العدالة الانتقالية في السودان – مخافة وضع العربة أمام الحصان !!
القراءة الحصيفة، والمتابعة الدقيقة، لما يدور فى أضابير السياسة السودانية، هذه الأيّام، تقود – بلا شك- للاستنتاج الذكى، والذى مفاده باختصار، أنّ هناك اتجاه خطير، بدأت بوادره ومؤشراته تلوح فى الأُفق السياسى بوضوح، لفرض شكل أونموذج محدّد من أشكال ونماذج الوصول للعدالة الانتقالية فى السودان، وهذا الاتجاه ضار بالمفهوم وبالنتائج التى ستتعرّض لها قيم العدالة الانتقالية فى السودان، لأنّه ينحو - وبتعجُّل - فى اتجاه فرض رؤية مدرسة واحدة، من مدارس العدالة الانتقالية المتعددة، وهذا، فيه ظلم كبير للشعب السودانى، الذى من حقّه أن يختط طريقه السودانى الخالص به، لتحقيق العدالة الإنتقالية بطعم سودانى، ونكهة سودانية خالصة، دون وصاية من أحد، أو جهة بعينها، أوالوقوع فى فخاخ الارتماء فى أحضان وتصورات مدرسة حقوقية محددة للعدالة الإنتقالية.
ولن يتأتّى ذلك، دون فتح أوسع حوار مجتمعى حقيقى وشفّاف، تشارك فيه الميديا – الرسمية والتقليدية والجديدة والبديلة – بإستضافة الحوار والنقاش فى الهواء الطلق، بدلاً عن الاكتفاء - فقط - بما يدور فى دوائر النخب/ة السياسية، من ورش عمل، وسمنارات محدودة، يغلب عليها الطابع الأكاديمى البحت، وتُنقِص من قيمتها وحصيلتها النهائية، التصوّرات المسبقة، وذلك، لأنّ (العدالة الإنتقالية) ليست - ولن تكون – مجرّد عملية أكاديمية فقط، بل هى عملية مجتمعية شاملة، ومُعقّدة، يجب أن يُشارك فيها الشعب بأكمله، وبخاصّة الضحايا والناجين والناجيات من الانتهاكات "الجسيمة" لحقوق الإنسان، التى تعنى العدالة الانتقالية بمعالجة آثارها،" لأنّ الجمرة، بتحرق الواطيها"!.
أُتابع مع غيرى – من المهتمين والمهتمّات- وعن كثب، ما يدور فى أروقة السلطة الانتقالية فى الخرطوم، حول مسألة تحقيق العدالة الانتقالية فى السودان، بين تمنُّع العسكر، وبخاصّة "عسكر المجلس السيادى"، ومواربة المدنيين " مدنيين فى مجلس الوزراء"، وبعض أطراف الحاضنة السياسية للحكومة، فى قوى الحرية والتغيير" قحت"، واستطيع أن أقول بملء الفم: ما يحدث - حتّى الآن- لا يُبشّر بخيرٍ كثير، ما لم يتضمّن حزمة من الاجراءات والترتيبات تشمل النظر بعمق فى الجوانب القانونية والاجتماعية والنفسية والمالية، والغور بعمق فى المشكلة، لتحديد المظالم والظلم كـ(ممارسة)، واقامة أساس موضوعى لمعالجة الأسباب الكامنة وراء الصراع والتهميش، وردم الهوّة السحيقة التى يتوجّب لتحقيقها، وضع "التمييز الايجابى" فى الحسبان، وليس الاكتفاء - فقط - بتسمية الأفراد والجماعات "منتهكين وضحايا"، أو الاكتفاء بعمليات فوقية سطحية، تعمل على وضع بعض المساحيق فوق الجروح، التى تحتاج لتحقيق التعافى، ولإبراء جراح الماضى بصورة حقيقية، للوصول للأهدف والغايات المرجوّة، ولن يتأتّى ذلك، بإهمال أو التغاضى عن وجود الإجراءات القضائيّة و "غير القضائية"، وهذا حديث يطول، ويعرفه تماماً القانونيون الذين، يعملون على فرض تصوّرات مدرسة واحدة فى عملية العدالة الانتقالية فى السودان، ولكن، هيهات!.
