قراءة في كتاب ( ذكريات صياد)

 


 

عدنان زاهر
15 March, 2023

 

1

عدة أسباب دفعتنى لأستعراض هذا الكتاب الذى يمكن قراءته من عدة زوايا و مداخل
1- الكتاب يتناول وقائع شخصية عاشها الكاتب فى حقبة مهمة من تاريخ السودان فى كل من جنوب السودان و جنوب كردفان، و من خلال السرد يستطيع القارئ التعرف عن قرب لوضع تلك المجتمعات الاقتصادى، السياسى ،الاجتماعى و الثقافى وبما فيها من عادات وتقاليد.
2- الكتاب تناول جبهة خلت منها الكتابات فى المكتبة السودانية 1 و هى الحياة البرية و الصيد فى السودان و بالتحديد الجزء الجنوبى من السودان، جنوب كردفان و جبال النوبة و تحديدا " منطقة الليرى "، و هنا يتعرض بالتحليل للحياة البرية و الوصف لعدد كبير من الحيوانات و الطيور و حتى الأشجار و الأعشاب و فوائدها الطبية.
3- الكاتب ينتمى الى المجموعات الشمالية التى اشتغلت بالتجارة فى جنوب السودان " سابقا "، جبال النوبة و النيل الأزرق، حيث كان يطلق عليهم فى تلك المناطق أسم " الجلابة " 2، وهى مؤسسة أصبحت ذات ثراء، و يتمتع أفرادها بنفوذ و تأثير اقتصادى و سياسى كبير فى تلك المناطق.
4- تميز الكتاب بالسرد السلس مع جهد المؤلف فى ايصال الاحداث كما عايشها، مما أعطى الكتابة اضافة الى المعرفة المتنوعة قدر من المتعة، ...... يقول الكاتب الأمريكى " اوستن وارين "...... ( و لا تميز السيرة فى منهجها بين رجل الدولة و الرجل الذى لا يلعب دورا فى الحياة العامة.......ان أية حياة مهما كانت ستكون ممتعة اذا رويت بصدق )3
2
الكتاب يمكن تصنيفه ضمن كتب السيرة الذاتية و المذاكرات، و هو يشابه مذكرات الشيخ بابكر بدرى فى كتابه " حياتى " . أهمية الكتاب تنبع من السرد الممتع عن حقبة هامة فى تاريخ السودان مع الوصف الدقيق للمناطق التى عاش و عمل فيها المؤلف و كذلك العادات ، التقاليد و الأساطير المربوطة بحياة الناس، الاحداث السياسية مستصحبا معرفة دقيقة عن الشخصيات السودانية مما يشير الى امتلاكه معرفة واسعة بتاريخ و جغرافية السودان، أهم ما يميز الكتاب تعرضه بأدق التفاصيل عن الحيوانات البرية و الطيور، عاداتها و سلوكياتها فى تلك المناطق و من ثم معرفة دقيقة بخفايا صيدها.
المؤلف هو عثمان أحمد محمد نور 4 ولد بمدينة الكوة 1906 درس بها الأولية و من ثم أكمل الأوسط بكلية غردون القسم الأوسط ، رفض العمل موظفا بالبوسته و التلغراف عندما عين بها، وأنضم الى والده الذى كان يعمل بالتجارة فى الجنوب و جبال النوبة.
أشرف على نشرالكتاب وزارة الثقافة بالخرطوم بالاشتراك مع مركز قاسم للمعلومات و خدمات المكتبات، يتكون الكتاب من 431 صفحة مقسم الى مقدمة و ست فصول،الفصل الأول عن نشاة المؤلف و سنوات الصبا الأولى ، أما الفصل الثانى و الرابع ، والخامس فهو يتناول تجاربه و حياته فى جنوب السودان سابقا ( جمهورية جنوب السودان- حاليا )، الفصل الثالث قد خصص للحديث عن منطقة الليرى بجبال النوبة، الفصل السادس و الأخير تناول ذكر حوادث مختلفة و معلومات عامة عن الصيد و الطيور، ثم خاتمة.
سأتناول بضربات سريعة فصول الكتاب التى تحدثت عن جنوب السودان والتى تشمل معظم صفحات الكتاب و ذلك لأهميتها للأجيال القادمة فى الشمال و الجنوب الا أن طبيعة المقال لا تسمح أكثر من ذلك، و سوف اتناول بتركيز الجزء المتعلق بجبال النوبة لأهمية الأحداث التى تجرى به حاليا و لأنه لا زال ضمن الخارطة السودانية !
ابتداءا لدى بعض الملاحظات أعتقد أنها سوف تساعد القارئ فى فهم شخصية المؤلف و قد توصلت اليها من خلال سرده، لعلها تساعد فى استيعاب و تقريب أحداث الكتاب
- يتصف الكاتب بروح المغامرة، حب الأكتشاف و البحث عن كنه الأشياء، و يقف بصرامة ضد الخرافة بكافة أشكالها.
- يعتز بوطنيته تؤكد ذلك مواقفه الصلبه ضد الأستعمار و تعرية مواقفهم الأستعمارية الظالمة، و مشيدا على الدوام بالثورات التى تمت ضد المستعمر فى الجنوب أو الغرب.
- لا ينكر انتمائه لمؤسسة الجلابة بل يندهش لموقف المواطنين فى تلك المناطق تجاهها، رغم سرده لقصة تعكس احتيال التجار على المواطنين البسطاء.
- من أكثر الأشخاص المنادين بالحفاظ على البيئة ساعده على ذلك ولعه بالصيد، تنقله بمناطق متعددة مشاهدا للأنتهاكات التى تتم بشكل متكرر و مستديم للبيئة، ثم محذرا و مقدما جملة من المقترحات المفيدة و المتقدمة فى سبيل المحافظة عليها و أنقاذها.
جنوب السودان
- عمل الكاتب بالتجارة فى أعالى النيل،الأستوائية و بحر الغزال،و عاش فى كل من مدن ملكال، جوبا وواو و اختلط بالمواطنين فعرف عاداتهم و تقاليدهم وأعرافهم.ولعه بالصيد و ممارسته له فى تلك المناطق جعل له المام عميق بمعرفة الحيونات و كيفية صيدها فى المواسم المصرح بها.

