كرت الهوية وخطورة الانزلاق نحو الحرب الأهلية

 


 

 

أبتدر هذه المقالة بقناعة يشاركني فيها كثيرٌ من السودانيين مفادها أنَّ معين "الكيزان" لا ينضب من السوء، فهم يسعون هذه الأيام لاستخدام "حرب الهوية" كحيلة أخيرة يمكن أن يسعوا من خلالها إلى امتلاك خيوط اللعبة وقد نفدت كل الحيل ولم يتَبقَّ غير المكر الذي ادَّخروه لهذه الساعة التي تنكشف فيها الألاعيب وتنفضح فيها المؤامرات (وقد استحدث لهم شَقيُّهم فقهاً أسموه "فقه السترة")، فليتهم يرعوون إذ يرون البلاد وهي تنزلق نحو الهاوية، فحينها لن يتَبقَّى لنا وطنٌ نأوي إليه وساحةٌ نتدبر فيها خلافتنا المشروعة أو نطرح فيها بحُرِّيةٍ أسئلتنا المُشْرَعة منذ عقود خلت.

تسعى النخب المدنية التي تدير الحرب الحالية من وراء ستار لاستثارة حفيظة أهل الوسط النيلي وإيهامهم بأنّ هنالك مجموعة قبلية بعينها تسعى لاستئصالهم والاستحواذ على مدخراتهم وأموالهم، علماً بأنّها مجرد "عصابة إجرامية" اختطفت القبيلة والإقليم وتريد أن تختطف السودان حضارة وإرثاً وشعباً، كل ذلك يتم بمعونة دويلة ظهرت على سطح الارض قبل خمسة عقود فيما يرجع عمر السودان الحضاري إلى خمسة ألاف عام. لم تنل هذه العصابة تفويضاً من القيادات القبلية قدر ما نالت من تقنينٍ تضمنته الوثيقة الدستورية وتفويضٍ أعطته إياها اللجنة الأمنية. وإذا كان ثمّة تعاطف حازته هذه العصابة من مجموع الغلابة الذين يقطنون أحزمة الفقر في العاصمة المثلثة فذاك سببه الأخدود المعنوي الذي خلقته الإنقاذ نتيجة الظلامات التي ألحقتها بشعوب الهامش - غرب السودان خاصة.

إنّ النّهب الذي اجتاح العاصمة هو من جنس النهب الذي كانت تمارسه - ولو بمستوى أفخم وأضخم - الإمبريالية الإسلامية التي تحالفت مع "الرأسمالية الوطنية" دون سابق إصرار فكري أو وجود ترصد عقدي، إنّما فقط اعتزام النّهب لحقوق المواطنين والاقتسام لثرواتهم دون وجه حق. لن يسمح المجال هنا لتناول تفاصيل عصابات الثروة الحيوانية (والتي ظل ينال ريعها "حناكيش" لا يعرفون الفرق بين "العجل الرباع" و "التور الكلالي")، عصابات القطن، البترول، الذهب، شركات الاتصالات، شركة الحبوب الزيتية والصمغ العربي، لكنني سأتوقف عند مافيا الدقيق التي كانت تقتسم مع المؤتمر الوطني ومع عمر البشير شخصياً الفرق بين السعر العالمي للطن (٢٨٠ دولار) والسعر المقدم لوزارة المالية (٥٨٠ دولار)، والتي تعطي المافيا الدولار بسعر ٢،٨ جنيه "فتفتله" (أي تصرفه) في السوق الأسود بسعر ٦،٥ جنيه.

