضحوك:المامبو دا سوداني/المامبو في كياني/في عودي وكماني/ما أجمل ألحاني/مامبوووووْ/يا حبيبة ما أحلاكي/المامبو في غناكي". من ثمّ أصبحت الأغنية من ايقونات التعريف و التعارف عند الآخرين. فما أن تقول:(سوداني) حتى تجد الطرف الأخر يتذكر"المامبو سوداني". و حسب ثقافته قد يتذكر أو لا يتذكر مَنْ المغني ..؟.

(**)

عفواً .. عزيز القارئ، أنا اتحدث عن الفنان سيد خليفة. الذي توفي في العاصمة الأردنية عمّان 2001م. هو سيد محمد بن الخليفة الأمين، سيد لقب تشريف، مثلما الخليفة هو للذين يمثلون السادة المراغنة. و مع الأيام و الشهرة تم اختزال الاسم في سيد خليفة مثلما اختزال الغناء السوداني خارجياً في (المامبو)، و نسيان أن الحنجرة و الايقاعات السودانية ذات سمعة و صيّت في دول الجوار، و العديد من الدول، و يكفيها - على سبيل المثال لا الحصر – محمد وردي فنان أفريقيا الأول. كما ان قصيدة"أغداً القاك"، رائعة أم كلثوم(1898-1975م) لحن الموسيقار محمد عبدالوهاب(1898-1991م)، هي قصيدة للشاعر السوداني الهادي آدم (1927-2006م) سطرها بعنوان(الغد) منشورة في ديوان (كوخ الأشواق) الصادر في عام 1962م، و مطلعها:" يا لهف فؤادي من غد/ وأحييك ولكن بفؤادي أم يدي". وغنتها أم كلثوم بعد اجراء العديد من التعديلات على مسرح دار الأوبرا لأول مرة عام 1971م:"يا خوفي، يا لشوقي و احتراقي، في انتظار الموعد".
ذاك زمان، كان للكلمة و الإيقاع قيمة. و هذا زمان، يرقصون فيه مع كلمات بلا معنى مع ضجيج آلة الأورج والإيقاعات الصاخبة والجيتارات والساكسفون. و يقولون حرية شخصية، و لا يعلمون أنها تُشكل هوية/الهوية وسماً من الفرد الى الجموع، و للناس فيما يعشون مذاهب.

//////////////////////////

 

آراء