قراءة فى قرار إنهاء ولاية الخبير المستقل المعنى بحالة حقوق الإنسان فى السودان
سيذكر ويُسجّل التاريخ السودانى الحديث، اليوم السادس من أكتوبر من عام 2020، بأنّه اليوم المشهود الذى أنهى فيه مجلس حقوق الإنسان، بجنيف، فى دورته الخامسة والأربعين (45) ( 14 سبتمبر- 6 أُكتوبر2020) بالإجماع، ولاية الخبير المستقل المعنى بحالة حقوق الإنسان فى السودان، بعد استدامة استمرّت لفترة 27 عاماً حسوما ( 1993- 2020) من التفويض الأُممى، لمقررين خاصّين، وخبراء مستقلين، يكلّفهم/ ن المجلس لتقديم تقارير، ومشورة، ضمن نظام الإجراءات الخاصّة، بهدف تحسين أوضاع حقوق الإنسان فى البلدان الأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان، وقد ظلّ السودان طيلة هذه السنوات حبيس هذه ((الإجراءات الخاصّة))، دون أن يستجيب نظام الحُكم الديكتاتورى لهذه الآليات بما يجب ويليق، ويكفى، لتحقيق تحسُّن حقيقى فى أوضاع حقوق الإنسان فى السودان، إلى أن استطاعت ثورة ديسمبر 2018 الظافرة، وهى ثورة ((الحرية ...والسلام ... والعدالة)) من فتح الطريق، لإجراء الاصلاحات الواجب تحقيقها، فى أوضاع حقوق الإنسان فى السودان، ونتمنّى أن تكون – وتأتى - اصلاحات حقيقية، تتّسم بالشمول، والإستدامة، وبطابع منظّم ومُنتظم فى وقف الانتهاكات الهيكلية، وبخاصّة الإنتهاكات الممنهجة، فى جميع مجالات حقوق الإنسان فى السودان: المدنية والثقافية والإقتصادية والسياسية والإجتماعية، وهذا حديث يطول، وهناك - بلا شك - تحدّى كبير، ينتظر المزيد من العمل الشاق والدؤوب والمتواصل – بلا كلل أو ملل، أو إنقطاع - من الدولة ومؤسساتها المعنية بحقوق الإنسان، من جانب، ومن المجتمع المدنى، فى الجانب الآخر، لحماية الحقوق، لأنّ حماية الحقوق محتاجة لصحوة مستدامة، وليست موسمية، أو "عند الضرورة" أو " عنداللزوم"، كما كان يفعل النظام المُباد، فى مواسم رحلتى " الشتاء والصيف" وفق مواقيت زيارات وحضور وذهاب خبراء حقوق الإنسان، أو عند مواسم الحج لـ(جنيف)، فى أزمنة وأوقات اجتماعات مجلس حقوق الإنسان!.
يُعتبر هذا القرار التاريخى الهام، وهو أنهاء ولاية الخبير المستقل - فى تقدير كاتب هذه السطور، والكثيرين من المدافعين والمدافعات - بمثابة تشجيع وتحفيزمن هذه الآلية الأُممية الهامّة، للحكومة الإنتقالية فى السودان، للسير فى طريق احترام وتعزيز حقوق الإنسان، بعد رحلة مُعاناة طويلة مع استمرار الانتهاكات الفظيعة والممنهجة، والتى جعلت السودان منذ العام 1993، يرزح تحت بند الإجراءات الخاصّة لمجلس حقوق الإنسان، وتحت ولاية المقرّرين الخاصين والخبراء المستقلين، وهى رحلة طويلة وشاقّة، يتوجّب علينا فى حركة حقوق الإنسان السودانية، كما يتوجّب على حكومة الثورة، أخذ العبرة والإعتبار، والدروس المُستفادة منها، ودراستها بعمق، واخضاعها للتحليل والمُدارسة، والعمل على الإستفادة من دروسها الكثيرة، والسعى لضمان أن لا تتكرّر تلك الانتهاكات التى قادت لهذا الوضع الإستثنائى المُعيب.
يجىء هذا القرار، وكأنّه " إعادة ضبط المصنع"، أولنقل بلغة الشارع البسيط "تصفير عدّاد"، لحالة وأوضاع حقوق الإنسان فى السودان، ولأنّ ملف حقوق الإنسان، من الملفّات المتحركّة، والتى لا تعرف الثبات على حالةٍ واحدة، فإنّ الواجب يُحتّم على الحكومة التعامل مع هذا القرار العظيم والمُفرح، بمسئولية عالية فى الحفاظ على هذا الوضع الجديد، والسهر على احترام وتعزيز حقوق الإنسان، فى هذا البلد العظيم الذى يستحق شعبه، أن تُحترم حقوق إنسانه، وأن تُصان كرامته، ولن يتحقّق - ذلك - ما لم تُحسن الحكومة الحالية، وما تليها من حُكومات، إدارة ملف حقوق الإنسان، بطريقة واعية للمخاطر والتحدّيات، وأن تتصرّف الدولة وأجهزتها، بما يليق بواجباتها تجاه الشعب السودانى، فى تحقيق شعارات ثورته المجيدة (حرية ....سلام...وعدالة)، وما يليق بالإيفاء بالالتزامات الدولية، حتّى لا نعود مرّة أُخرى لمربّع العقوبات، والرقابة الأُممية اللصيقة، وهذا يتطلّب - من قبل ومن بعد - الإرادة السياسية، والمصداقية، والمساءلة والشفافية، واستعجال استكمال البناء السليم والصحيح للآليات والمؤسسات التى من المفترض منها القيام بهذه المهام والمسئوليات الجِسام، والقيام بالإصلاحات اللازمة فى التشريعات والقوانين والممارسة، وأن تمتلك الحكومة حساسية حقوق إنسان، فى إدارتها لشئوون العباد والبلاد!.
