من يومياتي بمصر: أم يوسف… امرأة المكارم المدهشة

 


 

 

وصلنا في الموعد المضروب من الأمس أنا وعديلي لإتمام توقيع عقد إيجار الشقة. الفيناها جالسة كالهرم الأكبر وعلى استعداد تام أن تفي بكلما قالت لي بالأمس. أم يوسف امرأة منّ الله عليها بخير وفير، تحمل من أبيها إرث تحكي عنه بكل فخر. إرث يرفع الإنسان من وهدة الطين الي مراقي نفخة الروح فيه فتقوده من كمال الي كمال. الناس من حولها يتحدثون عنها كأنهم يتحدثون عن ملاك مضمخ بعبير جنة الرضوان خرج منها للتو. لهجتها الصعيدية تحكي عن بنت بلد تشربت المكارم كابر عن كابر. فهي تعي ما تقول وتقصد كل حرف تلفظه. تصر اصرارا عجيبا على ادهاش من حولها بصورة عفوية غير متكلفه ولا تنتظر أن تظهر معالم الدهشة في الوجوه... ثم تتمادى في ذات المنطق بذات القدرة على الادهاش كلما اوغلت في بسط يدها بالكرم.. يبدو أنها قد قطعت كل أواصر الخوف من الفاقة والفقر مغالطة قاعدة الشاعر المأثورة (الجود يفقر) فتُقدِم على الجود والندى بأكثر ما تملك من طاقة، توغل فيهما دونما اكتراث للعواقب، لعل في اقدامها الفطري على الكرم ثقة غير محدودة في الله، فهي بعد تتكئ على تدين تلمسه من حديثها فلا تنطع في مرجعيته، ولا فصام في استقامته . شيء نابع من فطرة سليمة ينبثق منها ويعود إليها ليتشرب من معين سردمي النبع، عميق الأغوار، ساطع الأنوار، مضطرم الأمواج، تهابهه عتايات السفن فلا تمخر عبابه مخافة من تيه لا ترده لجادة الطريق بوصلة، ولا تستقيم معه أعمدة شراع منتصبة لهوج الرياح. تدين يحضها على ما هي مهيئةٌ له.
قالت للأستاذ علي الذي كان يكتب عقد إيجار الشقة التي تملكها على شارع الهرم:(الأخوة السودانيين) واشارت إلينا هم من سيقرر قيمة إيجار الشقة وما يقضونه هو الذي يكتب في العقد.
ساد صمت عميق مجلسنا، عقدت الدهشة ألستنا ولم نبد أي نوع من المبادرة فنحن قادمون لتونا من السودان ولا نعرف بالتحديد قيمة إيجار الشقة في المنطقة. بادر الأستاذ علي بالقول (خلاص يا حجة نخلي الإيجار ٧ الف جنيه شهرياً)
اتكأت للوراء على ظهرها قليلاً وأفتر ثغرها عن ابتسامة هاذلة مضيفة (هؤلاء ضيوف فكيف نتمنى على الضيوف.؟؟) ثم أردفت: (الإنسان الضعيف لا يمكن أن تضغط عليه...) شعرتُ بأن شيئآ في لهجتها قد إستفز منابت العزة في كياني فقلت :(لكن يا أم يوسف نحن لسنا بضعاف والحمد لله لا ينقصنا المال.)
أغمضت عينيها وتأملت كلماتي بعمق. ثم ردت. (لا الضعف مش مال الضعف هو الإجبار أن تترك وطنك دون رغبتك ذلك هو الضعف الذي أقصد. الضعف مش مال الضعف إجبار.)
هنا تدخل عديلي حسما للأمر :(خلاص يا أم يوسف نخلي الإيجار ٦ ألف جنيه في الشهر)... قالت (أنتم وما تشاءون خلاص على بركة الله.)
هم أستاذ علي بمتابة كتابة العقد من يوم الثامن من يونيو. فما كان منها إلا أن لوحت بكفها الأيمن إشارة للرفض وقالت : (لا يبدأ العقد إلا من أول الشهر وكل هذه الأيام أقامة في الشقة تحت ضيافتي).
هنا صمتنا جميعا وترك الأستاذ علي قلمه يسطر كرم أم يوسف على ورقة العقد تارةً وعلى أفئدتنا صريعة الدهشة تارةً أخرى.
د. محمد عبد الحميد القاهرة ٩ يونيو ٢٠٢٣م

 

آراء