أخواني الشهداء: العيون السود في البطانة كتار

 


 

 

 

انهضوا لبوا يا شبابنا هموا
شهيدنا الطاهر ضحى بدموا
أخواني الشهداء الزايد شوقهم
مناى يا الله أسير في طريقهم
أصبر قلبي وراجي لحوقهم
هنالك في الجنة أبقى رفيقهم..


من أخسر ما خاض فيه المرحوم حسن الترابي بعد انفضاض حلفه والبشير في ١٩٩٩ تبكيته على شباب "الإنقاذ" الذين زهقت أرواحهم في سبيل "المشروع الحضاري"، لم تبق منهم سوى شذرات أسطورية وأحزان في قلوب الأهل والأحباب بجانب أراجيزهم المنشورة في الشبكة العنكبوتية استعادت صوتها الخاص ربما عن ماكينة الدعاية بسقوط الإنقاذ. فمن يذكر اليوم فضل المرجي وعبد الخالق من الذين "قضوا نهارهم صمود وشجاعة"، في عبارة الشاعر، و"ليلهم كله دموع وضراعة"؟ يقول شاعر الأرجوزة أن اخوانه قبل رحيلهم "شافوا بشاير"، وقد كلنا لهم من موقع المعارضة كل الكيل وأطلنا السخرية في مواردهم الروحية دون تقصي كاف لاقتصاد الشهادة السياسي الذي أدار حبله حول ذواتهم الشابة. سقط شباب الإنقاذ في مقتلة سياسية وكانوا وقودا وهاجا لدمار بالغ، طال أول من طال الآلاف المؤلفة من المدنيين في جنوب السودان الذين كانوا هدفا للنار الجهادية، كما طال حركتهم السياسية ورابطة الأخوة التي آلفت بينهم على أساس العقيدة المشتركة فتباغضوا بينهم بغضا شديدا صار قتلا مثل ما أصاب داؤود بولاد وخليل إبراهيم.

لكن، ما الذي دفع فضل المرجي وعبد الخالق لمثل الصمود الذي تغنى به شاعر الأرجوزة، وماذا كان مطلب هؤلاء وأي دولة كانوا يرتجونها؟ استعد شباب الإنقاذ لدولتهم التي قامت فعلا بطلب الشهادة وكان جهادهم في أعوامها "الثورية" تصديقا لشعارهم إراقة الدماء في سبيل واحدية الدين والدولة فمضى منهم مثل فضل المرجي والمنشد أبو القاسم أحمد العيدروس وابن العشرين مصطفى ميرغني ومئات سواهم، كانوا في أوار الثورة منارات، فمن لا يذكر صور الشهداء على طول شارع الجامعة وكذلك في محيط جامعة السودان وجامعة النيلين وغيرها. ومن لا يذكر تبختر الطلاب المجاهدين بالدولة التي وصفها المرحوم حسن الترابي بأنها أول دولة إسلامية في العالم السني منذ سقوط الخلافة فاستثنوا أنفسهم أول ما استثنوا من اضطهاد الامتحانات والتصحيح، فما الامتحانات والشهادات بإزاء تسامي "الشهادة في سبيل الله".

نشأ بين أفراد هذه الطبقة من المجاهدين أدب لما يدخل حيز التاريخ بعد، فقد أحالته "في ساحات الفداء" إلى بروباغاندا محضة ثم استعاضت عنه أوان حرب الإنقاذ في دارفور وحروبها اللاحقة ما بعد نيفاشا بشوفينية أولاد البحر القومية. كان المثال الأبرز لهذا الأدب صيغة الرسالة إلى الأم المكلومة، يشرح فيها المجاهد قضيته ويوصي على نسق "أماه لا تجزعي"، أو الرسالة إلى الصديق الذي مضى من قبله يناجيه فيها ويطلب سرعة اللقاء. انتخبت من النوع الأخير فقرات من رسالة الشهيد الفاتح حمزة، رئيس اتحاد طلاب جامعة أم درمان الإسلامية في أول التسعينات، إلى صديقه الشهيد الذي سبقه مصطفى ميرغني وآخرين:

