‏‎للراغبين في تدمير الجيش

 


 

شهاب طه
23 October, 2024

 

د. شهاب طه

أكتوبر واحد وعشرين ٢٠٢٤
بسبب هذه الحرب الكارثية والحروب التي قبلها، والفشل المريع للرعيل السياسي الأول ومن تبعهم، منذ خروج الإنجليز وحتى يومنا هذا، نجد سوداننا في قاع مستنقع عميق ونتن ومرعب بسبب التمسك بمنظومة الحكم المركزي الماحقة، ومن أشد مآسيه ما نعيشه اليوم من حرب كارثية، كنت وقد حذرت منها، مباشرة، بعد إسقاط نظام المتأسلمين في ١١ أبريل ٢٠١٩ وحتى قبيل إندلاعها بيومين. حذرت وقدمت التدابير اللازمة لتجنبها، وأولها الإسراع في تفتيت السلطة المركزية وأعادتها لبيئتها الطبيعة لتلك المجتمعات المتنافرة والتي عاشت ذاتيتها وخصوصيتها لدهور في تلك الرقعة الجغرافية التي غزاها الإنجليز وغيروا طبيعتها وسموها السودان، ليصبح وليد غير شرعي، مشوه ومعوق، لذلك المحتل.

وأيضاً كنت من المنادين بوقف وإلغاء مشروع اتفاقية جوبا وأن تعود كل الحركات المسلحة الدارفورية والدعم السريع لدارفور والشروع في فكرة المفاوضات في مدينة الفاشر ولعقد اتفاقية الفاشر للصلح والسلام لكل أهل دارفور، ومن ثم الحصول على حكم ذاتي كونفدرالي ليبعدهم عن المؤثرات السلبية من المركز الموبوء. كخطوة نحو بناء “رواندا” جديدة في إقليمهم. ولكن، للأسف، يبدو أن قادة الجيش والحركات والمليشيا والساسة في هذا البلد لا يفكرون ولا يتخذون القرارات إلا في لحظات البهجة والارتياح العابرة، وهي القرارات التي تفيدهم فقط، أما في أوقات الشدائد والتحديات فهم يتركون الوطن فريسة للفوضى. وكلهم ليس لديهم الشجاعة الكافية وإلا لكنا تجنبنا هذه الحرب الفادحة. سكت الناس عن أطروحاتي وتجهموا بحجة أنها دعوات عنصرية. خُمّو وصُرّو.

ولكن أخطر ما أفرزته هذه الحرب هو الرغبة الغبية العارمة لدى البعض في هزيمة الجيش وتدميره، بدعوى أنه جيش الكيزان وليس جيش السودان. يجاهرون بدعم الجنجويد تحت ذريعتي إبادة الكيزان وترسيخ الديمقراطية، دون أدنى وعيّ بالتداعيات الكارثية لذلك الغباء الانتحاري. هزيمة وتفكيك الجيش السوداني أمر سيؤدي بلا شك إلى عواقب وخيمة. فالدولة، كأي دولة في العالم، تعتمد على جيش نظامي متماسك لحفظ أمنها وسيادتها. وإذا تم إضعاف الجيش أو تغييبه، سيحدث فراغ أمني خطير، ما سيؤدي إلى تفشي الفوضى واستنساخ المزيد من الميليشيات الإرهابية، إلى جانب تفاقم النزاعات القبلية والحروب الأهلية في كل بقاع السودان، ومن ثم فتح الباب على مصراعيه للتدخلات الخارجية بأشكالها المختلفة.

‏‎تفكيك الجيش يعني تشريد الجنود البسطاء ذوي الرتب الدنيا وهم لا يعرفون مثقال ذرة عن أيديولوجية الحركة الإسلامية ولا غيرها وليس هناك ما يُلزِمهم بها. جنود تعدداهم مئات الآلاف من السودانيين الفقراء من فئات فقيرة انضموا للجيش بدافع البقاء وليس السياسة. واليوم لو بُعث النميري لتغيرت هتافاتهم. انضموا للجيش بدافع التمتع بنيل شرف الجندية والنخوة الوطنية في الدفاع عن الوطن. فقراء والثراء الذي ينشدونه هو أن يكونوا محل تقدير الشعب. تشرديهم هو تحويلهم لمتمردين يقاتلون في عصابات تخصهم أو مرتزقة لصالح جهات أخرى من أجل البقاء

