مقتطفات من كتاب “غردون: السودان والرق” .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

 

مقتطفات من كتاب "غردون: السودان والرق"
GORDON: The Sudan and Slavery
بيير كرابيتس Pierre Crabites
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه ترجمة لصفحات قليلة من كتاب صدر للكاتب بيير كرابيتس عام 1933م في لندن عن دار نشر جورج روتليدج بعنوان "غردون: السودان والرق".
وبيير كرابيتس (1877 – 1943م) هو مؤرخ أمريكي (من أصول أوروبية وكاريبية هجينة). درس المراحل الجامعية الأولى بجامعات أمريكية، ونال درجة الدكتوراه من جامعة باريس. وعمل ممثلا للولايات المتحدة في "المحاكم المختلطة" بالقاهرة (وهي المحاكم التي أنشئت في مصر في القرن التاسع عشر ليتقاضى إليها رعايا الدول الأوروبية، الذين كانت المعاهدات تمنع تعاملهم مع القضاء المصري المحلي).
المترجم

******* ****** ************
مقدمة
صدَّر المؤلف كتابه بمقدمة قصيرة من القاهرة ذكر فيها أن بعض الناس كانوا ينتقدون غردون ويتهمونه بالتذبذب والمزاجية وعدم استقرار وثبات الشخصية، ولكنهم كانوا يجمعون على إخلاصه. ويدفع عنه محبوه - بالطبع - تلك الاتهامات، ويلقون بكل ما أتهم به غردون على غلاديستون وحكومته.
وذكر المؤلف أن غردون كان قد خلف وراءه العديد من الرسائل والمذكرات التي تناولت الكثير مما لقيه في السودان، خاصة في غضون الأسابيع الأخيرة قبل مقتله، حينما كانت حياته معلّقة في الميزان. وذكر أنه سيعتمد في كتابه هذا على تلك المراسلات والمذكرات بحسبانها "تتحدث عن نفسها"، وهي بهذا الفهم تُعد أفضل طريقة للوصول إلى حقيقة أمر الرجل ومكانه في التاريخ. وأضاف بأنه خلص إلى استنتاجاته (الشخصية) الواردة في الكتاب من واقع الكم الهائل من رسائل ومذكرات غردون، وعلق عليها بما يراه صحيحا في نظره.
وشكر الكاتب في نهاية مقدمته الملك فؤاد الأول بحرارة زائدة لسماحه له بالاطلاع على كثير من الوثائق الملكية بقصر عابدين.

السودان والرق:
لخص المؤلف في نحو سبع صفحات ذلك الموضوع المتشعب، وذكر أن السودان كان في بداية القرن التاسع عشر "مغلقا" أمام مصر. وتطرق خطفا لعهد البطالمة الذي اختفى منذ نحو ألفين من السنوات، وكيف أن أقواما أتوا من بَعْدِهِمْ "أضاعوا حكم ذلك البلد الأسود". غير أنه بعد حروب نابليون، قامت أوروبا بـ "تعديل" خرائطها، ووجدت في محمد علي باشا قائدا ممتازا للجيوش، إذ كان قد أفلح في السيطرة على أرض الفراعنة، ووسع من حدود مملكته بطرده للمماليك، بسند من ولده إبراهيم باشا ونسيبه الدفتردار. ونجح محمد علي في السيطرة على مملكته التي كانت تتبع اسميا للخلافة العثمانية. ولولا تدخل أوروبا فلربما حاول السيطرة هو نفسه على القسطنطينية عاصمة تلك الخلافة.
