جاءت كل قصائد ديوان (إشراقة) للتجاني يوسف بشير (1912-1937) خالية تماماً من حركات الإعراب وعلامات الضبط والتشكيل ما عدا كلمة واحدة جاءت مشكَّلة بشدة على النون وهي كلمة (هنّا) وردت بقصيدة تحمل عنوان (من هنا وهناك). يقول الشاعر في مطلع هذه القصيدة (الطبعة الثامنة 1987):
عجيب أنت يا قلبي فكم ذا يهب بك الجمال فتستجيب وجن بك الهوى فهنا غرير علقت به ومـن هنّا حـــبيب وتلك وفي معاصمها سوار وذاك وفــي تـــرائبه (صــليب)
إنه يقول بالبيت الثاني: "وجُنَّ بك الهوى فهُنا غريرٌ/علِقتَ بهِ ومـِـنْ هنّا حـــبيبُ". ونحن لا ندري مَن وضع علامة التشديد على النون في هذه الكلمة فكانت بذلك علامة الضبط الوحيدة بالديوان، هل هو الشاعر أم الناشر أم شخص آخر من الذين اعتنوا بأمر الديوان وعملوا على طباعته ونشره، وهم كثر؟ ومعلوم أن الشاعر كان قد أعدّ ديوان (إشراقة) وتقدم به إلى مكتب الاتصال العام فأجازه إدوارد عطية للنشر. غير أن الشاعر لم يتمكن من نشره في حياته ووجد الديوان طريقه إلى أيدي عدد من الأدباء والمهتمين بإرث الشاعر بالسودان ومصر إلى أن نُشر أخيرا لأول مرة بمصر في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين. ومهما يكن من أمر، فالسؤال: هل علامة الشدة على النون في كلمة (هنّا) تغيّر في المعنى والوزن الشعري للبيت؟ معنى البيت هو أن قلب الشاعر صار يتعلق بكل جميل تقع عليه عيناه "هنا" و"هاهنا" و"هناك" من حسان أعاريب أم درمان ومن عذارى نصارى حي المسالمة: "وتلك وفي معاصمها سوارٌ/ وذاك وفــي تـــرائبه صــليبُ". وقد وضِعت كلمة (صليب) بين قوسين بالديوان، وكان الشاعر قد خصص لها هامشاً أسفل الصفحة جاء فيه: "كانت دار الشاعر قريبة من حي المسالمة في أم درمان وله في ذلك الحي غدوات وروحات بين حسانه الفاتنات". لكن للأسف هذا الهامش اختفى من الديوان بعد الطبعة الثالثة، والعهدة في ذلك على الدكتور عبد الله علي إبراهيم (انظر: كيف احطوطب عشب إشراقة، أنس الكتب ص23 ). ونحن نرى أن هذا مما لا يجوز التصرف فيه من قبل أصحاب الشأن لأنه جزء من النص وتعدي على حق الشاعر. نعود إلى كلمة (هنّا) فهي تأتي في اللغة بمعنى ههنا، وبمعنى هناك. جاء بلسان العرب: "وجئت من هَنّا ومن هِنّا، بالفتح والتشديد معناه ههُنا. أي هناك. ومنه قولهم: تجمعوا من هَنّا ومن هَنّا أي من ههُنا ومن ههُنا. قال الفراء: وههِنَّا أيضا تقوله قيس وتميم. قال الأزهري: وسمعت جماعة من قيس يقولون: اذهب ههَنَّا بفتح الهاء، ولم أسمعها بالكسر من أحد". انتهى. لاحظ قول المعجم: "جئت من هَنّا ومن هِنّا، معناه ههُنا. أي هناك". ونحن في السودان نقول في كلامنا: "هِنّا" بالكسر بمعنى "هُنا" وينطقها بعض أهل الريف عندنا بالإمالة "هِنّي". وهي صيغة عربية فصيحة كما ترى. إذاً وعلى ضوء ما ذكر نرى أن لا فرق من حيث المعنى سواء قال الشاعر: (ومِن هُنا حبيبُ) أو قال (ومن هَنّا حبيبُ). المعنى هو هو. ولكن ما دام لا فرق من حيث المعنى بين "هُنا" و"هنّا" في القصيدة، فلماذا الإصرار على وضع علامة الشدة في النون؟ هل لذلك علاقة بالوزن الشعري (علم العَروض)؟ الحقيقة كنا قد عرضنا لهذه المسألة بكتابنا (الشعر السوداني: من مدرسة الإحياء إلى قصيدة النثر) 2020 وخلصنا من التحليل الموسيقى إلى أن الوزن الشعري أيضا هو هو. حيث جاء بكتابنا المذكور: "نقول إن وزن البيت يظل سليما في الحالين. فسواء قرأنا كلمة (هنا) بتشديد النون أو من غير تشديد، فالبيت صحيح عروضياً. وذلك أن القصيدة من بحر الوافر: (مفاعلتن مفاعلتن فعولن) في كل شطر. فأنت واجد في الحالين أن تفعيلة (ومن هنا) قد لحق بها زحاف مفرد. فهي في حالة تشديد النون في (هنّا) تأتي معصوبة بتسكين اللام في (مفاعلَتن) فتصير (مفاعلْتن) فتكتب عروضيا (مفاعيلن). وأما إذا قرأنا (هُنا) من غير تشديد النون، فإن تفعيلة (ومِنْ هُنا) تأتي معقولة أي يلحق بها زحاف العقل، وهو حذف اللام في (مفاعلتن) فتصير مفاعتن، فتكتب عروضيا (مفاعلن)." انتهى. ص 185-186