"الكتابة إليك مرة مرارة القدر في طريق القاعدين والكتابة إليك لا تعفي عن لقاء ورؤية وجلوس والسفر إليك يثني ويرهق والطريق إلى داركم قتال والنزول إلى ساحكم خشن المداس. تركتنا كربات الخدود نعبد القطيفة والحطام والدينار ما رضيت بمقعد خلاف رسول الله وما وضعت عنك هم أمة تسعى إلى المذلة في قعر التاريخ كالهمل والهوام. (...) أتيت ربك بالنصر والجرح والشهادة وجئنا بالحطام والجبن والقمامة جئنا كبائعي الفقر نشكو قرصة الأيام وغيظ الحر وعورة الدار. جئنا عراة تضحك علينا ذيول النساء وسفهاء المجالس من الماجنين والعاجزين بلا ذكر ولا تاريخ. أخي مصطفى تركتنا كتماثيل الكرتون نندب الحظوظ في طول الحياة لتسيمنا خسفها وترينا كل يوم من أمرنا ذلا ونحن كأجساد العبيد لا نزداد منها إلا قربا وإخلاصا وتوددا (...) بربك هل ذكرت بؤسنا والفقر والسذاجة والانحطاط. هل ذكرت تماثيل الطين والخوالف والقاعدين. يا لك من فتى في السابقين قليل. عشرون كهذه أخي يقضونها حربا على المظلومين وعبادة لأرباب الخزائن والأموال وحق الفيتو. عشرون كهذه عندهم نوما في فراش الغانيات والحانات وأندية العراة ومجالس القطيعة. (...) صحيح أن من الحب ما قتل، حب التراب والغابة والمدائن والعرائس. سعدتم أيها الملك من نيران المجاذيب شمالا وحتى بلاد الورش والألواح. وأرى طيبا من أرض دقنة والقاش وبيتاي حتى مراتع النوق والفرس والشعر من بلاد الككر والسيف والدرقة والخيرات حتى ديم الزبير والعاج والحوش والأعاجيب، بلاد في سعة الأمل العريض تمددت في عينيك مثل حلم الليالي البكر من عمر الزمن الوليد. التاريخ يتجذر في عمقك من غير حدود والمستقبل في الأرض بعينيك من غير أمد. (...) من أنت أيها الفتى. الدنيا كلها لا تسوى عندك أوضع الأمل ولا أضعف الإيمان. خبرت الدرب كأنما عمرت القرون وشهدت مصرع الآجال والأجيال. أمثالكم يعدل أمة بمساجدها وتاريخها وبترولها. عشرات الخائنين أدعياء الحرية وحقوق الإنسان والأوطان يتناجون بالإثم والعدوان والغزو يجرجرون الخيبة من كل منتدى ويبيعون الفضيلة بكل دولار ودرهم.  أيها المصطفى حدثهم بأن الرسول حاضر وجبريل والقعقاع وأن البحر ذات البحر يشق الأرض شاهدا وأن الجبل ذاته يمتد في التاريخ ينبه أن الأيام دول وأن الكتاب هو 'هو وأهل البقرة وآل عمران'. يا من جئتم من كل صوب وتناديتم من كل شعب كأنكم على موعد وكأنكم إلى لقاء، ألف تحية والسلام."

في كل واقعة سياسية حقة لمس من اليوتوبيا، ومن ذلك اليوتوبيا الإسلامية التي تراءت لشباب الإنقاذ فغذت جهادهم الذي قال عنه الشهيد أبو القاسم أحمد العيدروس أنه يوجب على وجه التحقيق "أن نقاتل كل الكفر في كل العالم، ولولا أنه من الحكمة أن نقاتل الذين يلونا من الكفار فإننا إن شاء الله سنطير طيرانا إلى القدس فنقاتل اليهود..". عقد الفاتح في رسالته المقارنة بين عالم البطولة الذي انضم إليه مصطفى بفداءه فحاز الفردوس وجوار الأنبياء وعالم الوضيعة حيث الفقر والانحطاط وعبادة المال والبترول، وبين الإثنين جعل مسافة من الأمل العريض تتمدد في عين الشهيد. على خلاف عالم البطولي المتسامي جعل الفاتح للأمل العريض جغرافية وطنية وعدد من ذلك عناصر، كما ألحق الأمل المتجدد بتاريخ المهدية التحرري يصل هذا بذلك. تأفف الفاتح من العالم الماثل وعلاقات القوى فيه التي أعادها ضمن تبكيت على الخصوم إلى أصل مادي مبين مثل له بعبادة أرباب الخزائن وحق النقض في مجلس الأمن من جهة وميسم الفقر الحارق من جهة أخرى. البطولة، بالصيغة التي بشر بها الفاتح، مهرب من يتسامى على وضاعة الدولار والدرهم في طلب اليوتوبيا.