وكانت الممالك الصغيرة الواقعة جنوب مصر في حالة تحارب وفوضى وتعدي ونهب للقوافل التي تأتي من مصر أو تذهب إليها. وهذا ما دعا محمد علي باشا لوضع حد لتلك الفوضى وضمان انسياب وتوسع تجارة بلاده. وكان لديه أيضا دوافع أخرى في السيطرة على جنوب وادي النيل، أهمها الذهب، إذ كان قد سمع بوجود كميات ضخمة منه بالسودان. وكان يهدف أيضا لإدخال التجارة والتمدن في أوساط القبائل الزنجية، وفي الحصول على أعداد كبيرة من الرقيق لتجنيدهم في جيشه، إذ لم يكن يثق كثيرا في جنوده الألبانيين. واستجلب محمد علي باشا لجيشه ضباطا من فرنسا وضباط صف من المماليك، إضافة للجنود من زنوج السودان. وبدأ بشن حملات لجلب الرقيق ضمن أهداف غزوه للسودان. غير أنه سرعان ما اكتشف أن الزنوج لا يحتملون البرد المعتدل في مصر، وبالتالي لن يصلحوا للخدمة في جيشه إن عزم على تسييره للهجوم على بلاد أشد بردا من مصر. فعدل عن فكرة استخدام الرجال الزنوج جنودا في جيشه. غير أن وكلائه في تلك التجارة ظلوا – دون طلب منه - يشتغلون باصطياد الأولاد والبنات والنساء لمصر. وكانت أمريكا وأوروبا تنظر للاسترقاق في ذلك الزمان باعتباره مؤسسة مفيدة، كما يراه الإسلام أيضا كذلك (هكذا! المترجم). ولذا أقيم سوق رائع كبير بالقاهرة للسود المجلوبين من الجنوب. غير أن محمد علي باشا كان يعمل على "ضبط" أعداد هؤلاء المسترقين في حدود "معقولة". واستمرت تلك التجارة، ولكن دون تشجيع رسمي من الدولة، مع تجارة قانونية هي تجارة العاج. وبعد وفاة محمد علي باشا عام 1849م خلفه عباس، الذي لم تكن له نفس العقلية والقدرة التي كانت يتمتع بها سلفه. وكان عباس لا يرى في محمد علي باشا إلا حذاءً للأوربيين، وكان يرى أن من الأفضل له – كمسلم – أن يخدم الخليفة العثماني، وليس المسيحيين الأعداء. وهنا ازدادت تجارة الرقيق الوارد من السودان، بالتعاون مع مسؤولي الحكومة المحليين. وفي عام 1854م حكم مصر الخديوي محمد سعيد، الذي أدخل إصلاحات دستورية، ومنع تجارة الرقيق قانونا. إلا أن إصدار ذلك القانون لم يَجِدْ في منع تلك التجارة بفضل قوة نفود مُلاك الرقيق الأرستوقراطيين. وفي عهد محمد سعيد أفلست مصر بسبب الديوان الكثيرة التي تراكمت على مصر، وكانت سببا في التدخل البريطاني فيها.
وتولى حكم مصر الخديوي إسماعيل في يناير 1863م (أي بعد فترة قصيرة من إعلان الرئيس الأمريكي إبراهام لنكون إلغاء الرق في أمريكا. وأعاد إسماعيل باشا تحريم الرق وأعمال السخرة (Corvée) قانونا في بلاده. وكان من رأي إسماعيل أن الخرطوم في ذلك الوقت كانت تُحكم بالحديد والنار من قبل مُلاك الرقيق، وأن عليه أن يجد له سندا في رجل بريطاني قوي وحكيم بمقدوره إجتتثات ذلك الفساد المستشري وتنظيف "اسطبلات يوجين Augean stables" كما جرت العبارة الشهيرة. وتم ترشيح الرحالة الرياضي ومكتشف منابع النيل صمويل بيكر لشغل ذلك المنصب، ومنح مرتبا قدره 10,000£ في العام. وكلف الخديوي إسماعيل بيكر بمهمتين: توسيع رقعة الأراضي التي يحكمها، وتثبيط تجارة الرقيق. وأصدر قرارا في أبريل من عام 1869م منح فيه بيكر سلطة مطلقة على كل الأراضي الواقعة جنوب قوندوكورو (الواقعة على النيل في خط عرض 50 شمالا). وكان بيكر مدركا لأن المجتمع المصري يعتمد على عمل وخدمات الرقيق، ويكرر دوما بأن ذلك المجتمع من غير الرقيق سيكون كـ "عربة دون عجلات ... ولن يتقدم للأمام".