‏‎الخيار الأفضل: هو تفعيل المدّ الديسمبري الثوري الشعبي لاحتواء الجيش ومساندته ودعمه من أجل تحقيق النصر وتطهيره في آن واحد. تطهير الجيش من أدران السياسة والهوس والهرطقة البلهاء يعني استرداد هيبته وعظمته وتطويره. وتلك هي أهم أهداف الثورة وصمام أمانها. جيش واحد شعب واحد. الجيش قوته ليست في عدته ولا عتاده ولن ينتصر، حتى لو أصبح أقوى جيوش العالم إلا بالدعم الشعبي وإيمانه بالشعب دون فرز. يجب استهداف الجنود وضباط الرتب الوسيطة بالمزيد من العمل الثوري التنويري بأن الجيش جيشهم ولا يجب أن يتركوه مطيّة للتافهين والفاسدين وأصحاب الأجندة الخاصة، وأن ذلك لن يتم إلا بإعادة ضبط بوصلة الولاء ليكون خالصاً للشعب والوطن، بعيداً كل البعد عن السياسية والسلطة. يجب أن نؤكد لهم أن الجيش كيان يقوم على مبدأ الطاعة والانضباط، لكنها طاعة يجب أن تكون في إطار الواجب الوطني والقيم الأخلاقية، وليست طاعة مطلقة تصل إلى درجة القداسة التي قد نجح المتأسلمون، لحد ما، في زرعها في نفوس الجنود وتغييبهم للإيمان بأن طاعة القائد من طاعة الله وبذا تنحسر الرغبة في حماية الشعب بالقدر الذي يحمون به سلطة المتاسلمين.

فليعلم الجيش أن القائد مهما كانت مكانته، يبقى جزءاً من منظومة أكبر هدفها حماية نفسها والوطن، والطاعة يجب أن تكون مشروطة بالإلتزام بالقوانين وبحفظ كرامة الجيش وهيبته، لا بالخضوع المطلق دون مساءلة، وبذلك يكتشفون أن الجيش له مكانته العظمى في نفوس كل سواني وسودانية وذلك أعظم وسام يصبو له الجندي. نخاطب الجنود البسطاء وأسرهم ونزرع الثقة الكاملة في أنفسهم ونؤكد لهم أنهم هم وحدهم، ومعهم الضباط في الرتب الوسيطة، القادرون على إستعادة مكانة الجيش لوضعه المستحق وإصلاح الخطيئة التاريخية الكبرى حين غض النظر عن إنشاء مليشيا الجنجويد وتمكينها لتكون العدو الأول للجيش نفسه.

المسار التوعوي يتطلب صبراً طويلاً، ومع مرور الوقت، تنمو روح الوطنية، خاصة بعد أن أدركت الغالبية العظمى من الجيش، وخاصة جنوده، أن سياسات المتأسلمون الإنقاذيون هي التي جلبت لهم الذل والعار والدمار والمهانة والمعاناة، وأن جيشهم لن يستقيم عوده المعوج دون الإنعتاق من الولاء الأرعن لجماعة لا علاقة لها بالشعب ولا بالوطن ولا بضمان أمنه وسيادته. دون أدني شك، هذه الحرب علمتهم أن ولائهم الحقيقي يجب أن يكون لهيبة جيشهم وفخره وكرامته وللشعب والوطن وليس لأي فصيل سياسي، أو ديني، أو إلحادي، أو عِرقيّ، أو غيرهم

الحكومة ليست بيبي-سيتر. الإنتصار ممكناً بالمزيد من نشر الوعي الثوري العام بأن الثورة ليست ملكاً لأحد ولا لأي فصيل سياسيي بعينه. والثورة ليست من أجل السلطة نفسها أو لاحتكارها لحزب أو لمجموعة بعينها. والثورة ليست من أجل تمكين جهة ضد الآخرين. والثورة ليست فشل وخطيئة لجماعة بعينها ولا نجاح وفضيلة لأخرى. فالثورة هي صحوة الشعب وثورة الشعب وثورة التغيير لما هو افضل لكل الشعب. والثورة واجبها أن تُعرّف الناس بماهية الحكومة ودورها الأوحد حيث أنها هي الجهة التي تجمع الضرائب والعوائد لتقدم للمواطن الخدمات التي لا يستطيع تقديمها لنفسه بنفسه. فقط لا غير. والحكومة ليست بيبي-سيتر أو دادة للناس لتربيهم وتحدد سلوكياتهم ومعتقداتهم. والحكومة ليست مناطة بأن تُدخل الناس للجنة أو النار أو تخرجهم منهما. الثورة ثورة بناء وطن وتنميته. وكلما تزايد الدعم الشعبي للجيش كلما ذابت واندثرت حكاية الكيزان وجيش الكيزان، نجزل الثقة لجنود الجيش ونؤكد لهم أنهم هم الأمناء المكلفين ليس بالدفاع عن السودان فحسب، بل بإعادة بناء جيش مهني وطني محايد دون تدخل من أي فصيل سياسي. ‎

النصر آتٍ لا محالة، ولكنه يتطلب تعزيز الوحدة الوطنية على المستويين السياسي والاجتماعي و وقف التناحر الأرعن والانقسام الشعبي الكارثي بين مطالبون بوقف الحرب ومؤيدون لاستمرارها، فالطرفان ليسوا أعداء ولا يرغبان في الحرب. المطالبون بوقفها فوراً لا يقدمون رؤية واضحة لكيفية وقفها وما بعدها، بينما المؤيدون لها يتخذون خطوة أبعد، حيث يدركون أن إيقاف الحرب سيتحقق بالقضاء على أسبابها وهم الغزاة الجنجويد.

sfmtaha@msn.com

 

آراء