مذكرات في الثقافة (2): عز الدين عثمان: ريشة سجّلت عصر الستينات
بعد ان تصمت الدراجات النارية ويصعد الزعيم اسماعيل الآزهري رئيس مجلس لسيادة الي مكتبه بالقصر الجمهوري المطل علي النيل, وقبل ان يشرب فنجان قهوته كان اول يطلبه من مدير مكتبه ان يأتيه بجريدة الايام ليعرف " ايه راسم عزالدين اليوم"والزعيم اذ يفعل ذلك فلأنه كان اكثر الزعماء السياسيين الذي نالت منهم ريشة عزالدين ,ولا يكاد يمر يوم وإلا كان الازهري مادة له ,ومع كل ذلك كان الرجل يكتفي بالضحك فقط فلم يطلب ابدا من جهاز الأمن إعتقال عز الدين, ولاحتي رفع سماعة التلفون ليحتج لدي رئيس التحرير بشير محمد سعيد علي رسومات عز الدين اومنعه من تناول رئيس البلاد برسومات ساخرة .
تناول عز الدين الأزهري في مواقف كثيرة منها شعاره الشهير" الي من يهمه الأمر سلام"والذي كان يفصل به من الحزب كل من يعارضه الراي, وتلك كانت اولي بذور الديكتاتورية المدنية في الحزب الوطني الإتحادي ,وتعّرض عز الدين ايضا حتي لآخص خصوصيات الزعيم وحبه كما قيل لحلاوة الماكنتوش التي كانت لاتنقطع عن القصر , وتعّرض له برسمه الشهير"ابو الزهور خرق الدستور" عندما حل الحزب الشيوعي" ومقابل كل هذا كان الازهري اول ما يسأل صباحا "عز الدين راسم ايه اللليلة" ويضحك ملء شدقيه كما يقال, وما ناله الأزهري من ريشة عز الدين ناله ايضا الصادق المهدي وهو في مطلع شبابه وطموحه المبكر للزعامة و"فركشته" لحزب الأمة عندما طالب بفصل الإمامة عن الزعامة ثم حربه الشعواء ضد عمه الهادي فاطلق عليه عز الدين لقب " الصادق ابو الكلام" "والسندكالي" وتعرض عزالدين للشريف حسين الهندي حاوي السياسة السودانية وصانع حيلها يحمل مسدسة كشريف رعاة البقر في الغرب الامريكي ليواجه بلغة السينما غرباء يعترضون عربة الميزانية ,وتعرض للشيخ علي عبدالرحمن "الكردينال الاحمر" كما كان تطلق عليه صحيفة الناس يقود موكبا هادرا مع الشيوعيين واتحاد العمال من ميدان ابوجنزير مطالبا بحل الجمعية التأسيسية, وتعّرض لما اطلق عليه فضيحة محطة الاقمار الصناعية وبطلها محمد عبد الجواد وزير المواصلات يومذاك .
عموما كانت ريشة عز الدين اقوي من المقالات السياسية في نقدها للسياسي والإجتماعي ولم يتعرض للضرب مثلما تعرض لذلك الصحفي عثمان ميرغني وتعرض اخر لقطع الراس .
عكس سماحة الأزهري وثقافته الليبرالية انظر كيف تعامل جعفر النميري مع رسومات عز الدين ؟ يحكي الصديق محمد خوجلي الكرراوي وهو من تلامذة عزالدين ويعمل الان في صحيفة الوحدة الظبيانية ,يحكي نقلا عن عزالدين نفسه انه رسم مرة موظفا جالسا في مكتبه وخلفه لوحة مكتوب عليها " مادوامه "في إشارة الي إنقلاب وقع في احد البلدان الأفريقية وتزامن ذلك مع عودة النميري منتصرا علي إنقلاب 19 يوليو فما كان من النميري إلا ان رفع سماعة التلفون وتحدث منفعلا مع الراحل موسي المبارك رئيس مجلس ادارة الأيام يومذاك محتجا علي الكاريكاتير وصادف إن كان عزالدين لحظتها مع موسي في مكتبه فقال له النميري "اديني ليهو ووجه له سؤالا في كلمة موجزة "مادوامة"!فرد عزالدين متلعثما: لكن ياريس؟!!فقال نميري:لا لكن ولا حاجة ...اديني موسى اسمع ياموسى ..عزالدين ده مايرسم ابدا ..عينوه في أي منصب مدير تحرير. مستشار تحرير بس مايرسم ابدا!!