من خلال السرد تعرف حبه للطبيعة ووله بها، تتملك القارئ الدهشة و هويحكى عن قبيلة الشلك و تاريخها و كيفية تنصيب " رث " الشلك . من العادات و التقاليد التى أوردها الكاتب عن الشلك و يمكن ايرادها فى السياق لتتطابقها مع عادات كانت تمارس فى الماضى فى مناطق مختلفه من العالم ....يقول ( اذا مات مك الشلك تدفن جثته داخل قطية لا باب و لا فتحه فى جدرانها و يدخلون فتاة من أجمل الفتيات و معها أوانى للأكل و شيئ من التمباك و آلة التدخين التى كان يستعملها فى حياته اعتقادا منهم ستعادوه الروح فتقوم الفتاة بوظيفة الخادم لتقدم له بعض ما يحتاج اليه ثم تقفل القطية عليها فتموت هى الأخرى جوعا و عطشا ....و قد تم الاقلاع عن هذه العادة فى زمن حكم المك فافيتى )!.......مما يدهش حقا ان هذه العادة كانت تمارس عند الفراعنه و فى أقصى شمال أوربا عند " الفايكنج " أو ملوك الشمال !
يقول فى موقع آخر و عندما تنشب الحرب بين فئات منهم بمختلف الأسباب.... و عندما يسقط قتيلا يتم ايقاف الحرب فورا مما يعنى ان الحرب ليست للانتقام و الأبادة و انما فقط لاثبات الحق أو الذات ص 87 .
- تحدث عن شجاعة قبائل الجنوب التى عاش بينهم الشلك، الدينكا و النوير، اورد قصة المفتش الأنجليزى " وندر " عندما قام فتى من النوير فى مركز " فنجاك " بلطمه على وجهه حتى أوقعه من على الكرسى الذى كان يجلس عليه، و ذلك عندما عامله بدونية و خاطبه بعنجهية المستعمر الأنجليزى.
روى قصة المفتش " فيرجسون " الذى قتل بواسطة النوير و استخدمت ذراعيه المقطوعة لدق طبول الحرب. كما أورد أيضا تمرد " دوال يو " و رفضه دفع الضرائب مع فرع من قبيلة النوير مما دفع الحكومة لارسال جيش لقمعه و قتله5.........تحدث عن المرأة الدينكاوية فى منطقة العلياب التى أصابت المفتش الأنجليزى بحربة حتى كادت أن تقضى عليه، عندما حاول الأستيلاء بالقوة على ثورها مقابل الضرائب التى رفضت دفعها.
- قبل انهاء هذا الجزء من الكتاب الخاص بتجربة المؤلف فى الجنوب، لا بد من ذكر واقعة سياسية مهمة، لأنها توثق لممارسة الحكم العسكرى الأول للجنرال عبود ، و لأنها من جانب آخر تعكس مواقف الكاتب.
عندما قام الحكم العسكرى الأول باعتقال معاوية ابراهيم و التجانى الطيب و ارسالهم الى سجن جوبا قام المؤلف و جزء من المواطنين الشماليين فى جوبا بزيارة المعتقلين و تقديم ما يلزم من مساعدة. يقول الكاتب ص 241 عند ( اعتقال الشيوعين فى العاصمة و توزيعهم على سجون المدن الكبرى المختلفة فكان معاوية ابراهيم و التجانى الطيب قد اختير لهم سجن جوبا و بما لنا من صلة القرابة بالسيد معاوية ليس من المرؤة أن نتقاسع و أن نوليه ظهرنا و هما فى محنتهما هذه ). جدير بذكره أن التجانى الطيب و معاوية أبراهيم سورج، و بعد أضرابات طويلة و مستمرة أجبرا النظام العسكرى الأول على طلاق سراحهم.

