هَاجِسُ حسن الترابي والإسلام السياسي في السودان: مراجعات لثلاثة كتب The Spectre of Hasan -al -Turabi and political Islam in Sudan Alden Young الدن يونق ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لعرض (مراجعة) لثلاثة كتب عن الإسلام السياسي نشرها الدن يونق في عام 2019م بالعدد التاسع والثمانين من المجلة الأكاديمية "أفريقيا Africa ". وتلك الكتب هي كتاب ويلو بيريدج المعنون "حسن الترابي: سياسات الإسلاميين والديمقراطية في السودان Hasan – al- Turabi: Islamist Politics and democracy in the Sudan"، وكتاب ستيف هاورد الذي صدر بعنوان "المسلمون المعاصرون: مذكرات عن السودان Modern Muslims: A Sudan memoir"، وكتاب نوح سالمون المعنون: "من أجل حب النبي: أثنوجرافيا الدولة الإسلامية السودانية"For Love of the Prophet: An Ethnography of Sudan’s Islamic State” وكاتب هذه المراجعات هو الدن يونق، الأستاذ المساعد في جامعة لوس أنجلس بكالفورنيا والمتخصص في التاريخ الاقتصادي والسياسي لأفريقيا (خاصة السودان ومصر وإثيوبيا). وله كتاب عن السودان صدر عام 2017م عنوانه: Transforming Sudan: Decolonization, Economic Development and State Formation المترجم
************ *********** ************ لا ريب في أن الثورة الإيرانية في عام 1979م كانت هي من لفتت نظر الغرب لفكرة الإسلام السياسي. وما يزال علماء الاجتماع منذ ذلك التاريخ يتجادلون حول تعريف فكرة "الإسلام السياسي"، ومؤخرا حول فكرة "الدولة الإسلامية". هل هذه أفكار جديدة، أم هي من إرث ما بعد الاستعمار وأفكار ظهرت فجأة في السبعينيات والثمانينات كنوع من التحدي للنظام الديمقراطي؟ أم أن المسلمين كانوا يتحدثون من على المسرح العالمي باللغات واللهجات التي لطالما درجوا على استخدامها دوما، غير أنه لأول مرة يُجبر المستمعون الغربيون على الانصات لأفكارهم؟ كتب عالم الاجتماع ستيف هاورد عن عمله الحقلي بالسودان في بداية ثمانينيات القرن الماضي، ووصف نفسه بأنه كان يواجه "مأزقا مألوفا يواجه الزائر الأمريكي". وتفكر هاورد متعجبا في كيف أن "ذلك المجتمع الإفريقي الفقير بإمكانه أن ينتج مثل أولئك المفكرين الدينيين المتقدمين" (ص 58 من الكتاب). وما هي الكيفية التي يمكن لنا بها فهم المفكرين الدينيين السودانيين مثل محمود محمد طه وحسن الترابي، والأيديولوجيين وكوادر نظام الإنقاذ التي وصلت للسلطة في 1989م؟ ولعل أكثر ما شَوَّشَ على علماء الاجتماع عند الكتابة عن "الإسلام السياسي" أو "الدولة الإسلامية" هو تلك الرغبة الغريبة في تشريح وتحليل تلك التسميات وكأن السياسة (بحسبانها مثالية النوع) يمكن فصلها عن الإسلام، أو كما كتب نوح سالمون في مقدمته الثقابة النظر عن بُطلَان وعقم ما ذهب إليه وائل الحلاق في كتابه "الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي" من استحالة التوفيق بين الإسلام والدولة الحديثة (كتاب سالمون، صفحتي 22 – 23). تتفق الكتب الثلاثة – موضوع المراجعة – في البدء على استبعاد الأنواع المثالية من الإسلام – الاسلام السياسي أو الدولة الإسلامية – وتدلف نحو تاريخ مُشَوَّش (وإن بدا منتجا) للرجال والنساء الذين صَرَمَوا (غالب) سنوات حياتهم في دراسة ومناقشة معنى أن يكون المرء سودانيا ومسلما. وفي غضون الربع الأخير من القرن العشرين لم يرتبط اسم أحد من الناس بالإسلام في السودان مثلما ارتبط به حسن الترابي. ويمثل حضوره أو غيبته عن الكتب الثلاثة – موضوع المراجعة – عدسة حادة يمكن أن نرى من خلالها كيف عالج المؤلفون مفهومي "الدولة الإسلامية" و"الإسلام السياسي". ومن الجَليّ والمنطقي أن نبدأ بسيرة حسن الترابي التي نشرتها مُؤخَّرًا (في عام 2017م. المترجم) ويليو بيريدج في كتاب مُحْكَم ومجود. حاولت بيريدج في البدء استجلاء سر الترابي بالتساؤل عما إذا كان الرجل يعد من المصلحيين الإسلاميين الليبراليين، أم أنه إرهابي إسلامي مستعد دوما للتغاضي عن الديكتاتورية والعنف والتسامح معهما؟ وواضح أن جزءًا من صعوبة الرد على مثل ذلك السؤال يتعلق بميل المحللين لمحاولة فصل الإسلاميين لنوعين: "مصلحين" و"متطرفين" - أو كما سماهم محمود مامداني: "مسلمين أخيار" و"مسلمين أشرار". غير أن بيريدج اعتمدت على يوسف شويري (بروفيسور التاريخ بجامعة مانشستر) الذي يفرق بين الحركات الإسلامية "الإصلاحية" والحركات الإسلامية "المتطرفة"، ويرى أن تلك التعابير هي تعابير نوعية، وتأريخية epochal أيضا. فقد امتدت حركة الإصلاح الإسلامي من القرن التاسع عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين، وسبقت بذلك حركة التطرف الإسلامي الذي وجدنا أنفسنا فيها الآن. وتهدف الحركة الإصلاحية لإعادة تفسير المفاهيم الإسلامية وتبني المبادئ والتقاليد الفكرية الأوروبية. ويرى يوسف شويري أن حركة "التطرف الإسلامي" هي حركة سياسية – ثقافية تطرح مُسَلَّمة مفادها أن هنالك تناقضا نوعيا بين الحضارة الغربية والدين الإسلامي (كتاب بيريدج ص 13). ويتجاوز حسن الترابي بالطبع تلك الحدود. وعوضا عن التركيز على الترابي المفكر، تأني الصورة التي رسمتها بيريدج لحياته مما ورد عنه في المصادر الصحفية اليومية كرجل مجيد في دائرة السياسة السودانية فحسب. وعلى الرغم من أن الكلمات كانت هي سلاح الترابي المفضل، إلا أن القارئ لكتاب بيريدج يخلص في نهاية تصويرها لحياة الترابي إلى أن الناس لن يتذكروه باعتباره مفكرا قدم فلسفة مطورة ومنهجية، بل كسياسي أفلح في البقاء في مركز الجدل حول ما يعنيه أن يكون المرء سودانيا ومسلما، وبذا بقي رقما مهما سياسيا حتى آخر يوم في حياته. وقسمت بيريدج، للأسف، كتابها تقسيما عمليا لجزئين: جزء يتناول الترابي بحسبانه زعيما سياسيا، وجزء آخر يتناول آراء (المفكر) الترابي حول أسئلة عويصة تتعلق بالفكر السياسي الإسلامي. وللمفارقة، فإن مثل ذلك التقسيم (الجزافي) يضاعف من صعوبة إدراك القارئ لمدى وَسْع عقل الترابي الذي فتن أتباعه وجمهوره العالمي لعقود. ****** ******* ********* أما في كتاب ستيف هاورد (المسلمون المعاصرون) فيظهر حسن الترابي بصورة متعارضة وصارخة، بعد أن غاب عن أدبيات الإخوان الجهوريين (وهي حركة تجديدية إسلامية رئيسية معاصرة لحركة الإخوان المسلمين / حركة الترابي). ولا يظهر الترابي في كتاب ستيف هاورد إلا مرة واحدة قرب نهاية الكتاب حين جاء في صفحة 165 أنه "يُقال إن الترابي كان قد أثر على قرار الرئيس نميري القاضي بإعدام محمود محمد طه في عام 1985م". وقبل ذلك أشار ستيف هاورد في كتابه إلى أن ما يفرق بين حركة الإخوان الجهوريين وحركة الإخوان المسلمين (حركة الترابي) هو أن الأولى تؤمن بأنه لا يمكن استخدام العنف والإكراه لإقامة مجتمع إسلامي (مثالي) بالسودان. ويتضح من قراءة كتاب ستيف هاورد أن "الدولة الإسلامية" لم تنشأ في عام 1989م، بل كانت السياسة في السودان إسلامية في طوال سنوات القرن العشرين، وأن الأفكار التي كثيرا ما تنسب إلى الإخوان المسلمين بالسودان هي أفكار ظلت لسنوات محل نقاش وجدال بين