لقد جنت مافيا الدقيق من هذه العملية في سنوات معدودة ما قيمته ٤،٥ بليون دولار كان يمكن أن توظف وأخريات لإنشاء تعاونيات توفر المواد الغذائية الأساسية من سكر وزيت ودقيق، تشييد مدارس ومستشفيات، تعبيد طرق للمواصلات وتقديم إعانات تكف أعين الفقراء، تصون قلوبهم، وتحفظ أيديهم يوم الكريهة الذي اختفت فيه القوات الشرطية كافة، كي لا تطال ممتلكات أناس شقوا وتعبوا بالسنين لبناء مسكنٍ لذويهم وتوفير مركبةٍ لبنيهم، هم مواطنون شرفاء لم يكونوا جزءاً من هذه العمليات النهبوية، هم قاوموا هذه الأنظمة الفاسدة وتظاهروا سلماً بل آثر بنوهم أن يُقْتَلوا صبراً ورفضوا إغراءات التسليح التي كانت تقدم للجان المقاومة من جهات "معلومة" حتى لا تدخل البلاد في أتون حربٍ أهليةٍ لا تبقي ولا تذر. إنّ الغربيين عندما شرَّعوا للضمان الاجتماعي لم تكن دوافعهم فقط خيّرية، إنّما أيضاً عملية، فهم قد أدركوا أهمية توفير الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية للمواطنين واعتبروا من مآلات الانفلات التي يستحيل فيها الفرد المتمدن إلى كائن متوحش.

تستخدم العصابة الإنقاذية هذه الأيام حيلاً معنوية تشمل التحريض ضد كيانات بعينها، وقد تم إعدام بعض المواطنين من المجلد - عاصمة المسيرية - ميدانياً لكونهم أفصحوا عن جهاتهم عند نقاط التفتيش التي كثيراً ما تسأل عن الهوية القبلية، بل أن طفلاً يعاني من داء التوحد عُذِّب في إحدى الأحياء من قبل عساكر القوات المسلحة لمجرد إجابته لهم بأنّه من قبيلة الرزيقات. لماذا السؤال من الأصل؟. لا أدري ما الذي يجب أن يفعله السودانيون في هذه الحال بالتنظيم مثلاً الذي فرَّخ البشير ونافع وعلي عثمان؟. قد يتجاوز الأمر التحريض إلى التصفية التي شملت قيادات في الجيش والشرطة شَكَّت العصابة في ولائها لمجرد انتمائها لغرب السودان. هنالك شبهة مثلاً تدور حول وفاة (أو مقتل) نائب مدير الشرطة - الفريق شُرطة نصر الدين محمد عبدالرحيم، من أبناء عد الفرسان (قبيلة أل بني هلبة) - يمكن الرجوع لملابسات القضية في بعض الإطلالات الإسفيرية والتي تعرضت للقضية بصورة تراجيدية محزنة لكنّها منطقية، من بينها رفض السلطات لطلب الأهل التشريح قبل الدفن. قد تبدو هذه مجرد حادثة فردية لكنّه في ظنّي إجراء منهجي يشبه الطريقة التي صفَّت بها الأجهزة الأمنية سابقاً بعض القيادات الوطنية، وحتى الإنقاذية.

لم تعد أحابيل "الكيزان" تنطلي على السودانيين وقد خبت محاولتهم الأخيرة لتصوير المعركة على اعتبارها "معركة كرامة" (وقد أمضوا ثلاثة عقود في تنكيس الرايات الوطنية وتفتيت اللُحمة القومية)، وخابت أيضاً محاولة "عيال دقلو" تسويق القتال على اعتباره محاولة لاستعادة الديمقراطية (وقد انتهكوا حرمة المواطن، أذلوه وهجّروه وتوسعوا في مسكنه وامتطوا مركبته)، فالشعب قد نفض يده من هذه المعركة التي لا تعدو كونها تمرد فصيل إنقاذي على فصيل آخر أراد أن يرجع بعقارب الساعة إلى الوراء وقد برزت قيادات جديدة لم تعد ترتضي دور البيادق إذ هيأت لنفسها خانة ريادية وضمنت لنفسها حاضنة سياسية. لم تعد مشكلة عبدالرحيم دقلو مع البرهان، لقد أصبحت مشكلتهم هو وأخوه مع جماهير الوسط الذين شاهدوا بأعينهم أقبح صور التعدي على الحياة المدنية والكرامة الإنسانية، كما لا يحتاج البرهان في خطاباته لتفكيك "سردية الكيزان" دوماً إذ باتت موجودة بين الأسطر والبيانات والتعيينات والمواقف والتكتيكات، وقد وضح موقفه من عملية الانتقال الديمقراطي في أكثر من محطة واستبان زهده في العملية السياسية برمتها. وما المطالبة باستبدال فولكر - المبعوث الأممي - مؤخراً إلّا إحدي "البطولات الوطنية الزائفة" التي قد تعودنا على سماع مثيلاتها من المخلوع عمر البشير الذي شهدت البلاد في عهده أسوأ أنواع التعدي على السيادة الوطنية.