هذه الحادثة هي التي جعلت عز لدين يترك السودان نهائيا ويهاجر الي الأمارات العربية
ليعمل في صحيفة البيان فقد وجد نفسه حسب اوامر النميري ريشة بلا ورق , وفكرة بلا تنفيذ ,وقد لعب الصديق عمر العمر نائب مدير التحرير يومذاك دورا كبيرا في إحضار عز الدين ليعمل في الصحيفة التي كانت تنافس صحيفتي الإتحاد والخليج ,وكان ذلك مكسبا مقدرا لفن الكاريكاتير السوداني اذ ينضم اليها فنان في قامة عزالدين وتصبح رسوماته حديث المدينة .
إستطاع (عزالدين) خلال الثماني سنوات التي عمل فيها في صحيفة (البيان) أن يثبت أنه رسّام كاريكاتير من الطراز الأول ، وهذا ما دعا بعض الجنسيات العربية التي تعمل في الصحيفة أن تحاربه وتحاول الإنتقاص من أعماله ، ولكنها فشلت في هذه الحرب لأن ريشة الفنان كانت أقوى من الأصابع الخفية التي عملت دائماً على إقصائه ، وبشهادة صحافيون ومثقفون عرب كثيرون أن (عزالدين عثمان) كان الأكثر تفوقاً على غيره من رسامي كاريكاتير آخرين ، وبسرعة متأنية إستطاع (عزالدين) أن ينقل حيوات إجتماعية متنافرة إتسمت بها الأمارات العربية المتحدة لكونها وعاء لمهاجرين من مختلف أنحاء العالم ومع أن ذلك المجتمع بوضعه النفطي المريح لاينتج أحداثاً ذات بال ,أو كالتي في السودان ومصر وبقية البلدان العربية ، إلا أنه تمكن من عكس قضايا هامة مثل إستبداد الكفيل الذي يصل في بعض الأحيان إلى درجة أشبه بتاجر الرقيق وقضايا الخادمات الاسيويا ت اللاتي يتعرضن للتعذيب من كفلائهم.
وفي هذا الجو سلّط (عزالدين) ريشته على شرائح من الجنسيات الأسيوية المسحوقة ((كالبتّان)) و((البلوش)) و((الهنود)) ، فنقل معانآتهم في أكثر من وجه خصوصاً على صعيد العلاقة مع مواطني الدولة الذين ينظرون إليهم بإعتبارهم خدماً المطلوب منهم فقط الإذعان والإنصياع لنظرية الكفيل المتخلفة ، وقد أعترف رسّام الكاريكاتير العالمي السوري علي فرزات صاحب مجلة (الدومري)) للكاريكاتير وهو يُعد من العالميين في هذا الفن اعترف أن (عزالدين عثمان) يمثل مدرسة لها خصائصها السودانية ، وإنه إستطاع معتمداً على التراث الأفروعربي أن يعطي رسوماته في الأمارات نكهة سودانية تخلط ما بين العروبية والزنجوية ، وفي الفترة نفسها التي كان فرزات يعمل فيها بالأمارات في صحيفة (الوحدة) ، كان (عزالدين) هو الرسّام الأول في صحيفة (البيان) والتي تركها في آواخر عام 1988 ليعود نهائياً إلى السودان ، تلك شهادة أردت أن أسجلها للتاريخ عن مبدع سوداني شارك في تسجيل عقود هامة من مسيرة الحياة السياسية والإقتصادية في السودان .
S.meheasi@hotmail.com