من السهل، من موقع الحاضر، فضح ما انقلبت إليه يوتوبيا الفاتح حمزة ومصطفى ميرغني والأمل العريض الذي سهموا به لكن تلك حكمة بعدية لا تغني عن فهم الواقعة السياسية في لحظة نهضتها بل تنفي السؤال عنها بالمرة. ميز الفاتح في رسالته بين فئتين من العوازل: تماثيل الطين والخوالف والقاعدين من جهة والخصوم من أدعياء الحرية وحقوق الإنسان الذين يتناجون بالإثم والعدوان من جهة أخرى. الفئة الأولى كما يبدو من السياق هم رفاق الحركة الإسلامية الذين تفرغوا لمصالح عالم الوضيعة وتقاصروا عن نداء الجهاد إلى عالم البطولة. أليست هذه صفات البيروقراطية الحزبية أو النومنكلاتورا، من يعودون بالثورة القهقرى إلى عقلانية توازنات القوى التي تحفظ السلطة وتكرس السياسة باعتبارها فنا للمكن وليس طلبا عنيدا للمستحيل على طريقة "سقطت ما سقطت صابنها".

وجه التفاضل بين "الواقعة الثورية" وبين "الشغب التحرري" أو قل الثورة والانتفاضة في عبارتنا عند فيلسوف الثورة آلان باديو هو العمل الشاق الذي لا بد من للإخلاص لمعاني الثورة في الصباح التالي بعد أن تنقضي ساعة النشوة. فالانتفاضة تفقد طاقة دفعها متى ما واجهت المسؤوليات غير البطولية والراكدة التي لا غنى عنها لإعادة البناء الاجتماعي، عندها يدخل عليها الخمول وترتد بلولب التاريخ الماكر إلى ما مضى من عادة وتقليد. بهذا التقدير تردى وفق عند باديو حتى البلاشفة ساعة نصر الثورة الروسية في أكتوبر ١٩١٧. قال باديو أن البلاشفة خانوا ثورتهم وقت استولوا على سلطة الدولة في أكتوبر واستغنوا عن تركيزهم الأول على التنظيم الثوري للجماهير بجهاز الدولة. لكن، ما تفسير النشاط المحموم الذي انغمس فيه البلاشفة في العشرينات لاكتشاف الحياة القادمة؟ من يوميات الاتحاد السوفييتي تقرأ مبادرات وأسئلة لتثوير الحياة اليومية بما في ذلك كيف يكون الحب والزواج وتربية الأطفال وطقوس الموت والدفن في ظلال الاشتراكية.

ضمن هذه النهضة الثورية اجتهاد الكساندرا كولونتاي بعث الحب والمتعة الجنسية والعلاقة بين الجنسين على أساس من المساواة. معلوم مثلا أن لينين كان من مناوئي نظرية "كوب الماء" وعبر عن ذلك في لقاءه المشهور مع كلارا زتكين في ١٩٢٠. مفاد هذه النظرية أن تلبية الغريزة الجنسية والرغبة في الحب في المجتمع الشيوعي ستكون في بداهة شرب الماء. اعترض لينين على هذا التصور وعده ابتذالا. أما كولونتاي فقد أدانت من جهة صيغة الزواج البرجوازي بأحاديته الإجبارية الدائمة ونفاقها كما قاومت التصور البيولوجي المحض للعلاقة بين الجنسين وقالت نشأ في ظروف كانت تخوض فيها الطبقة العاملة نضالا ضاريا في ميادين أخرى استهلكت جل طاقتها الاجتماعية والفيزيولوجية، ولذا طغت وسطها علاقات جنسية عابرة وروتينية. بشرت كولونتاي بعلاقات جديدة بين الجنسين، قالت بزغت وسط الشباب السوفييت غراميات جديدة قاعدتها التضامن الذي ينشأ عن مصالح مشتركة ويعتمد على العلاقات الفكرية والعاطفية بين أعضاء المجموع والروح الرفاقية التي تسري وسطهم. كولونتاي كأبكار البلاشفة مستها يوتوبيا الاشتراكية وكان الأمل العريض لديها تصفية الرأسمالية كسلطة سياسية وكذلك كسلطة اجتماعية وطريقة للحياة.