لا أقول مطلقاً إنَّ هذه حرب عبثية، هذه حربٌ مصيرية (existential) (إذا جاز لي استخدام تعبير دكتور أحمد حسب الله الحاج) يحتاجها السودان وتحتاجها الخرطوم خاصة كي تنفي خبثها من السياسيين المرتشين، الضباط المؤدلجين وقادة المليشيات الأرزقية العاطلين. من يصفون هذه الحرب بأنّها حربٌ عبثية يفترضون انتصار أحد الفريقين المتقاتلين، فانتصار حميدتي يعني ضياع الوطن في الحروبات فالرجل ليس لديه مشروع فكري إنما مشروع تعبوي يتمثل في مقابلة العنصرية بعنصرية مضادة، وانتصار الجيش بقيادته الحالية يعني التكريس للمركزية وضياع فرصة النظر بموضوعية في الإشكالات الهيكلية والبنيوية التي أوصلت البلاد إلى هذه المرحلة المأساوية. ولذا فأنا أُعوِّل على ظهور كتيبة أسميتها "الكتيبة الظافرة" تتكون من ضباط شرفاء وطنيين بإمكانهم أن يضعوا الأمر في نصابه وذلك باستنفار كافة القوات التي يخشى "الكيزان" إقحامها في المعركة حتى الآن، وانتظامها تحت إمرة قائد وطني لا يخشى بأس "الكيزان" بل يُقَدِّم كل من عبث بحرمة الوطن لمحاكمات ميدانية، ويرجح كفة المواجهة العسكرية باعتماد منهاج سياسي مدني يقوده تكنوقراط مقتدرين عوضاً عن هؤلاء المرجفين الذين نراهم في طاولة المفاوضات في جدة.

إن المبادرة السعودية الأمريكية تمثل فرصة أخيرة لأعضاء اللجنة الأمنية، يشمل ذلك الأخوين (عبدالرحيم ومحمد) للخروج من المشهد السياسي بصورة فيها نوعٌ من الكرامة وحفظ ماء الوجه (هم لا يستحقون ذلك، إنّما هي ضرورات الموقف)، فلا يمكن لأحد الفريقين المتقاتلين تحقيق أي انتصارٍ عسكريٍ دون أن يترك ذلك انقساماً مجتمعياً خطيراً بين أبناء الوسط وأبناء البقارة (الجنيديين خاصة)، وانقساماً جغرافياً مريعاً بين الشرق والغرب، وانقساماً فئوياً مذهلاً بين البروتاريا الرثة والبورجوازية الصغيرة، وبين الطبقة الوسطى والرأسمالية الوطنية (إذا جاز لي استخدام لغة اليسار الماركسي)، إلى آخرها من الانقسامات المضرة بوحدة البلاد وتماسكها الوجداني - ظاهرة أشبه بانتشار الورم السرطاني (metastasis). قد يتلكأ قادة الجيش امتثالاً لأمر "التنظيم" الذي يعلم ما قد يؤول إليه الاتفاق من تسوية تخرجهم من المشهد بالكلية، تماماً مثلما فعلوا سابقاً مع اتفاقية الميرغني- قرنق ومؤخراً مع الاتفاق الإطاري الذي كانت إشكاليته في أشخاصه أكثر من كونها مشكلة في متنه. بيد أنَّهم يعلمون أنّهم في سباق مع الزمن فالدولة تتداعى بالنظر إلى عجز قادتها عن تقديم خطاب متماسك والجيش يتهاوى بالنظر إلى قياداته المأسورة أو المغدورة، لأنه تُرك تحت قيادة مدنية لا صلة لها بالتكتيك العسكري، وها هي تلك القيادة تستنفر قوات حرس الحدود وتعلن تبعيتها للقوات البرية تارة، وتارة أخرى تستميل مالك عقار بتعينه نائباً لرئيس مجلس كي تستعين بجنده كمشاة رغم أنّهم غير منضبطين وغير متمرسين على حرب المدن،. قد كان حريُّ بقيادة الجيش أن ترشد في فعلها وتتوب عن فكرة استخدام المليشيات بالنظر إلى تجربتها المريرة والحديثة مع الدعم السريع. الجيش لا يحتاج لروافد شعبية، الجيش يحتاج لدعم معنوي لا يتأتي إلّا بتغيير قيادته الحالية، كما يحتاج إلى دعم مادي لا يتوفر إلّا بدخول دولة أجنبية مثل تركيا أو مصر لصالحه.