3
جنوب كردفان – منطقة الليرى
يتحدث المؤلف عن المنطقة ومواطنيها النوبة و القبائل التى تداخلت معهم فى المنطقة بتقدير عالى كما تناول العادات و التقاليد، تنصيب مك النوبة و بعض الأحداث المتفرقة.
- يقول مناخ منطقة الليرى استوائى شديد الحرارة ثم تناول نوعية الأشجار التى تنمو فى المنطقة ذاكرا فوائدها الطبية و استخدام الناس لها فى المنطقة.
الأشجار هى : الدوم ، الدليب ،شجرة أم " تقلقل "، الحميض ، أم ودكاية ، الطرق طرق ، أبوليلا ، أم غليله ،اللبان ،الشيبه.
أما عن الحيونات فذكر الزراف ،الأسد ،النمر ،الذئاب ،التيتل ،الكتمبور، التلت ،الحلوف و الغزلان بأنواعها أما الأفيال فتواجدها فى التيجان و شواطئ النيل فى الجزء الجنوبى الغربى.
يذكر من الحيونات الصغيرة أبوشوك ، أم قرفة ،الأرانب ،الكيكو و الذى يستخدم أهل المنطقة لحمه لعلاج مرض اليرقان.
أما عن الطيور فيذكر النسور،الصقورو الجديان، و دجاج الوداى....لكنه ذكر طائر أسمه " كريمة " رمادية اللون تقوم بخدمة الأنسان.....يقول ( اذا ما وجدت انسانا داخل الغابة تشعره بوجودها و هو يتبعها و كلما طارت تردد نغماتها الى أن تقترب منها فتطير لتحط على شجرة أخرى الى أن تجد نفسك امام شيئين اما حيوان مفترس أو خلية نحل ).يقول ان الطائر له فوائد فى أكل الديدان داخل الخلية التى تقوم بنزعها من الشجرة أو الدماء التى تسيل من الحيوان حينما يتم قتله. المدهش فى الأمر يوجد فى الأجزاء الشمالية من كندا طائر يشابه فى سلوكه نفس سلوك " كريمة "، يتفاءل الصيادون به حين رؤيته !
- تحدث عن تربية الخيول ، و كيفية صيد الأفيال بالخيول ، و رياضة " الصراع ".
- تحدث عن ثورة المك " كوبونجو " مك النوبة " لفوفا " و هم يسكون فى رؤوس الجبال، و قد رفضوا دفع الضريبة المطلوبة منهم، وكرد فعل لهذا العصيان قد قامت الحكومة بحصارهم لمدة شهر حتى استسلامهم و اعدام المك الذى قاد الثورة.
اخيرا
برغم اختلافى مع المؤلف فى تقيمه لبعض المواقف و الأفراد - ذلك طبيعى- الا أن ذلك لا يمنع ان أنبه لهذا الكتاب الذى يعتبر اضافة للمكتبة السودانية و قرأته ممتعة ، فهو ذاخر بالمعرفة و التجربة ، مفيد للعاملين بحقل الأجتماع ، السياسة، التاريخ و المغرمين بالصيد، بل أيضا للذين يطمحون فى معرفة هذا الوطن، فى بلد حذفت فيه مواد التاريخ و الجغرافيا من مناهج التعليم !!!


عدنان زاهر
مارس 2023

حواش
1- هنالك كتاب كتب عن الصيد بواسطة موظف انجليزى كان يعمل فى مصلحة البريد و البرد لم اتحصل على اسمه، كما يوجد كتاب لمؤلف آحر يدعى جاد اما الكتاب الثالث فهو لسفير الكويت عبدالله السريع الذى مكث فترة فى السودان.
2 – كتاب ( حروب الموارد و الهوية ) د محمد سليمان – هنالك تعريف دقيق و بحث شامل عن مؤسسة الجلابة ص 117
3 – كاتب و صحفى امريكى – له كتاب مترجم - نظرية الأدب.
4 – هو جد الصديق الدكتور و الكاتب مجدى اسحق لأمه و هو الذى قام باهدائى هذا الكتاب القيم
5- يقول المؤلف ان شراسة النوير فى مقاومة المستعمر جعلته يعزف عن تعليمهم و فتح مدارس فى مناطق وجودهم.

elsadati2008@gmail.com

 

آراء