كلمات استعصت على المطربين من أغنية (يا رشا يا كحيل)

 


 

 

 

 

أغنية (يا رشا يا كحيل) من القصائد الجياد لشاعر غناء (الحقيبة) المفلق، صالح عبد السيد (أبوصلاح)، وقد حققت هذه الأغنية، في كل الأجيال، نجاحاً منقطع النظير كغيرها من خرائد هذا الشاعر العبقري. يقول مطلع الأغنية:
يا رشا يا كحيل غيثني/ الهوى سباني
وقد لحّن هذه الأغنية وشدا بها مطرب الحقيبة الكبير (كرومة) ولكن للأسف لا يوجد له تسجيل محفوظ منها. ثم غناها من بعده ثنائي شمبات (عوض وإبراهيم) وفي فترة إحياء غناء الحقيبة حظيت الأغنية باعجاب طلائع مطربي الغناء الحديث وما تزال تحظى باعجاب الصاعدين من المغنيين حتى صارت من أكثر الأغاني انتشارا بين جمهور المستمعين.
وقد لفت نظري أن هنالك كلمات بالأغنية استعصى فهمها ونطقها على المطربين الذين تتوفر تسجيلاتهم الآن بما في ذلك تسجيل (أولاد شمبات)، كما استعصت هذه الكلمات على مطربي الشباب في الوقت الحاضر. تقول الأغنية بالمقطع الثاني وفقاً لما هو متداول الآن غناءَ وكتابةً:

مِن شُفتَ الحسنَ الفتاني/ قلبي ترحّل ووجدي أتاني
مالَ جيش حبك عتّاني/ بسهامه الما بتختاني
مالَ صدرك لحشاك تاني/ وكتفك مالَ بو فريع بستاني
يتّكل في دروعه يبوس تاني

هنا في قفلة هذا المقطع (البيت الأخير) ترد كلمة (يبوس) وهي كلمة غريبة في هذا السياق. وذلك لأنه بحسب التركيب اللفظي والنحوي للأبيات، يعود الفعل يبوس إلى (كتف) الموصوف، فكيف يبوس الكتف؟ وماذا يبوس؟
الحقيقة أن مجمل المعنى في البيتين الأخيرين من هذا المقطع، في رأينا، هو أن صدر الحبيب (نهوده) أمال قامته المياسة كفرع البان كما يميل الثمر اليانع بأغصان الشجر، وبالمثل فعل كتفه الذي يتّكل (يستند) في دروعه. والدروع هنا الثياب والهدوم. والمعنى أن الصدر وكذلك الكتف يحتمى تارة بالثياب وتارة يظهر للعيان.
وأصل الدرع في اللغة قميص المرأة، وقد استعير اللفظ للسترة التي يلبسها المحارب وقايةً من السلاح فسميت درع أيضا. يقول الشاعر الجاهلي المخضرم الأعشى (صناجة العرب) في قصيدته الخالدة:

ودِّع هريرةَ إنّ الـــركـبَ مرتحـــــــلُ
وهل تطيقُ وداعـــــاً أيهـــــا الـــرجـــــــلُ
غـــــراءُ فــــرعاءُ مصـــــقولٌ عوارضها
تمشي الهوينا كما يمشي الوجِي الوحِلُ
كأن مشـــيتها مــــن بيت جـــــــارتها
مــــرُّ الســــــحابةِ لا ريثٌ ولا عجـــــلُ

إلى أن يقول:
صِفرُ الوشاحِ وملءُ الدرعِ بهكنةٌ
إذا تأتى يكاد الخصـــــر ينخــــزلُ


قوله (ملءُ الدرع) الدرعُ القميص أو الفستان بلغة اليوم أي أن جسدها يملأ قميصها دلالة على كونها ممتلئة في غير ما ترهل ولكن خصرها نحيل إذ يكاد ينفصل عن جسدها من شدة التثني. وهذه مقاييس جمال المرأة في ذلك الزمان. وهي كذلك مقاييس جمال شعراء الحقيبة للمرأة، فعندهم شرط جمال المرأة الممتلئة العود (غير السمينة)، نحافة الخصر (الضمير) إلى جانب رشاقة القوام.
وبالعودة إلى المسألة محل النقاش، نقول إن كلمة (يبوس) قد ضلت طريقها إلى هذه الصورة البلاغية ولا محل لها من الإعراب في هذا السياق. والكلمة الصحيحة في تقديرنا بناءً على المعنى المشار إليه، هي (يغوص) أي أن الصدر وكذلك الكتف بعد أن تنكشف عنه الثياب، يعود ويغيب مرة أخرى في الثياب.
ومعلوم عندنا أن الثوب السوداني (زي المرأة) ينحسر عادةً عن الرأس والكتفين والصدر رغما عنها وتعمل المرأة جاهدة طول الوقت على إرجاعه لتغيطة هذه الأجزاء من جسمها. ونحن لا ندري ما إذا كان (كرومة) المغنى الأول للأغنية ينطق هذه الكلمة (يغوص) وذلك لأنه لا تتوفر تسجيلات بصوته لهذه الأغنية (لتحري الدقة لم نتهد إلى تسجيل بصوته) غير أن كل المغنيين من بعده والذين تتوفر لهم تسجيلات متداولة ينطقونها خطأً (يبوس) بمن فيهم (أولاد شمبات).
وقبل أن نغادر هذه النقطة نود أن نقف عند الصورة البلاغية البديعة في قول الشاعر:

مالَ صدرك لحشاك تاني/ وكتفك مالَ بو فريع بستاني
يتّكل في دروعه (يغوص) تاني

تأمل الجناس التام في كلمتي (تاني) في قوله (لحشاك تاني) وقوله (يغوص تاني). والجناس من باب المحسنات اللفظية (الموسيقية) البلاغية في علم البديع. وهو أن تأتي بكلمتين متحدتين في اللفظ مختلفتين في المعنى. فأنت ترى أن (تاني) الأولى من الثني والانثناء. والأخيرة من (الثاني) أي للمرة ثانية، ابدلت الثاء تاء في كلامنا.

وهناك كلمة أخرى يخطىء المغنون في نطقها لا استثني منهم سوى (أولاد شمبات) وأحمد الجابري، وهي كلمة (مثاني) إذ يلفظها سائر المغنيين (مساني) بالسين. وتجدها مكتوبة في كل النصوص المطبوعة ورقيا وإلكترونيا للأغنية (مساني) بالسين. يقول الشاعر بالبيت الأول من المقطع الثالث بالأغنية:

لو للشعراء قصيد ومثاني/ ما بجيد وصفك غيرَ لساني

والمعنى أن الشعراء مهما أبدعوا من شعر وأجادوا في فن الوصف فإنهم لم يبلغوا مبلغ شعره في وصفها. واستعمل الشاعر كلمة (مثاني) هنا للدلالة على منتهى سدرة البلاغة. هو يشير بذلك إلى مفردة (مثاني) الواردة بالقرآن الكريم، ويقصد بها النصوص والآيات القرآنية المحملة بالأسرار الإلهية والإشارات العرفانية الدقيقة التي لا يتيسر فهمها وتأويلها إلا لأرباب البيان والفتوحات النورانية.
يقول تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ) – الزمر 23.
ويقول تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) – الحجر 87.

 

abusara21@gmail.com

 

آراء