ترد في شعر المديح النبوي السوداني وفي شعر الدوبيت وغناء التراث الشعبي كلمة "شوْيَم" في صيغة فعل الماضي، وكلمة "شِيوْم" مصدراً لها. ومن ذلك مثلاً أن الشاعر "الحردلو" يتذكر أيام الصبا والتشبب بالفتيات الحسّان وما كان يعانيه من مصاعب في سبيل وصالهن والسفر إلى ديارهن، فيقول متحسراً حين أصابه الكبر:
قوله: "كم شوْيَم ليهن" أي الحِسّان، والمعنى: كم اشتقت إليهن وكم دفعني الشوق في شبابي إلى ركوب الأهوال وخوض نهر "اتبرا" مراراً من أجل زيارتهن والفوز بوصالهن. وقوله: "وفيهُ ماشي كلامي" يعني نهر عطبرة العجوز والذي لا يحول بينه والوصول إلى المعشوقة، فما أسهل عبوره في أيام شبابه. وفي ذات المعنى يصف الشاعر الشعبي "ود الفراش" نار الشوق وصبابات الهوى وما سببته له من سهاد ورهق ووهن، فيقول عن سوء حالته وحالة جمله:
"شيوم ناس حاجة" شوق ناس حاجة ومكابدة السفر إليهن. هنا استعمل الشاعر المصدر "شِيوم" بمعنى الشوق والحنين ومكابدة السفر والوصول إلى "ناس حاجة". وقوله "حالاته جَنّو" جنو أي جئن إليه، حالاته قامنْ عليه، والمعنى ثاوره الحنين والشوق إلى المحبوبة. وقوله: "يمحِّق في الدرب" أي يقصِّر ويقطع مسافة الطريق والإشارة هنا للجمل. والمحاق النقصان. "يَمْحق اللهُ الربا ويُرْبي الصدقات". الآية. نقول في كلامنا للشيء ممحوق أي قليل لا يفي بالغرض، أو لا بركة فيه. و"كلنّو" من الكِلال أي أصابنهُ بالكِلال والهزال، نقول: لا يكلّ ولا يملّ. أي لا يتعب ولا يسأم. والضمير في "كلنّو" يعود إلى "ناس حاجة"، اللائي سببنْ له النحول من شدة الوله والهيام والكلَف بهنَّ. والحُمران القبيلة المعروفة بشرق السودان. وقال آخر في ذات المعنى:
"شيوم ست الصُّبا"، الشوق إلى ست الصبا والمكابدة في سبيل وصالها. وهو يخاطب جمله الذي أضناه السفر إلى ديار "سِت الصُّبا" أي زينة الشباب، ويرثي لحال جسمه الذي انتحل وأصابه الكلال بسبب الشوق ومكابدة السفر إلى "ست الصبا" العنيدة الصدودة الضنينة بالوصال، وذلك شوقاً لتقبيل فاهها. والكَزَم هو الفاه أي الفم، ويُصغر تحبباً فيقال: كِزيم. في أغنية عبد الرحمن عبد الله: "جدي الريل أبو كِزيمة" أي أبو فماً صغير كناية عن دقته وجماله. وأصل الكَزم القدوم أي مقدمة الفم. وأبّ كَزمة (أبّ قدوم) من ألقاب الرجال في السودان، أي ذو الكَزم أو الكَزمة. ويقال في التعبير الدارج: أخد قدوم أي قُبلة. والبراطم السود، الشفاه الخضر "الخدر" إشارة إلى وَشم الشفاه السفلى، العادة السودانية المعروفة بـ(دق الشلوفة). وأما في شعر المديح النبوي السوداني، فيستبدل الشوق إلى وصال الحبيبة، بالشوق إلى رؤية النبي الكريم (مناماً أو يقظةً) أو الشوق إليه والإلحاح في التطلع للسفر لزيارة روضته وقبره. ومن ذلك يقول المادح ود تميم: شــــدّيت أصهباً خَــــبّابُ * علقْ فــوقــو زاد وكتــابُ سافر ليلهُ فوق مضرابهُ * شويَمْ طالبهُ في محرابهُ