فى سبيل تحقيق بداية صحيحة للدخول لعملية العدالة الانتقالية، لا بُدّ من تأسيس وفتح منصّة واسعة - بحق وحقيقة - لمناقشة الماضى، بحيث يصبح مبدأ الكشف عن الحقيقة ليس مجرّد دعوة للكشف عن وقائع الانتهاكات، وكفى، بل، عملية متكاملة لاستكشاف الأسباب الجذرية للانتهاكات والمظالم التاريخية، ومعالجتها، لأنّ تجارب العدالة الانتقالية العالمية، تؤكّد أنّ " النسيان" وحده ليس حلّاً، والمطلوب بناء وتشكيل ذاكرة جماعية جديدة، دون اغفال أو اسقاط للذاكرة التاريخية الجماعية والفردية، وتحقيق العدالة، ورد الحقوق إلى أهلها، والانصاف، وجبر الضرر، والمساءلة، ومكافحة الإفلات من العقاب، والمساواة بين كل الناس، ووضع الضمانات الكافية لعدم تكرار الانتهاكات. ولا بُدّ – هُنا – ومن قبل ومن بعد، وابتداءاً وانتهاء، من مشاركة الضحايا عبر ممثليهم الحقيقيين، وتمثيل النساء تمثيلاً "مُنصفاً" وليس رمزياً، فى كل العملية من الألف، للياء، مضافاً إلى تمثيل منظمات المجتمع المدنى، فى كل المراحل، بما فى ذلك، منظمات المجتمع المدنى القاعدية، ومنظمات حقوق الإنسان، والأجيال الجديدة من الشباب والشابات من مفجّرى ثورة ديسمبر المجيدة، فى لجان المقاومة، وقد ظهرت قدرات هذا الجيل الجديد وامكانياته فى اعتصام القيادة العامة، واعتصام نيرتتى "نيجرتيتى"، وغيرها من الاعتصامات، وفى الحراك الثورى، فى كل بقاع السودان، يكفى شعار" يا العسكرى المغرور، كل البلد دارفور"، للإشارة للوعى الذى يمتلكه هذا الجيل العظيم، الذى أنجز ثورته، بشعارها الأكبر (حرية...سلام...وعدالة)، وهذا حديث يطول!..
ما نريد أن نقوله باختصار، هو أنّ الوصول للعدالة الانتقالية فى السودان، ليست - ويجب أن لا تكون - مجرّد عملية (ديوانية) تقوم بها وزارة محددة "العدل" نموذجاً، بالنيابة عن كل مكونات المجتمع الحقوقى، والمجتمع بأكمله، وهذا ما يجب الانتباه له، و"اصلاح الخطأ" فيه، قبل فوات الأوان، إذ، لا بُدّ – ومن الضرورى بمكان – العمل على الاتفاق حول انتاج مشروع نموذج سودانى للعدالة الإنتقالية، والذى لم يتكوّن بعد، وبين أيدينا التجربة الحالية، والتى تتّضح مؤشراتها، فى عملية اعداد - "مسودة" - ((مشروع قانون مفوضية العدالة الإنتقالية لسنة 2020 ))، والتى لم تنل – بعد - النقاش الواسع المطلوب، وهى فى أفضل توصيفاتها مازالت تعبّر عن صفوية أكاديميين، ممزوجة بمشاريع صفوية الأُمم المتحدة، وغياب الإشارة إلى مشاركة الضحايا والناجين والناجيات فى مناطق وبؤر النزاع المُسلّح، وغياب مشروع العدالة الإنتقالية فى العملية السلمية، ومالم يحدث كل ذلك، وبوعىٍ تام، وبشراكات مجتمعية حقيقية، سيكون الجهد المبذول - وإن صدقت النوايا - مجرّد محاولات تُعبّر عن رؤية آحادية، محفوفة بالمخاطر والفشل، وعملية أقرب لوضع الهرم المقلوب، وبصورة أُخرى، وضع العربة أمام الحصان!.
تبقّى أن نضيف، يجب على الصحافة (التقليدية والجديدة والبديلة)، الرسمية وغير الرسمية، الحكومية والخاصة، وصحافة المواطن، أن تلعب أدوارها بمصداقية ونزاهة ومسئولية وشفافية، فى تيسير عملية الوصول للعدالة الانتقالية، ولن يتأتّى ذلك، دون امتلاك الإرادة السياسية الحقّة، ودون التدريب والتاهيل المطلوب، ودون التعرُّف على المدارس والتجارب المختلفة لنماذج العدالة الانتقالية الأُخرى، ودون الإنفتاح على كل التجارب الانسانية العالمية للتعلُّم منها، وبدون دراسة ايجابياتها وسلبياتها، واسباب نجاحاتها واخفاقاتها، وحتّى فشلها، لنصل فى نهاية المطاف، للتجربة والنسخة السودانية الخالصة، للوصول للعدالة الانتقالية، فى السودان، لتحقيق الهدف المنشود. نأمل أن يبدأ الإصلاح اليوم، قبل الغد، ومازال العشم كبيراً فى اصلاح الخطأ، قبل فوات الأوان.
فيصل الباقر
faisal.elbagir@gmail.com