ما ورطة الفاتح حمزة إذن، وما العقدة البلشفية التي تعذر على شباب الإسلاميين حلها فكان المخرج الوحيد لإنقاذ اليوتوبيا الإسلامية ألا تغرق في وحل البؤس والفقر والسذاجة والانحطاط تحت ظل تماثيل الطين هو البطولة تحت زخات الرصاص؟ تسعفنا في هذه القضية مسألة من الثورة الثقافية في الصين في الأعوام ١٩٦٦ إلى ١٩٦٩. أعلن ماو تسي تونغ في ١٦ مايو ١٩٦٦ أن البرجوازية قد اخترقت صفوف حزبه الشيوعي وأن الواجب العاجل هو اجتثاثها ودعى من موقعه الشباب الصيني إلى إنقاذ الثورة بالانقلاب على قيادة الحزب الشيوعي واقتلاعها، أي الانقلاب على البيروقراطية الحزبية، على تماثيل الطين في صياغة الفاتح حمزة. دشن ماو بهذا الإعلان عهدا من الفوضى الخلاقة. انطلقت مجموعات الحرس الأحمر من طلاب الجامعات والمدارس في كل أنحاء الصين تهاجم رموز السلطة من كل شاكلة، المعلمين ومدراء المدارس والإداريين المحليين والمسؤولين الحزبيين باعتبارهم جميعا من تركة البرجوازية والإقطاع. أذل الطلاب السلطة وبشعوا بها كما حطموا كلما وقع في أيديهم من التراث المادي من تاريخ الصين الطويل، ما كان في المتاحف والمعابد أو ضمن ما احتفظت به الأسر، باعتبار كل ذلك رجسا إقطاعيا. شل شباب الحرس الأحمر الحياة اليومية وعطلوا التعليم والإدارة وأعمال الدولة. قال عنهم آلان باديو أنهم أعلنوا نهاية دولة الحزب في تخريجها اللينيني كمحصلة للنشاط الثوري. انتهت الثورة الثقافية إلى مهرجان من العنف واجهت فيه فصائل من الحرس الأحمر بعضها البعض، كل يتهم الآخر بخيانة "الثورة الثقافية البروليتارية العظمي" والانحراف عن خط ماو السليم، يمينا ويسارا. استجمعت دولة الحزب قواها وقت التقطت الطبقة العاملة القفاز الثوري في إضرابات عمال شانغهاي وعمال السكة حديد وتأكد ألا بد من ضربة حاسمة للثورة المضادة عندما طال التهديد وحدة جهاز الدولة القسري بعصيان قيادة جيش ووهان في يوليو ١٩٦٦، وقد كان.