المتعلمين السودانيين. وكان محمود محمد طه قد تبنى تفسيرا خلافيا مثيرا للجدل في كتابه المشهور بحق "الرسالة الثانية من الإسلام". وفي ذلك الكتاب قال الأستاذ محمود بأن هنالك فرقا بين ما نزل على النبي محمد من وحي في مكة وفي المدينة. فمن وجه نظر الأستاذ محمود فإن السور التي نزلت بالمدينة كانت محددة بزمن الجهاد، أما تلك التي نزلت بمكة فهي خالدة (يذهب الجمهوريون إلى أن الاختلاف بين الآيات المكية والمدنية ليس اختلاف مكان النزول، ولا اختلاف زمن النزول، وإنما هو اختلاف مستوى المخاطبين، وأن الآيات المدنية هي "آيات فروع" وتلك التي نزلت بمكة هي "آيات أصول". المترجم). ومن خلال تجربته الاثنوجرافية وعضويته في جماعة الإخوان الجمهوريين الصغيرة نسبيا، يرى ستيف هاورد أنه كان من الواضح له أن "المجتمع العلماني لم يتطور تدريجيا، بل لم يظهر في السودان المسلم كما كان متوقعا بعد التحرر من الاستعمار. فقد كان الوجود الطاغي والكامل للإسلام في الحياة اليومية جزءًا مميزا في تعليمي بالسودان" (ص 168 من الكتاب). وأعد كتاب ستيف هاورد من الكتب الممتازة التي تصلح للاستخدام في التدريس بالمرحلة الجامعية الأولى. فالكاتب يتناول بكثير من التفصيل عملية الفصل بين الحركات الإسلامية التجديدية في منتصف القرن العشرين (المعروفة بـ "الإسلام السياسي") وبين تصنيفها كحركات عنيفة بطبيعتها. وعوضا عن ذلك أوضح ستيف هاورد النشاط والحماس الفكري الذي أبداه المسلمون وهم يحاولون الدعوة للتماسك الفكري في عقيدتهم، وفي تطبيقها في عالم يؤمنون بأن عقلانية الغرب تهمين عليه ابستمولوجيا / معرفيا. ******* ******** ******** ويحلل نوح سالمون في كتابه "من أجل حب النبي" السودان عبر عدسة أنثروبولوجية السودان، إذ أن السياسة في السودان المعاصر تنعكس دوما عبر الإسلام. وسمح له هذا النهج بتقديم العديد من المزاعم التي عدها الكثير من الخبراء غريبة جدا، مثل زعمه أن الحزب الحاكم بالسودان "حزب المؤتمر الوطني" لم يتخل عن بذل الجهود من أجل أسلمة المجتمع السوداني بتنحية حسن الترابي من السلطة في 1999م. واعتمد سالمون على عمل سابق لمارك مسعود (أستاذ السياسة والدراسات الإسلامية والقانونية في جامعة كاليفورنيا) عندما ذهب إلى أنه بعد التوقيع على اتفاقية السلام الشامل بين نظام الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان، استولى التفاهم الإنساني لمنظمات الحوكمة الدولية على العديد من وظائف الدولة. وفوق ذلك كتب سالمون بأنه لم يستطع أن يعثر على أي برنامج لبناء الدولة الإسلامية حتى في قاعات وزارة التربية والتعليم، إلا أنه، بعد أن نزع عن أذنيه سدادات الأذنيين الافتراضيتين virtual earplugs كما قال، أدرك أن "وجود الدولة الإسلامية المُحيِّرة بعيدة المنالelusive في مكاتب الحكومة السودانية كان واضحا جليا". وحدد سالمون هدف دراسته بالقول: "... كان المشهد الصوتي السوداني مغمورا بالمذكرات عن هذه الدولة الإسلامية المحيرة بعيدة المنال" (صفحة 3). وحكى المؤلف في الفصل الرابع: "أكثر بلد يصلي على النبي: التكوين الجمالي للدولة الإسلامية"، وهو أكثر فصل بالكتاب يمكن أن يدرس في منهج (جامعي)، عن أن محطة "الكوثر" الإذاعية (وهي "صديقة" موالية للحكومة) كانت كثيرا ما تبث المدائح النبوية حتى تُحَوِّل الدولة السودانية إلى كيان "لم أجده في زياراتي للوزارات، ولكني وجدته كثيرا في كل مكان تقريبا عند تنقلاتي بالمدينة بالحافلات" (صفحة 4). وجاء سالمون بنقطة أخرى مثيرة للاهتمام