استدعاء غردون لوسط أفريقيا:
عاد بيكر للقاهرة في أغسطس من عام 1874م بعد أن أفلح فقط في تعطيل تجارة الرقيق عبر النيل. لذا فكر الخديوي في استقدام إنجليزي آخر لإكمال المهمة. وكلف رئيس الوزراء نوبار باشا للبحث له عن خليفة مناسب لبيكر. وتصادف أن كان غردون موجودا في القسطنطينية عندما كان نوبار بها، فقرر نوبار أن غردون هو الأصلح للمهمة المطلوبة. وتم تقديم عرض العمل بالسودان لغردون في أكتوبر عام 1873م. وافق غردون على العرض شريطة الحصول على موافقة وزارة الحربية البريطانية. وبعد الحصول على الموافقة وصل غردون للقاهرة في 6 فبراير من عام 1874م وقابل الخديوي، وتحدث معه باللغة الفرنسية وكان انطباعه عنه حسنا للغاية (أشار الكاتب إلى أن الخديوي كان مجيدا للفرنسية، بينما كانت لغة غردون الفرنسية سطحية جدا). ورفض غردون (حاكم المديريات الاستوائية الآن) المرتب الذي عرض عليه (10,000£ في العام) وطلب تخفيضه إلى 2,000£ فقط. أخبره الخديوي بأنه لن يقدم له أي نصائح أو توجيهات مفصلة، وأن عليه أن يقوم "بما يلزم" بحسب الموقف الذي يجد نفسه فيه، وأن بمقدوره مخاطبته مباشرة دون الرجوع للحكمدار في الخرطوم.

في الطريق إلى الخرطوم:
بينما كان غردون يسرع الخطى للوصول للخرطوم – وليس لسواكن كما نصحه لورد قرنفيلد وكما كان مقررا – كان الجنرال فلانتاين بيكر يقود 3,715 من المصريين في حملة خديوية لإنقاذ طوكر وحامتين مصريتين على ساحل البحر الأحمر. وفي الثاني من فبراير قام عثمان دقنة بمهاجمة تلك القوات وقضى على 2,375 من رجالها. وضاعفت تلك الهزيمة من قلق البريطانيين على سيطرتهم على البحر الأحمر وميناء سواكن.
وتناول أعضاء البرلمان والصحف البريطانية أنباء تلك الهزيمة ومقتل عدد من الضباط البريطانيين. وبعث رئيس الوزراء البريطاني ببرقية إلى غردون يسأله إن كانت تلك الهزيمة ستغير من رأيه في الذهاب للخرطوم، فأجابه بالنفي، وأن "الله سيبارك جهودنا". وبلغ خبر هزيمة بيكر وجنده في معركة التيب مسامع غردون في يوم 11 فبراير ببربر وفي طريقه للخرطوم. حينها تفكر غردون في الأمر وقلبه من كل الوجوه وقر قراره على أن يعلن انفصال السودان عن مصر، وأن يكون مليشيا محلية، ويعين مسؤولين سودانيين في كل الوظائف المهمة. وفيما بعد عد وينجت تلك الخطوة "قفزة في الظلام" وأضاف أن إعلان انفصال السودان عن مصر هو "إعلان قاتل استغنى عن السودان بالكلية". ولام لورد كرومر غردون على تصريحه بذلك الإعلان أمام أعيان بربر. ونسي أو تناسى منتقدو غردون أنه أضطر لذلك الإعلان المخالف لما كان يقوله في القاهرة وهو في طريقه للسودان. وكان غردون يعرف محكوميه السودانيين جيدا، وأن المد المهدوي قد طَغَا بعد هزيمة عثمان دقنه لبيكر في التيب. وأراد بإعلانه ذاك أن يقاوم ذلك المد بالعزف على ما يرغب فيه زعماء السودانيين من مصالح خاصة، وأن يلوح لهم ببريق الرعاية السياسية كطُّعْم حتى لا ينضموا لذلك "النبي الكاذب" (كما كان يسمى المهدي). وجعل غردون من "مصالح السودانيين الخاصة" نقطة محورية لاستراتيجيته السياسية التي تعتمد على شهوة وشغف زعماء السودانيين بالسلطة. ودعم موقفه معهم بمخاطبته لمَحَافِظ نقودهم. وسُر شيوخ المنطقة لفكرة الظفر ببعض ثمار الحكم الشهية. وأستغل وفد من هؤلاء الشيوخ الفرصة فسألوا غردون إن كان المنشور الحكومي الذي أصدره غردون في نوفمبر من عام 1877م، الذي قضى بتحرير كل المسترقين مع مقدم عام 1899م من ضمن إعلانه الحالي. وكان غردون يدرك ألا جدوى من قولة "نعم"، فرد عليهم بالنفي، وأصدر إعلانا بهذا المعنى. وأسعدهم ذلك الإعلان أكثر من أي شيء آخر.
