قراءة فى كتاب (مدينة مقدسة على النيل)

 


 

عدنان زاهر
4 February, 2023

 

امدرمان فى سنوات المهدية
1885 – 1898م

(وفى صميم ما حاولته فى هذه الدراسة هو فهم القوى التى أنشأت مدينة أمدرمان والطريقة التى تحكم بها أو العلاقات الأجتماعية التى سادت بين سكانها )
( حاولت دراسة أمدرمان من وجهة نظر سكانها البالغى التنوع،حتى أقدم نوعا من " التاريخ الداخلى " لفترة المهدية )

روبرت اس كرامر
1

مؤلف الكتاب هو ( روبرت اس كرامر ) و هو بروفيسور و أستاذ لتاريخ الشرق الأوسط و أفريقيا بكلية " سانت نوربينت " بولاية ويسكنسون الأمريكية و نشر عددا من المقالات و الكتب عن تاريخ السودان.
مترجم الكتاب هو البروفيسور بدرالدين حامد الهاشمى و أعتقد أنه شخصية غنية عن التعريف، متخصص فى الترجمة و له العشرات من المقالات و الكتب المترجمة عن السودان، لكن ما يميزه، ان ما يقوم بترجمته على الدوام يحتوى على أضافة معرفية لتاريخ السودان المعقد و الشائك.
كتاب ( مدينة مقدسة على النيل ) و الذى أنوى تقديمه فى هذا الحيز و باختصار غير مخل بالمضمون، يتكون من 279 صفحة و صادر من دار المصورات فى عام 2019 و هى ترجمة لاطروحة دكتوراه للمؤلف، تم الدفاع عنها فى العام 1991...و ظهر ككتاب 2010 . يحتوى الكتاب على مقدمة، أربع خرائط لمدينة الخرطوم و أمدرمان ابان المهدية و فى فترات مختلفة، سته فصول مع ملحق و مذكرات و مراجع فى نهاية الكتاب.
ما دفعنى للكتابة عن هذه الدراسة هى محاولتها تفسير و تحليل المجتمع الأمدرمانى ابان فترة المهدية من خلال، ايراد معلومات اجتماعية، اقتصادية و سياسية عن المجموعات التى سكنت امدرمان، و كيفية نمو صفوة اجتماعية داخلها وأرهاصات جنينية لقيام طبقه داخل ذلك المجتمع، سوف تؤثر لاحقا ليس فقط على المجتمع الامدرمانى، بل أيضا على مدن كثيرة كما سوف تلعب دورا محوريا فى السياسة و الأقتصاد،الاجتماع و تسير دفة الحكم فى السودان.
كما سوف يلاحظ القارئ المتابع لمجريات العمل السياسى فى السودان، ان المعطيات التى أوردها الكتاب ظهر تأثيرها على الحركة السياسية السودانية فى بدايتها ثم مسيرة تطورها كما أثرت على الوحدة القومية.