انتهت الثورة الثقافية بالتئام علاقة الاعتماد المتبادل بين الحزب والجيش وتصفية قوى الثورة الحية عبر الترحيل الجماعي للملايين من السكان إلى الأرياف البعيدة، خارت قواها دون أن تستطيع اختراع الحياة الجديدة الديمقراطية التي وجهت من أجلها الضربات المتتالية لأصنام الصين القديمة، العلاقات الأسرية والتقاليد الاجتماعية والسلطات الأبوية والعقائد الروحية والأدب والفن وكل ما به درن البرجوازية، فكانت شاهدا على عجز عظيم وبذات القدر على المستحيل الذي اقترب حتى كاد ثم انسحب.  بإعلانه الحرب الشعبية على الحزب الذي أنشأه فتح ماو الباب لعهد نادر من التجريب. ضمن هذه الطاقة السلبية، تدهور جهاز الدولة وانفرطت علاقات السلطة الاجتماعية المرتبطة به وحلت محله في كل موقع كيانات تجريبية قاعدية، لجان ثورية وكومونات شعبية متمردة على قيود جهاز الدولة وقواعده المرعية وتراتبه الهرمي؛ أعلن ماو أن التمرد حق للشباب وواجب، وقال الشعب لا ينتظر التعليمات بل يبادر بالأفعال. شجع ماو الملايين من شباب الحرس الثوري على الانتشار في كل بقعة من البلاد وبث الثورة عبر تحطيم البالي والقديم من الآثار والمعابد والتشهير بممثلي السلطة في أي ثوب أتوا، الأمهات والآباء وكبار القوم الرجعيين ورجالات الدولة وأعضاء الحزب الشيوعي المصاب عنده بداء البرجوازية فأزال بضربة ماهرة الشرعية عن كل أشكال السلطة، الدولة والدين المنظم والتنظيم السياسي والأسرة والمدرسة والجامعة.

انهارت يوتوبيا الثورة الثقافية تحت ضربات التاريخ الماثل، وذلك مصيرها كواقعة تاريخية لكنه لا ينفي حقيقتها كشاهد على احتمال الحرية الجذرية بما يتجاوز حتى تكنولوجيا الحزب الطليعي وصفوفه المرصوصة، أي صيغة النشاط الثوري الأساس في القرن العشرين. تظل الثورة الثقافية بهذا المعني طيفا يسكن كل نهوض ثوري في انتظار البعث من جديد. دون هذا الاحتمال التحرري تنحدر كل يوتوبيا إلى الانحطاط الذي اشمأز منه الفاتح حمزة ولم يشهد منه سوي القليل. لم يعش الفاتح حمزة ليرى الإسلاميين وقد أذرى بهم الحكم حتى صاروا نشالين لجهاز الدولة لا غير مشروعهم الحضاري مبطوح مهترئ بين عمر البشير وطارق سر الختم يشهد على نفسه، ليس فيه من يوتوبيا مصطفي ميرغني ابن العشرين الذي تعفرت قدماه عند الفاتح "بفوح من غبار مواكب البدرين" شئ.

ما العبرة إذن؟ ربما ما نطق به ماكسميليان روبسبيير، زعيم التيار الراديكالي في عنفوان الثورة الفرنسية وهو يواجه المقصلة. كان لروبسبيير دورا مقدما في الدعوة للإطاحة بالملكية في ١٧٩٢ وقيام الجمعية الوطنية وانتخب نائبا فيها من موقعه كأحد قادة حكومة باريس الثورية. بشر روبسبيير بجيش شعبي من عمال المدن وأصحاب الحرف لحماية الثورة ثم تزعم لجنة السلامة العامة بهذا الاختصاص. صارع روبسبيير من موقعه كل ما اعتبره انحرافا عن خط المساواة الثورية بعنف مشهود حتى تآمر عليه خصومه وأطاحوا به في انقلاب الردة في ٢٧ يوليو ١٧٩٤، بداية عصر الثرمدور أو الثورة المضادة. استقبل روبسبيير مصيره بجلد عظيم قائلا إنه في غياب عذاب القلوب الشهمة وحبورها، في غياب الارتياع العميق من الاستبداد والهمة المرهفة نحو المستضعفين والحب المقدس للوطن وفوق ذلك الحب المتسامي والإلهي للإنسانية تصبح كل ثورة عظيمة محض جريمة صاخبة تستأصل جريمة أخرى. هتف روبسبيير بهذه المعاني وقال ما يزال الطموح المشترك في تأسيس أول جمهورية في العالم حيا.

شمر الفاتح ومصطفي لنصر الدولة الإسلامية بالفداء، وأدركا ربما أن بين اليوتوبيا الإسلامية التي كانا ينشدان والواقع الماثل صحراء واسعة من الحقائق المادية والمصالح السارية وعلاقات القوى التي تأبى أن تنصاع للمطالب الثورية هكذا ضربة لازب. كما للفداء شهب، كذلك لصحراء الواقع ربان، تماثيل الطين والخوالف والقاعدين الذين وجه إليهم الفاتح سهامه النقدية. لم يخرج هؤلاء من صف الخصوم بل من بيت الحركة الإسلامية لإدارة السلطة وتسكينها حيثما تسري المصلحة. بذلك ترك الفاتح ومصطفى العدو خلفهما واستغنيا عن الجهاد الأكبر ضد الفقر والبؤس ببطولة القتال ضد مساكين مثلوا حاجزا كاذبا ضد يوتوبيا العدل الإسلامي بالمقارنة مع الحواجز القائمة فعلا، مصالح المالكين المتنفذين الذين حذر منهم الصوت القرآني بتشديد كثيف: "مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ."