ولم تسمع لندن بنبأ ذلك الإعلان في بربر. غير أنها علمت عن مرسوم آخر أصدره غردون بعد يوم واحد من بلوغه الخرطوم. وسبب ذلك الأمر إثارة كبيرة في إنجلترا. وجاء في صحيفة "مصر الحديثة" في القاهرة مقال ورد فيه أنه: "من العجب العجاب أن البطل المنادي بمنع تجارة الرقيق يتخلى هكذا عند وصوله للخرطوم عن تقاليده ومبادئه ويسمح بالرق". وهاجت المنظمات المنادية بتحريم الرق وماجت غضبا من إعلان غردون. واستغلت المعارضة البريطانية ذلك الإعلان وشرعت في الهجوم على الحكومة، وتساءلت إن كان من صلاحية غردون إصدار مثل ذلك الإعلان.
أما لورد كرومر فدافع عن موقف غردون المتسامح مع الرق، وسوغ له بالقول إن "ذلك الجندي قد فكر في أنه لن يستطيع منع الرق وتجارته، فلم لا يقول ذلك صراحةً، ويفعل ما يقول". وذكر بأن غردون لم يتحول – في قرارة نفسه - عن معتقداته وأفكاره حول الرق. غير أن هنالك من يقول لغردون: "نعلم أنه ليس بمقدورك منع الرق، ولكن ألم يكن من الأفضل أن تخبئ تلك الحقيقة القبيحة من أعين العالم؟".
لقد كان غردون يؤمن دوما بأن هنالك فرقا بين الاحتفاظ بالرقيق المنزلي (وهي عادة يراها متأصلة في هذه البلاد ولن تختفي قريبا)، وبين اصطياد أو سرقة الأهالي بغرض بيعهم كإرقاء. وكان يعارض إخلاء القرى من سكانها والقبض على الرجال والنساء والأطفال وسوقهم عبر الصحراء أو في المراكب الشراعية للبيع في أسواق النخاسة. أما فيما يخص الاحتفاظ بالرقيق، فكان من رأي غردون أنه لا ينبغي إجبار مُلاَّك الرقيق على التخلي عن "ممتلكاتهم"، إلا إذا كان المصريون والبريطانيون على استعداد لتنفيذ ما ورد في إعلان 1877م من منع للرق بالسودان بقوة السلاح (1). غير أن كرومر وصناع السياسة البريطانية لم يكن لديهم متسع من الوقت لقراءة ما كان يكتبه غردون. ولو فعلوا لوجدوا في كتاباته الكثير من التسامي الديني والثبات والاتساق وبعد النظر. وكان غردون قد كتب في أبريل من عام 1877م أنه كان عليه لو أمر بمنع تجارة الرقيق أن يقوم بالتالي: أولا، كان عليه أن يفصل عن العمل 6,000 من الجنود الأتراك والباشبوزق الذين يعملون في حراسة الحدود لأنهم يسمحون بمرور قوافل الرقيق، واستبدالهم بآخرين، وثانيا: أن يفكر في المشاق والمصاعب والتكلفة المالية المترتبة على منع الرق في أوساط السكان المسلمين لو ألغي الرق، وتم تنفيذ ذلك بقوات حكومية. من بمقدوره الاقدام على ذلك؟ وأضاف غردون: "أنا – من موقع الأحداث – أستطيع أن أؤكد أن الخديوي عاجز تماما عن إيقاف تجارة الرقيق". ولخص غردون حله لمشكلة الرق كما يلي:
(1) تنفيذ القانون القاضي بإرجاع الهاربين (الآبقين) إلى "سادتهم"، إلا عند ثبوت سوء معاملتهم لهم.