2
لن أتعرض للفصول الأولى من الكتاب لأنها تتعرض لتاريخ السودان بشكل عام .....الممالك التى قامت......أهم المدن و أهميتها التجارية و من ثم الظروف التى ساعدت على قيام الثورة المهدية وذلك فى تمهيد للحديث عن أمدرمان، فى رأى ذلك تاريخ مبذول فى كثير من الكتب و يمكن الأطلاع عليه، لذلك سوف اقفز مباشرة الى مناقشة فصول الكتاب التى تناولت امدرمان ووضعها الاجتماعى و لماذا أصبحت مدينة مقدسة كما سماها كاتب الدراسة.
- يلاحظ القارئ ابتداءا وبالرغم من ان الكتاب غنى بمراجعه المتعددة، الا انه ينتبه لتأثير المؤرخ " هولت " الواضح على الكاتب، و الذى تبدوا ظلاله فى كثير من صفحات الكتاب. فى تقديرى ان أهم فصول الكتاب هو الفصل الخامس و السادس التى أورد فيها الكاتب معلومات عن أسر الصفوة الاجتماعية فى أمدرمان خاصة أسرة المهدى،الخليفة عبدالله و الأشراف و الأمراء. يذكر الكاتب أن التراتيبية الأجتماعية فى بداية الدعوة كانت تعتمد أساسا على تاريخ الالتحاق بالمهدية و من خاضوا المعارك فى بداية الدعوة، مثال لذلك....... أنصار " أبا" ....أنصار قدير....أنصار " كبا " ....أنصار " الأبيض " أنصار الخرطوم...الخ
لكن تلك المعايير التى صيغت فى بداية الدعوة حصل عليها بعض التعديل فى زمن الخليفة التعايشى، فبدأ التمييز للنخب النيلية بالوضع الدينى،الأقتصادى و السياسى، وصارت المهيمنة على تلك النخب المتشكلة النمو، هم عائلة المهدى،الأشراف ،أسرة الخليفة عبدالله و الأمراء بالاضافة الى التجار الأغنياء الذين تم انضمامهم لتلك النخب من خلال المصاهرة، كل ذلك أدى بالطبع الى تراكم الثروات عند بعض من أولئك الرموز.
- الكاتب أيضا تعرض لثلاث قضايا بتركيز، ذلك لأهميتهم و هى قضية الأسترقاق فى المجتمع المهدوى، قضية الوحدة الوطنية و من ثم سيادة الثقافة العربواسلامية.
بالرغم من ان بعض المؤرخين كتب عن نظام الاسترقاق فى المهدية باعتباره أحد أهم مصادر الدخل الأساسية للدولة الناشئة، لكن " كرامر " أورد فى كتابه معلومات جديدة و دقيقة، و تتمثل في عددالرقيق الذى يمتلكه القادة المهدويون،عدد الخصيان المشرفين على الحريم، عدد الزوجات و أصولهم العرقية، عدد الأبناء، و من ثم السرارى التابعين لمؤسسة الزواج و كانت هذه وحدة قائمة لذاتها.1
- يقول الكاتب عن الوحدة الوطنية، ان المهدى و من بعده الخليفة التعايشى سعيا لبناء لحمة وطنية و اتحاد بين مختلف قبائل السودان، وقد اصابت بعض تلك المحاولات النجاج و لكن أيضا الكثير من الفشل و تعددت الاساليب المهدوية لتحقيق ذلك الهدف. تمثل ذلك فى الزيجات و المصاهرة بين القبائل، الجانب الأيدولجى الذى يجمع بين الأنصار و هو قراءة " الراتب " و اتباع تعاليمه، بالاضافة الى ذلك الجانب الشكلى فى الممارسة اليومية و هو لبس الجلاليب المرقعة البسيطة التى يرتديها جميع الأنصار و المجاهدين. يقول الكاتب أن الجهادية ( الآتين من جبال النوبة و غرب و جنوب السودان ) لم تجر محاولة لدمجهم داخل ذلك المجتمع ( لوضعهم القانونى الملتبس و لأنهم يعدون مصدرا من مصادر الدولة ) .....الفكرة ساقها من قبله " فرانسيس دينق فى كتابه ( مشكلة الهوية فى السودان أسس التكامل القومى ). 2
- توجه الدولة المهدية العربواسلامى ناتج عن فكرة المهدى المنتظر عند الشيعة ( و المهدى يخرج للدنيا و قد امتلأت جورا و ظلما فيملأها عدلا ) التى تسربت للصوفية و آمن بها المهدى و قاد من خلالها ثورة أسقطت الاستعمار المصرى التركى و هزت أركان العالم ،و كان من الطبيعى تبنى ذلك التوجه الذى أغفل التنوع العرقى فى السودان.3
- يقول الكاتب أن أمدرمان أو " وشل " و هو اسم سابق، لها مكانة خاصة لدى الأنصار و السودانيين عامة ، فقد كانت " بقعة المهدى المباركة " التى يحج اليها الأنصار، لذلك أطلق عليها الكاتب اسم المدينة المقدسة.