ثرمدور الحركة الإسلامية عند المرحوم حسن الترابي هو ما أتاها من صلف العسكر وطموحهم الانفراد بالسلطة وهذا مختصر كتابه "السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع" (٢٠٠٣). لكن أيصح هذا التقدير والحركة ما شقت للمساكين طريق سوى الموت من أجلها أو في الصراع ضدها؟ والت الحركة منذ أن نهضت للحياة السياسية على يد حسن الترابي رأس المال وكان مكسبها في السلطة أن اخترعت للسودان الليبرالية الجديدة بحديد الدولة ونارها وكانت الأمينة على عناصر إجماع واشنطن، أرباب الخزائن في عبارة الفاتح حمزة، أيا كان الثمن الاجتماعي: التقشف في الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة؛ خصخصة مؤسسات الدولة؛ تحرير تدفق الاستثمارات الأجنبية؛ تحرير سعر صرف العملة؛ تحرير وإلغاء القوانين التي تعيق عمل السوق وتقيد المنافسة؛ تحرير قطاع التجارة والقضاء على القيود الكمية كمنح التراخيص والامتيازات؛ تحرير الأسعار بحسب قوى السوق. لم يكن في علبة أدوات الفاتح حمزة ومصطفى ميرغني منظارا يكشف ما ببطن حوت الدولة، أكانت بيد أخ إسلامي أم خصم علماني، ونهضا إلى ما نهضا إليه بحمية العقيدة، خنق!

ما البوصلة إذن في صحراء الواقع التي انحطت حتى بالمثال الإسلامي ومطلبه المستحيل ردم ما بين الأرض والسماء؟ قد تسعفنا هنا حكمة كارل ماركس التي لا غنى عنها للثوري في الملجة الرأسمالية. أليس عنف اليعاقبة، جماعة روبسبيير، الطليق وثرمدور ستالين وهستيريا الثورة الثقافية في الصين وحتى قتال الفاتح ومصطفى ضد المساكين من مواطنيهم عرض للحجر على الصراع في ميدان الاقتصاد، حيث منشأ البؤس والفقر والانحطاط، وتزويره كصراع سياسي؟ عند ماركس، ما الصراع السياسي سوى مشهد مسرحي عظيم، شرح حركاته وسكناته في متاهة الاقتصاد.  بصارة ماركس وأذكى ما رفد به التنظير السياسي هي إصراره الأكيد أن مسألة الحرية، وقل السلام والعدالة، منسوجة في العلاقات الاجتماعية التي يصر الطنين الليبرالي على اعتبارها من طبيعة الأشياء وغير ذات صلة بالسياسة: من يملك ومن لا يملك، من يكدح بلا طائل ومن يحصد الأرباح. إن كان للحركة الإسلامية عبد الرحيم حمدي فالعيون السود في البطانة كتار!


استفدت في هذه الكلمة من كتاب سلافو جيجيك "لينين ٢٠١٧" (٢٠١٧) وكتاب كارل ماركس "برومير الثامن عشر للويس بونابارت" [١٨٥٢] (٢٠٠٧) وكتاب كلارا زتكين "ذكرى لينين" (١٩٣٤) ومقالة الكساندرا كولونتاي "افسحوا الطريق للغرام المجنح" (١٩٢٣) ومقالة مايكل لوي "شاعرية الماضي: ماركس والثورة الفرنسية" (١٩٨٩) وكتاب نيك نايت "إعادة التفكير في ماو" (٢٠٠٧) وكتاب بول كلارك "الثورة الثقافية الصينية" (٢٠٠٨).

m.elgizouli@gmail.com

 

آراء