ٍختاماً، إنّ القادة العسكريين العظام الذين حققوا فتوحات حضاريةٍ لشعوبهم - أمثال جنرال ديغول وجنرال واشنطون والقائد أتاتورك - كانوا يُتقنون تنفيذ الاستراتيجية السياسية بقدر توخيهم لسلامة الخطوات التكتيكية. لا يمكن لانتصار عسكري أن يتم في غياب رؤية سياسية تُراعي حاجة المواطنيين وتخدم تطلعاتهم المستقبلية. كان تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا، وهو قائد مدني يتفقد المشافي بنفسه في أوج الحرب العالمية الثانية ليقف على حال المرضى واحتياجاتهم، فيما يتنزه الجنرالات المتحاربون في السودان اليوم وسط جنودهم ويلقون خطباً تافهة تخلو من أي مضمون أخلاقي أو فكري، غير آبهين بحال الأطفال الذين يموتون في دور رعاية الأيتام أو مرضى الكلى الذين يلقون حتفهم واحداً تلو الآخر وقد عجزت الدولة عن توفير وقود لمولدات الكهرباء التي تحتاجها ماكينات غسيل الكلى في الأبيض أو الخرطوم. هذه إن دلت فإنّما تدل على خسة من يديرون هذه الحرب ورداءة ضمير من يشرفون على توجيهها من وراء ستار. وإذا كانت الحرب قد أبرزت طَوية هؤلاء فإنَّها قد أظهرت نفاسة معدن أولئك المتبرعين من الأطباء والممرضات وسائقي عربات الإسعاف والشباب الذين يقومون بدوريات لمراقبة الأحياء، مراسلي الإذاعات، وأخرين خيرين لا نعلمهم يعلمهم الله ويجزيهم على فعلهم. يلزم المثقفون - خاصة أولئك الذين يقيمون في المهجر ويمتلكون ترف التفكير والتدبير في مثل هذه الظروف الحرجة التي تمر بإخوانهم وأخواتهم بالداخل - إعانة هؤلاء النفر وذلك بتكوين "جبهة للمستقلين الوطنيين" تضم أولئك السودانيين المتجردين وتناشد أصحاب التخصصات المهتمين والمتحفزين لإعادة إعمار البلاد والإسهام في نهضتها بعد الحرب خاصةً أنّ بلادنا موعودةٌ بقيادة جديدة ومنشودة لتحقيق عقد اجتماعي فريد. إلى حين تحقق ذلك يجب أن لا يحيد المثقفون قيدَ أنمُلة عن الخط القومي، فقد تستخف الحمية بعضهم، لا سيما في زمنٍ تُسْتدعى فيه الهوية وهي مستعرة لحسم خلافات شخصية أو تُدَّخر لجني ثمارٍ مادية.

Auwaab@gmail.com

 

آراء