محمد سعيد العباسي: ماليَ وَالْخمر، أم ماليْ وَلِلْخمر؟

 


 

 

 

 

وردت هذه العبارة بالروايتين بمطلع قصيدة (يوم التعليم) بـ(ديوان العباسي). والقصيدة من القصائد الجياد للشاعر السوداني الإحيائي الكبير، محمد سعيد العباسي(1880-1963). وهي في تمجيد التعليم والحض عليه، ولكن الشاعر، كعادته، وجرياً على طريقة الأقدمين، يبدأ القصيدة، باستدعاء ذكريات الحبِّ وأيام الشباب وتذكر رفاق الصبا. يقول في مطلع القصيدة:

مــالي والخــمـــر رق الكأس أوراقــــــا
وللصبـــابهْ تصْــلِي القلب إحــــراقا
مضــى زمانٌ تســاقينا الهـــــوى بهما
فــــي فتيـــةٍ كَرُمــوا وجــــــداً وأشــــواقا

(مالي والخمر) هكذا وردت من غير ضبط وتشكيل بطبعة الديوان لسنة 2010 الصادرة عن الدار السودانية للكتب بالخرطوم.
ولكن هناك رواية أخرى للبيت متداولة بين كثير من قراء شعر العباسي وجدناها وردت بالطبعة الثالثة للديوان لسنة 1968 والصادرة أيضا عن الدار السودانية للكتب وهي: (مالي وللخمر) جاءت أيضاً من غير ضبط وتشكيل هكذا:

مــالي وللخــمـــر رق الكأس أوراقــــــا

هذا ولم يتسنى لنا الاطلاع على الطبعة الأولى للديوان والتي صدرت بمصر سنة 1948 ولذلك لا ندري بأي الصيغتين وردت العبارة. ومعلوم أنه يجوز في التعبير العربي أن تقول: مالي وكذا، ومالي ولكذا، باللام أو بدونها.
ومهما يكن من أمر، نقول إن القراءتين: (ماليَ والخمر) و(ماليْ وللخمر) صحيحتان من حيث الوزن الموسيقي بشرط أن تحرك، في الأولى، ياء الإضافة في كلمة "مالي" لتقرأ: (ماليَ والخمر) فإذا لم تحركها واكتفيت بالسكون فإنك سوف تحدث خلالا في الوزن.
وأما القراءة الثانية التي تدخل فيها لام الجر على كلمة الخمر فتنطق الياء في مالي ساكنة بلا تحريك هكذا: (ماليْ وللخمر) لأن دخول لام الجر على الخمر ناب عن حركة الياء في مالي.
وكنا قد اعتمدنا في كتابنا (الشعر السوداني: من مدرسة الإحياء إلى قصيدة النثر) 2020 رواية: (ماليَ والخمر) وجاء في هذا السياق بالكتاب ما يلي:
"لا بد من فتح الياء في (ماليَ) في أول البيت حتى يستقيم الوزن. ومعلوم في النحو أن ياء المتكلم المضاف إليها، في هذه الحالة، يجوز فيها الفتح والسكون، ومن ذلك قوله تعالى: (وماليَ لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) ففي هذه الآية، الياء في (مالي) بالفتح عند الجمهور. وأما في الشعر، فالوزن هو الذي يحدد متى تُفتح ومتى تُسكّن ياء المتكلم المضاف إليها. فأحيانا تُفتح كما في بيت العباسي هذا، وفي حالات غيره تُسكّن حسبما تقتضيه استقامة الوزن، ومن ذلك قول المتنبي: "مالي أُكتِّمُ حُبّاً قد بَرى جسدي". هنا الوزن يقتضي أن تُسكّن ياء المتكلم في (مالي أُكتِّمُ) لكي يستقيم البيت موسيقياً". انتهى. ص119 و120
وقصيدة يوم (التعليم) من بحر البسيط التام، (لم تُذكر بالديوان البحور الشعرية للقصائد). والوزن القياسي لهذا البحر هو (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن) في كل شطر. ووزن البيت الأول بحسب الرواية التي اخترناها هو:

مــــــــــاليَّ والخـــمرِ رقَّ الكأسُ أو راقا
ماليْ يَوَلْ/خمر رقْ/ قَلْكأس أوْ/ راقا
مستفعلن/ فاعلن / مســــــتفعلن/ فعْلن
وللصَّبـــابــــــــــهْ تُصْـــــــــلِي القلــبَ إحــــــــراقا
وللصصبا/ بتِ تُصْ/لي لْ قلبَ إحْ/ راقا
متَفْعلن / فعِلن / مســـــــتفعلن/ فعْلن

وأما الرواية الأخرى للبيت والتي تدخل فيها اللام على كلمة الخمر فوزنها الموسيقي هو:

مــــــــــاليْ وللخـــمرِ رقَّ الكأسُ أو راقا
ماليْ وَلِلْ/خمر رقْ/ قَلْكأس أوْ/ راقا
مستفعلن/ فاعلن / مســــــتفعلن/ فعْلن

هذا، وما يميز العباسي عن غيره من شعراء الإحياء، هو أن شعره يغلب عليه الغناء الوجداني ورقة العبارة والتعلق بالمكان والحنين إلى ذكريات الصبا والأصدقاء والأحبة، ويصدر في كل ذلك عن ذات نفسه أصيلا صادقاً غير مقلد ولا متكلف.
وبالدراسة الموسيقية لقصائد ديوان العباسي، وجدنا أن أغلب قصائده الجياد تُعزف على أنغام بحر البسيط، ومنها: قصائد (عهد جيرون) و(مليط) و(يوم التعليم) و(النهود) وغيرها. والبسيط بحرٌ يمتاز، بسعته ورحابته، وسلاسة موسيقاه ومرونة أنغامه ورشاقتها، وهدوء إيقاعه، ولعل هذا هو من أسباب العذوبة والرقة التي نحسها في شعر العباسي.
وربما وجدنا سر تعلق شاعرنا محمد سعيد العباسي بهذا البحر في حديث العلامة الدكتور عبد الله الطيب، بكتابه (المرشد إلى فهم أشعار العرب) عن الخواص الموسيقية لبحر البسيط حيث يقول:
"والحقيقة أن رقة البسيط من النوع الباكي، فهي تظهر في باب الرثاء. وتظهر في كل ما يغلب عليه عنصر الحنين والتحسر على الماضي. وأحسن ما يجىء الغزل في البسيط إذا كان ممزوجاً بلوعة الأسى والذكرى. ولذلك حسُنَ النسيب التقليدي في هذا البحر، لأن في النسيب عنصراً من الرمزية المراد منها إثارة الحزن في النفوس، ليس الحزن المر، وإنما الحزن الذي يعرض للإنسان عند التفكر والتذكر والحنين ويمازجه شىء من حلاوة. والعرب تسميه الشجن والأشجان، وهو عند الإنجليز معروف باسم نوستالجيا". انتهى. ص443
ومع أن عبد الله الطيب لم يذكر في هذا السياق، محمد سعيد العباسي، أو يتناول أي من قصائده أو قصائد أي من شعراء مدرسة الإحياء السودانيين، بالجزء الأول من كتابه (المرشد) والذي خصصه لأوزان الشعر، إلا أن ما ذكره هنا عن ملاءمة بحر البسيط للنسيب وإثارة لواعج الأشجان، ينطبق تماما على مذهب العباسي في استهلال القصيدة، ويؤكد على أصالة وصدق الشاعر في الغزل والنسيب الذي يفتتح به قصائده، على النحو الذي سبق بيانه آنفاً. كما يدل ذلك في ذات الوقت، على حسّ عبد الله الطيب المرهف، ومعرفته الدقيقة بالأسرار الموسيقية والنفسية لبحور الشعر العربي.
غير أن القول إن هذا البحر أو ذاك يناسب غرض بعينه من أغراض الشعر (مدح او هجاء او رثاء) لا يعني بالضرورة أنه لا يصلح لغيره من الأغراض، فالبحر الواحد يسع جميع أغراض الشعر والموضوعات، وهذا أمر من اليسير إثباته بنظرة واحدة في ديوان الشعر العربي، وإنما القصد من الحديث عن مناسبة بعض البحور لأغراض بعينها، هو القول إن هذا البحر أنسب من غيره لهذا الغرض. (انظر كتابنا: الشعر السوداني- من مدرسة الإحياء إلى قصيدة النثر) 2020 ص 115-122

abusara21@gmail.com

 

آراء