من منّا - فى حركة حقوق الإنسان السودانية - لا يذكر تلك الرحلة الطويلة والشاقّة، فى دروب المدافعة عن حقوق الإنسان، والمناصرة عبركل الآليات الدولية والإقليمية المُتاحة، لرصد الانتهاكات وتوثيقها، وفضحها، واعلانها للشعب السودانى أوّلاً، ومن بعد، للعالم أجمع، والمجتمع الدولى، وما أدراكما المجتمع الدولى، ومن منّا لا يذكر تلك الرحلة امع المقررين الخاصين والخبراء المستقلين، وقد سرناها معهم كتفاً بكتف، فى طريق احترام وتعزيز حقوق الإنسان فى السودان، وتحمّلنا فى سبيل ذلك، عنت وجبروت السلطات السودانية، وسوء تفكير وتدبير أجهزة أمنها الباطشة، وتجبُّرها، وكيدها، وحملات تشكيكها فى المدافعين والمدافعات، وتشويه السمعة والإساءة والتجريح، بل ومرارة الاعتقال والتعذيب، والتشريد، قبل وبعد فترة الخبير المستقل الأوّل، كاسبر بيرو" المجر/ هنغاريا "، والذى ابتدر فترات أمانة الولاية فى أصعب الأوقات، وفى أوج جنون الإنقاذ، وعنجهيتها ( 1993 - 1998)، والذى أعقبه فى مواصلة المشوار، ليوناردوا فرانكو " الأرجنتين" ( 1898 – 2000)، ليجىء بعدهما، جيرهارد باوم " ألمانيا" (2000- 2004)، ثّمّ إيمانويل أكوى أدو "غانا" (2004) " عام واحد فقط، ثّمّ جاءت السيدة سيما سمر " أفغانستان " (2005- 2009)، ثمّ جاء بعدها محمد شاندى عثمان "تنزانيا" (2009-2012)، ثّمّ جاء ، مشهود أديبايو بدريين "نيجريا" ( 2012- 2014)، وجاء – أخيراً- بعد كل هؤلاء، أريستيد نونوسى "بنين" (2014- أُكتوبر 2020)، وبلا شك، فإنّ جميع هؤلاء الخبراء المستقلين والمقررين الخاصين، قد أبلوا بلاءاً حسناً، ويستحقون منّا التقدير والإحترام، سواء كانت ولايتهم وتفويضهم تحت "البند الرابع"، أو "البند العاشر"، وفق لغة ومصطلحات حقوق الإنسان، فالشاهد أنّهم أنجزوا مهامهم بشرف ومسئولية أخلاقية عالية، ويجب أن يمتد الشكر والتقدير - كذلك - للأطقم الفنيّة التى عملت معهم، وساعدتهم بمهنية واحترافية عالية، فى القيام بالمهمة الصعبة، إلى أن تكلّلت جهودهم العظيمة بالنجاح الذى نشهده اليوم.
كان لكل من هؤلاء المقررين والخبراء المستقلين دوره المميز، واسلوبه الخاص، ومنهجه المتفرّد، فى دعم ملف تحسين أوضاع حقوق الإنسان فى السودان، ولكلٍّ منهم قصص، وتحديات، ومصاعب، وصولات، وجولات، وذكريات، فى التعامل مع حكومة السودان " النظام المُباد"، لإنجاز المهام الموكلة إليه/ا ، وكانت بوصلتهم/ ن – أجمعين – موجّهةً بدقّة عالية، نحو تحقيق الهدف المُراد، وهو تحيسن أوضاع وحالة حقوق الإنسان فى السودان، وفق التكليف والتفويض المحددين، فلهم – أجمعين – تحيّة تقدير وعرفان، لما بذلوه من جهدٍ وعمل، فى سبيل أداء تكليفهم/ ن الأُممى الرفيع، وعلينا فى حركة حقوق الإنسان السودانية، أن نواصل المشوار بذات المبدئيّة والوعى، والجسارة، والصمود والتحدّى، لصون الحقوق المكتسبة، وانتزاع الحقوق المستحقّة، وعلينا عدم الإسترخاء، وعدم انتظار المن والسلوى من "سماء الدولة" فى معارك انتزاع الحقوق، ولنضع نصب أعيننا ماقاله الشهيد عبدالعظيم، قبل استشهاده برصاص الغدر، وهو واحد من شهداء كُثر من شباب ثورة ديسمبر المجيدة، يوم أن قال: " تعبنا يا صديق... لكن، لا أحد يستطيع الاستلقاء أثناء المعركة"... نعم، علينا مواصلة مشوار الدفاع عن حقوق الإنسان فى السودان، وعلينا عدم الإستلقاء أو الإسترخاء أثناء المعركة، وهو مشوار طويل، وطريق صعب وطويل، ولكن، شعبنا يستحق احترام حقوقه وكرامته الإنسانية. فلنواصل جهود احترام وتعزيز حقوق الإنسان فى السودان!.
نص شعرى : حقّاً تحرسو ولا بيجيك.. حقّاً تلاوى وتقلعو..أمسك شياطين الصراع .. والما بتلحصّلو فلّعو..ثبّت لى بالك..لا يلين ..أنقح تُرابك وأنقعو.. عقبان أبوالإنسان..ما شقّ حنكاً ضيّعو.. (( محمد الحسن سالم " حمّيد"))
فيصل الباقر
faisal.elbagir@gmail.com