حين ذكر أن "النظام الحاكم جعل من الإسلام أهم مصدر للشرعية السياسية بالبلاد، ولكنه، للمفارقة، فتح نفسه لموجات لا نهاية لها من التحديات". (صفحة 5). ولم تستطع الحركة الإسلامية في السودان (وعلى رأسها زعيمها المشهور عالميا حسن الترابي) احتكار السلطة، وهو ما يؤكده الغياب شبه التام للترابي في كتاب ستيف هوارد. ويفسر سالمون الطبيعة المتنازع عليها للسلطة الإسلامية في السودان، حتى بعد أوضح – بتوفيق كبير - في الفصل الخامس من كتابه الطرق التي صار بها الإسلام خطابا سياسيا واسع الانتشار. وسرد المؤلف في مطلع ذلك الفصل قصة كاشفة عن لقاء بين الترابي وشيخ من كبار شيوخ الصوفية هو عبد الرحيم محمد وقيع الله (البرعي). وتزعم القصة المتداولة أن عددا من أتباع الشيخ بالعاصمة الذين كانوا يقدمون لزريبته في منتصف التسعينيات سمعوا بأن الشيخ كان قد حلم في منامه بحلم فسره بأنه مأمور بالسفر للخرطوم ومقابلة الترابي ونصحه بأن عليه تغيير سياسته وإلا فإنه سيقود السودان نحو خراب شامل. وزُعم أن الترابي سأل الشيخ المبجل إن كان على طهارة (أي كان محتفظا بوضوئه) عندما أتاه ذلك الحلم. ذهل الشيخ من ذلك السؤال ونهض من مجلسه مغاضبا. ولم يستطع الترابي الحفاظ على وضوئه لعدة أيام تالية، إلا بعد أن أعتذر للشيخ واِستسمحَه وقبل اقتراحات الشيخ بتعديل سياسته. وذكر سالمون مفسرا مغزى تلك القصة المروية بأن "الترابي كان قد اِتَّهَمَ الشيخ بأنه ليس بمسلم جيد، ولذا فليس له حق شرعي في انتقاد سياسته. وها هو الترابي الآن – وهو من يفترض أن يقود السودان نحو مستقبل إسلامي – يعجز عن ممارسة بعض الطقوس الأساسية للدين" (صفحة 169). وذكر سالمون أنه سمع هذه القصة من كثير من محاوريه عندما كان يسألهم عن السياسات الإسلامية (بالسودان). ولعله كان يشير إلى أن "السياسات الإسلامية" ليست هي الحافظ أو الضامن الوحيد للصفوة المفكرة، وأن من يستخدمون الإسلام كهِرَاوَة ضد المنتقدين سيلقون العقاب. ***** ******** ******* تتفق الكتب الثلاثة في أن فكرة البحث عن "دولة إسلامية" ليست جديدة في السودان في السنوات التي أعقبت 1989م. لذا ليس من الحكمة في شيء التنبؤ بأن موضوع الإسلام لن يغدو في المستقبل القريب موضوعا للجدال والنقاش عند نقاش ممارسة السياسة بالسودان. وسيظل السودانيون وهم يحاولون صياغة ترتيبات سياسية جديدة يطرحون الأسئلة حول ما يعينه أن يكون المرء مسلما وسودانيا، وسيسود ذلك الجدال السياسة السودانية. وتوضح الكتب الثلاثة بأن الروايات التقليدية عن صعود وصحوة عالمية للإسلام السياسي في سبعينيات القرن العشرين لن تكفي. لقد كانت السياسة السودانية في غضون سنوات القرن العشرين إسلامية الطابع. ولم يتميز تطور الفكر السياسي والثقافي (في السودان) بنزاع بين أقطاب الساسة الإسلاميين والعلمانيين، بل كان قد تشكل بتفسيرات متباينة للإسلام، ومكانته ووضعه في الحياة العامة. وفي الواقع فإن الأمر الأهم في حركات التجديد الإسلامية يتركز في محاولاتها خلق دولة تتولى تنظيم السياسة، وتغرس التقوى في مجتمعات المؤمنين. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يقدم تعبير "الإسلام السياسي" كل التفاصيل والفروقات الدقيقة المطلوبة لدراسة كل المشاريع الفكرية التي يُفترض أن تُختزل في كبسولة واحدة هي "الإسلام السياسي". وعوضا عن عبارة "الإسلام السياسي" هذه، ربما جاز لنا هنا أن نقترح هنا أن يستخدم الكتاب تعابير متنوعة كان المفكرون الإسلاميون أنفسهم يستخدمونها لتصنيف أفكارهم.