(2) إلزام مالكي المسترقين بتسجيل أسماء من يملكونهم من رقيق عند الجهات الرسمية قبل يوم 1/1/1878م
(3) إذا لم يتم تنفيذ البند الأول أعلاه، لا يعد المسترق ملكا لصاحبه.
(4) إيقاف تسجيل الرقيق بعد الأول من يناير 1878م. وبهذا سيمنع (بعد يوم 1/1/1878م) اعتبار المسترقين الجدد من ضمن ممتلكات أي فرد، ولكنهم يظلون كذلك حتى يتم تعويض الملاك، أو بعد مرور عدد من السنوات (مثلما حدث في مستعمرات بريطانيا في الهند الغربية عند صدور قانون إلغاء الرق).
وتتضح من كلمات غردون المذكورة أعلاه أنه لم يغير من آرائه حيال منع الرق بسحبه لقراره السابق بمنع الرق، وأن الشعب والحكومة والصحف في بريطانيا لم يكونوا محقين في الاستغراب والغضب من غردون لما اتخذه من قرار.
وكان من ضمن اعتراضات مناصري منع الرق في أمريكا اعتبار المسترقين الرجال والنساء "من ضمن الممتلكات". غير أن غردون لم يبتدع تلك التسمية، ولم يكن يرى فيها ما يعيب أو يخيف، فهو رجل محافظ ومحامي يناصر منع الرق، ولكنه يغلب النظرة العملية على النظرة المثالية. وكان هذا رأيه في عام 1877م وفي 1884م أيضا. ولخص غردون رأيه في منع الرق والاتجار فيه فيما سجله في مذكراته يوم الأول من سبتمبر عام 1877م بالقول:
"الآن أفهم نفسي وموقفي تماما. إذا كان شراء الرقيق يناسبني فسأفعل ذلك. وسأسمح بمرور المسترقين الذين تم اصطيادهم إلى مصر، ولكني لن أوذيهم. وسأفعل ما يروق لي، وما يكتبه على الله – برحمته وفضله – أن أفعله بالرقيق المنزلي. ولكني سأدق عنق كل من يشن حملة لاصطياد الرقيق، حتى ولو كلفني ذلك حياتي. وسأشتري الرقيق لجيشي الذي سيقوم بمحاربة تجار الرقيق الذين يشنون الحملات لاصطياد السكان المحليين. سأفعل ذلك علانية في وضح النهار، وسأتحداك وأتحدى قراراتك".
وكان غردون يرى أن الرق المنزلي هو شيء: "سمح به الله باستمراره لسنوات طويلة. وهذا ما دعا الناس ليؤمنوا بأن منعه يحتاج لأكثر من مجرد حملة عسكرية... أفتحوا البلاد وسيختفي فيها الرق". كان ذلك هو شعار غردون عندما غادر إنجلترا متوجها من وسط أفريقيا في 28 يناير 1874م. وظل محافظا على ذلك الشعار طوال السنوات التي تلت ذلك. لذا من الغباوة أن يتهم غردون بالتذبذب إذ أنه موقفه المبدئي من "الرق المنزلي"، المختلف عن موقفه من "الإتجار بالرقيق"، ظل ثابتا ومعلنا منذ سنوات. ويبدو أن ذاكرة الوزارة والصحافة والشعب البريطاني قد خَانَتْهم في حالة غردون هذه.