3
فى اعتقادى ان لهذا الكتاب قيمة كبيرة خاصة انه أعتمد على مراجع متعددة وشهادات شفهية لبعض الأفراد الذين عاصروا المهدية أو من أفراد الأسر التى شكلت النخبة النيلية و هم أحفاد المهدى، و الخليفة عبدالله و الخلفاء الآخرين فى تلك الفترة. برغم ذلك التقريظ للمراجع و الشهادات الا اننى أعتقد أن نفس المراجع التى جعلت لهذا الكتاب تلك الأهمية هى من جانب آخر أحد نواقصه.
الكاتب أعتمد فى مراجعه غير الكتب، على الصفوة و النخب يقول كرامر فى مقدمته ( كان معظم " و ليس كل " جامعى المعلومات الذين ساعدونى فى بحثى من أبناء أو حفدة الذين يعرفون أنفسهم بأنهم " عرب الهوية " فى غضون سنوات المهدية أو قبلها. و كان معظمهم من سكان العاصمة( امدرمان و الخرطوم).غير أن بعضهم كان يقطنون فى قرى على النيل الأزرق أو الأبيض. و كان معظم المخبرين من العوائل التى لم تسترق من قبل ( أى حرة قانونا "،رغم أن بعضهم كانت لهم جدات مسترقات فى عوائلهم ).
كرامر لم يسعى فى جلب معلوماته من الفئات المسحوقة و كان فى امكانه ذلك، لذلك الرؤية فى الكتاب هى رؤية النخب المهدوية أو النيلية التى تحدث عنها فى كتابه. فى تقديرى الكتاب جيد من حيث العرض و التحليل، و يفتح مجالا للتساؤل و اعمال العقل، و تلك حسنة نادرا ما تجدها فى الكتب.

عدنان زاهر
يناير 2023

اضاءة
1 – عند نشوء الحركة الوطنية بانعقاد مؤتمر الخريجين عام 1938 لم تثار فى أجندته قضية الاسترقاق فى المجتمع رغما عن أهميتها الاستثنائية لمعالجة الخلل الاجتماعى الذى تسببت فيه، و عندما أثيرت بواسطة احد الأعضاء لادرجها ضمن القضايا المهمة تم " قمعه "....بالطبع تسبب ذلك التجاهل لاحقا فى مآسى كثيرة لا زال يعيشها الوطن حتى الآن، كما تسبب أيضا فى انفصال جزء عزيز من الوطن.
2 – د. فرانيسس دينق ذكر فى كتابه أن قبيلة الدينكا قد رحبت بالمهدى و ثورته، بل انها نظرت اليه كمرشد و موجه واستوعبته فى دينها التقليدى الخاص،فالمهدى،كروح مقدس،أصبح ينظر اليه كأبن " دينق " الروح العظيمة التى يقدسها جميع أفراد القبيلة و نظمت تراتيل فى مدحه.و مع ذلك عندما شنت المهدية حربا مقدسة فى الجنوب و عادة تجارة الرق لم يجدوا طريقا غير مقاومة المهدية و الوقوف ضدها.ص 38 و 39 .
3 - عن الحديث عن تاريخ الحركة الوطنية و فى ندوة نظمها معهد الدراسات الأفريقية و الآسيوية ذكر مقدم الورقة معتصم أحمد الحاج ( ان بناء الوطنية على وحدة العقيدة و التفوق العرقى عمل معيب الى أبعد الحدود لأنه يكشف،فى الواقع عن رغبة تبرير الهيمنة السياسية و الأقتصادية لجماعة معينة على بقية المجتمع من غير بنى جنسهم ).
معتصم أحمد الحاج – مجلة الفجر و دورها فى بعث الوعى الوطنى – د منصور خالد – السودان أهوال الحرب و طموحات السلام – قصة بلدين

elsadati2008@gmail.com
///////////////////////

 

 

آراء