"شويَمْ طالبه في محرابه" يممتُ شطر محرابه قاصداً وطالباً زيارته. وعبارة "طالبه في محرابه" تفسير وتوكيد لكلمة "شويَمْ". والمعنى شددتُ رحالي على جملٍ أصهب ذي خَبب وعلقتُ عليه زادي وكتبي، وقد أمضى الجمل الليالي يخبّ السير لا يفتر. وذلك لأنني كنت قد شويمت أي عزمت على السفر والرحيل طالباً زيارة النبي الكريم في مسجده وقبره وروضته. وقال "ود حليب" في ذات المعنى:
قوله: "يا حاج ها النشويم" أي هيا بنا نشدّ الرحال عاجلاً لزيارة النبي الكريم في مدينته، أدخل الألف واللام على الفعل المضارع "يشويم" وهذا جايز في اللغة. ويقول الشريف يوسف الهندي: العاشـــقين في كل يـــوم * علي الرسول عابين شِيوم "عابين شيوم" أي كل يوم يملأهم الشوق ويفيض بهم الحنين (شوقهم بحر) لرؤية النبي، ففي كل ليلة عازمين ومصممين وعاقدين النية على الرحيل والسفر لزيارته. وهكذا من واقع هذه الشواهد في شعر المديح النبوي والدوبيت، نخلص إلى أن الفعل (شويَم) ومصدره (شِيوم) تعني نظر وشاهد أو تطلع لرؤية ومشاهدة شىء محبوب ويمَّم شطره يطلبه. والشيوم التطلع والترقب لرؤية المحبوب والشوق إلى لقائه والرحيل والسفر لزيارته وملاقاته ووصاله. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل للفعل شويم ومصدره شيوم، أصل في اللغة العربية؟ والإجابة نعم أصل شوْيَم في اللغة الفعل (شَامَ) وتصريفه كما جاء بلسان العرب: "شامَ يشِيم شَيْماً وشُيوْماً". إذاً المصدر "شَيْمٌ وشُيوْمٌ"، ولأجل ذلك صارت شام عندنا شوْيَم، فالفعل شامَ معتل أجوف أي وسطه ألف وأصل هذه الألف، الواو والياء لأن المصدر: شُيومٌ وشَيْمٌ. فتركنا (شَيْم) واخترنا (شُيوم) مصدراً وفضلنا الكسر على الضم فصارت عندنا (شِيوم) بالكسر وتبعاً لذلك صارت شامَ عندنا شوْيَم. إما من حيث المعنى، فلا يوجد اختلاف بين اللهجة السودانية والفصحى. فالشَّيم والشُّيوم تعني في العربية النظر والمشاهدة أو الترقب بلهفة لرؤية شيء مستحب والطلب بجد في حصوله. يقول معجم لسان العرب: "شامَ السحابَ والبرقَ شَيْماً: نظر إليه أين يقصد وأين يمطر. وشِمتُ البرقَ إذا نظرتُ إلى سحابته أين تمطر. وشِمتُ مخايل الشيء إذا تطلعت نحوها ببصرك منتظرا له.. وانشام الرجل: إذا صار منظوراً إليه.. وشامَ أبا عُميْرٍ إذا نال من البِكر مُراده". انتهى. واستشهد لسان العرب في هذا السياق ببعض الأشعار اُستعمل فيها الفعل (شامَ) بمعنى نظرَ ورأى، ومن ذلك قول الطرماح: وقد كنتُ شِمْتُ السيفَ بعد استلاله وحاذرتُ يومَ الوعدِ ما قيل في الوعدِ شِمتُ السيف أي نظرتُ إليه ورأيته. كما استشهد بقول الآخر: إذا مــا رآني مقبلاً شـــــــامَ نبلَهُ ويرمي إذا أدبرتُ عنه بأسهُمِ شامَ نبله، أشهر وأظهر نبله، أي أراني إياها. وأما قول المعجم: "وشِمتُ مخايل الشيء إذا تطلعت نحوها ببصرك منتظرا له"، قد وجدناه ورد في رثاء ابن الرومي لابنه الأوسط:
"شِمتُ الخلدَ" لمحتُ ورأيت ولاحتْ لي آيات المجد والخلود في خصاله. وأما قول المعجم: "شامَ البرقَ: نظر إليه أين يمطر"، فقد وجدناه في قول المتنبي:
فمـــا بــفـقيــــرٍ شـــــــــامَ بـرقَـــكَ فاقــةٌ ولا في بلادٍ أنت صيبُها مَحـلُ
شامَ برقَكَ، أي نظر وتطلع إليه طامعاً مترقباً هطوله. والمعنى أن الفقير المضام الذي يطمع في كرم الممدوح ويقصده لقضاء حاجته، سوف لن يُرد خائباً, وكذلك أهل بلاد هذا الممدوح سوف لن يعرفوا الجوع والفاقة والفقر أبداً ما دام الممدوح فيهم. والمحَل (سودانية) انقطاع المطر الذي يسبب الجفاف والمجاعة. والمطر والصيب هنا كناية عن كرم الممدوح وعطائه. ويوظف الشاعر الشيخ الصوفي السوداني محمد المجذوب، عبارة "شام البرق بمعنى نظر إليه" للتعبير عن رؤية النبي الكريم لجامع النور والانخطاف في كل. يقول في قصيدة (عليك صلاةُ اللهِ ثم سلامُه):
حلفتُ يميناً أن قلباً يحبكم عليهِ عـــذابُ النارِ قــطـــعــــــاً مــحــــــــــــرمُ فكيف بمَن قد شامَكم كل ساعةٍ فهذا يقيناً فــــــــي الجـــــــنان يُنعَّـــــــمُ
"شامكم كل ساعة" نظر إليكم وشاهدكم يقظة أو مناماً كل ساعة، أو تقصدكم وتطلع لرؤياكم كل ساعة. والمعنى إذا كان محبكم قد حرم الله عليه عذاب النار فما أعظم إذن ثواب من يراكم كل ساعة. وقد استعمل الشاعر "شامَ" هنا بدلاً عن "شويم" السودانية، لأن القصيدة جاءت في اللغة الفصحى. ومن هذا المعنى جاءت عبارة "شويَم شال الجداية" في أغنية السيرة "الزفة" المعروفة:
"شوْيَم شال الجداية" نظر وتطلع ثم وقع اختياره على العروس فأخذها (تزوجها) ثم يمّم شطر منزلها وسار إليها في زفّة. و"الجداية" (فصيحة) وهي الجدية أي الظبية. وكان لسان العرب قد أشار إلى شيء من هذا المعنى السودانوي، في قوله أعلاه: "وشامَ أبا عُميْرٍ إذا نال من البِكر مُراده". شام بمعنى الشمال الجغرافي: رأينا كيف تأـتي شامَ في صيغة الفعل بالمعاني التي ذكرناها. ولكنها تأتي اسماً أيضا بمعنى الشمال الجغرافي وأصلها شأم بالهمزة. وسميت بلاد الشام شاماً من الشأم كونها تقع على يسار (شمال) الكعبة، وسميت اليمن يمناً كونها تقع يمين الكعبة. (انظر لسان العرب: شأم). وشام بمعنى الشمال الجغرافي حاضرة في شعر المديح النبوي السوداني وأغاني التراث. يقول المادح ود سعد في المدحة النبوية المعروفة:
علـيَّ طال الشــوق وحماني قط ما أروق للقبــــرو شــــــــام وشـــــــروق يا حــــــاج، نبينا
"شام وشروق" ناحية الشمال الشرقي، وذلك هو موقع الحجاز من السودان. وكذلك نجد شام بمعنى الشمال الجغرافي في الرمية التراثية المعروفة:
أريل شـــــام شـــــــروق شـــــراكي ما نشـّـــابكْ وشم نفَسكِ يفوق مسك العشاري الشابكْ والأريل الجدية وقد شبّه محبوبته بها والتي مسكنها ناحية الشمال الشرقي.
شيوم وسيوم الحبشية: بعد فراغ معجم لسان العرب من شرح معاني: "شامَ شيْماً وشُيوماً" على النحو المبين أعلاه، ذكر استطراداً في ختام المادة أن "شيوم" أيضاً في الحبشية وقد وردت في سيرة ابن هشام في خبر هجرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى الحبشة. يقول المعجم المذكور: "قومٌ شيوم: آمنون، حبشية. ومن كلام النجاشي لقريش: اذهبوا فأنتم شيومٌ بأرضي". انتهى. ولكن المعجم المذكور يورد اللفظة نفسها مرة أخرى بحرف السين وبذات المعنى قائلاً: "قوم سُيوم آمنون. وفي حديث هجرة الحبشة: قال النجاشي لمن هاجر إلى أرضه امكثوا فأنتم سيومٌ بأرضي أي آمنون، قال ابن الأثير كذا جاء تفسيره: قال: هي كلمة حبشية، وتروى بفتح السين (سَيوم)، وقيل: سيوم جمع سائم أي تسومون في بلدي كالغنم السائمة لا يعارضكم أحد، والله تعالى أعلم". انتهى. والراجح عندنا أن شيوم/سيوم الحبشية جمع مذكر من الفعل سلم وشلم في اللغات السامية. فكلمة سلام العربية هي في العبرية "شلوم" وفي السريانية/ الآرامية "شلاما". وكثيراً ما ترد السين العربية شيناً في العبرية والسريانية، مثال: سِن وسَنة، فهي في العبرية شِن وشَنة. ومعلوم أن لغة النجاشي هي الجعزية والتي هي من فصيلة اللغات السامية Semitic languages وهي: (العربية والعبرانية والسريانية/الآرامية والحميرية والجعزية الحبشية) ولغات أخرى منقرضة. ومن اللغة الجعزية انحدرت اللغات الحبشية السامية: (الأمهرية والتقرية والتقراي) أما الجعزية نفسها فقد انقرضت وكانت قريبة جداً من العربية الجنوبية القديمة ولغة حمير. والنجاشي لقب وليس اسم علم وتعني ملِك، وأصلها في الجعزية الحبشية (نُقُس). ومهما يكن من أمر، وسواء كانت الكلمة الحبشية: شيوم أو سيوم، فلا علاقة لها البتة بالكلمات العربية السودانية، شامَ وشويْم وشيْمٌ وشيومٌ. فمعنى السلام والأمن، لا ينطبق على أي شاهد سواء في اللهجة السودانية أو اللغة العربية. وكل الشواهد الشعرية التي أوردناها وغيرها، سواء من الشعر العربي أو الشعر السوداني سوف لن تستقيم معانيها إذا صرفناها إلى معنى السلام والطمأنينة، بل سوف نحصل على نقيض المعنى المراد في كل شاهد. ومن البدهيات في علوم اللغة أن معنى الكلمة يستنبط من سياق الكلام وفحواه ودلالته العامة ومن الجملة المستعملة فيها وما يصاحب الكلمة من كلمات أخرى تضبط معناها وتوجهه، ولا يفرض المعنى على الكلمة من الخارج فرضاً. وفي ذلك تقول العرب: لكلِ مقامٍ مقال. وهو ما يعبر عنه في الإنجليزية بكلمة context. حاشية: للاطلاع على المزيد في هذا الموضوع: انظر مقالنا: شام وشويم وتحولاتها الدلالية، والمنشور بموقع سودنايل بتاريخ 13 أغسطس 2010