كان غردون قد أدرك منذ البدء حقيقة أن الرق مسألة اقتصادية وليست أخلاقية. وكان يتنبأ بأن أي محاولة للتدخل في مسألة "الرق المنزلي" دون معرفة وإدراك ومهارة، ومن غير اعتبار للمآلات المترتبة على منعه، سيفضي لا محالة لثورة في وادي النيل. ولما حاول ذلك غردون نفسه بالتدخل لحل مسألة "الرق المنزلي" في عام 1884م، أفضت الأضرار الاقتصادية المترتبة على الدخول في تلك المسألة لتدهور أوضاع البلاد الاقتصادية، وساهمت في قيام المهدية (2). وكتب غردون في مذكراته يوم 20 أبريل 1879م:
"لا شك عندي أنه إذا تم تحرير الرقيق في 1884م في مصر (والسودان) فسوف تقوم ثورة في البلاد كلها. غير أن الحكومة ستظل سادرة في غيها، وستضطر بعد ذلك للتصرف بارتجال ودون اسْتِعْدَادٍ أو تَحْضِيرٍ. ولو قرأنا ملخص النقاشات المعمقة التي دارت في عام 1833م حول تحرير الأرقاء قي الهند الغربية، ورفض مُلاك هؤلاء المسترقين (حتى المسيحيين منهم) للقبول بمبلغ 20,000,000 £ مقابل التنازل عن مسترقيهم (ممتلكاتهم)، إذن لأدركنا صعوبة التعامل مع هذه المسألة. إن سُبع أثمان سكان السودان هم من الأرقاء، وسيفقد السودان أكثر من ثلثي دخله إن تم تحرير الرقيق. إنها بالفعل مشكلة مصرية عويصة إن تم التفكر فيها بعمق."
ونرى هنا أن غردون كان يرى أن الثورة الاقتصادية قد خلقت حالة من عدم الاستقرار استغله المهدي للقيام بتمرده. واستفاد ذلك "النبي الكاذب" من الفوضى الاجتماعية التي نتجت عن إلغاء مؤسسة أساسية في السودان. وكان غردون يرى أن حل مشكلة الرق المنزلي يتمثل في "كسر عنق من يقومون بحملات لاصطياد الرقيق". وهذا يؤكد ثبات غردون على مبدأه في هذا الشأن.
وأحس غردون بشدة الضغوط عليه عندما حل تلك المسألة، ووقف وحده أمام تلك الثورة الاقتصادية التي زادت من غليانها نيران التعصب الديني. وحاول غردون إطفاء تلك النيران بإزالة جَمر تلك الثورة. لقد كان غردون هو الوحيد الذي فهم السودان من بين كل البريطانيين.
كتب غردون في مذكراته وهو تحت الحصار في يوم 19/9/1884م:
"اليوم هو يوم الجمعة، يوم عطلة المسلمين. وليس هنالك عمل مكتبي. وهذا ما وفر لي وقتا للتفكير حول فورة السخط التي أثارها إعلان إعادة تجارة الرقيق. البعض يظن أن (ذلك الإعلان) سيقلب أعلى العالم أسفله. هذا محض هراء! ألم يعلنوا عن الانسحاب من السودان، وترك السودانيين يقومون بما يحلو لهم (والذي سيتضمن دون ريب اصطياد الرقيق). ما هو الفرق الذي سيحدثه منع الرق أو السماح به إذا كنا سنسحب من السودان على أية حال؟ إن مهمتي الوحيدة (التي لا ثاني لها) هنا هي سحب الحاميات واللاجئين دون فقد في الأرواح. وكل ما فعلته أني أخبرت الناس بصراحة (وابتذال) بالأوضاع الراهنة بالسودان" (4،3).

******* ********** *********
إحالات مرجعية
(1). للمزيد عن هذا الموضوع يمكن النظر في مقال المؤرخ روبرت كولنز المترجم بعنوان "من تاريخ الرق بالسودان".
shorturl.at/kuEK2
ومقال اليس موور- هاريل المترجم بعنوان (تجارة الرقيق في السودان في القرن التاسع عشر ومنعها بين عامي 1877 - 1880م)
shorturl.at/koKWX
(2). لمقال أكثر توازنا أنظر مقال كيم سيري المترجم بعنوان" مواقف مهدي السودان حيال الرق وتحريره"
http://www.sudanile.com/75693
(3)The Journals of Major – General C.G. Gordon at Khartum, introduction and notes by A. Egmont Hake: London, Kegan Paul, , 1885, P 54.
(4) يمكن النظر في مقال لجون بولوك مترجم بعنوان "عودة غردون عبر رحلة نهرية" له علاقة وثيقة بالمقال الحالي
https://sudanile.com/index.php?option=com_content&view=article&id=94182:2016-08-24-17-29-01&catid=135&Itemid=55


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء