اطلعت على ما تفضل به الدكتور عمر القراي بعنوان (تعقيب على كيان الانصار) وُنشر في عدد من المواقع الإسفيرية، وقبل الدخول في تفاصيل هذا الرد؛ اود الإفادة انني لا اتحدث بلسان الأنصار ولا بلسان أي تنظيم سياسي آخر. وإنما أمثل نفسي.
تعديل المناهج الدراسية كعمل مهني يقوم به مختصون محترفون، وبعيداً عن السياسة هو في حد ذاته عمل لا غبار عليه، لأن سنة الحياة التغيير، والعالم يتطور من حولنا، ومن حين لآخر تنشأ الحاجة للتغيير في المنهج ليواكب تطورات الحياة. وهو أمر تقوم به كافة الدول في العالم دون استثناء، الفرق أن حدوث هذا التغيير يجري في بعض الدول دون ضجيج، وفي البعض الآخر يثير زوابع خصوصاً تعديل المناهج المرتبطة بالتاريخ والجغرافيا والمواد الاجتماعية، والزوابع تثور بصورة أكبر في الدول ذات العرقيات المتنوعة والأديان المتعددة. لأنهم في كثير من الحالات لا يتفقون لا على التاريخ ولا على الجغرافيا.
التعديلات في المناهج تجري لأسباب طبيعية كالتي ذكرناها، ولأسباب سياسية، خصوصا حينما تريد دولة أو جماعة ما او حزب او غير ذلك الاستقواء بالتاريخ أو بالجغرافيا لتأييد فكرها ونظرتها، فجمهورية مصر على سبيل المثال ستكون مناهج الجغرافيا فيها معدلة بوضع حلايب وشلاتين ضمن خرائط هذا المنهج. وفي الولايات المتحدة فان السكان الاصليين او ما يسمونهم الهنود الحمر سيكونون اول المطالبين بتعديل التاريخ متى ما اصبح لهم (لوبي) قوي يستطيع وضع بصماته على السياسة الامريكية، واليهود افلحوا بإضافة الهولوكوست في مناهج كثير من الدول بالصورة التي يريد بها اليهود ومن خلال نظرتهم ان ينظر العالم لها.
والسؤال هنا في حالة القراي والانصار، هل كان التناول والحذف للثورة المهدية يأتي في السياق الطبيعي ام السياق السياسي؟
من الصعب طبعاً العثور على اجابة، لكن نعود لما خطه القراي ونشير لمادة التاريخ للصف الثالث الثانوي الوحدة الأولى الدرس الثامن وهو بعنوان: الاسس والمرتكزات الفكرية للثورة المهدية، ونقارن ذلك بما كتبه القراي نفسه في تعقيه: (أننا في عهد جديد، يقوم على الشفافية والوضوح، والصدق مع النفس ومع الشعب.. ولهذا نريد لجميع مناهجنا، وخاصة التاريخ، أن يبتعد عن التزييف، وأن يقوم على الحقائق، وأن يقدم نظرة نقدية ثاقبة، لكل تاريخنا على مر العصور، حتى لا نخدع أنفسنا، ولا نضلل أبناءنا، أو نجامل فرد أو جماعة على حساب الحق(.
ننظر لقوله (يقوم على الحقائق) ونسأله: ولكن هذه النظرة للحقائق ستكون من وجهة نظر من؟ لأن الحقيقة على سبيل المثال من وجهة نظر الجمهوريين غير الحقيقة من وجهة نظر الشيوعيين، وغير الحقيقة من وجهة نظر الأنصار. ومن ذلك أن ظهور المهدي المنتظر عند الانصار هو (حقيقة)، ولكن هل يشاطرهم الجمهوريون هذه (الحقيقة)؟ الصراع الطبقي لدى الشيوعيين هو (حقيقة) هل يشاطرهم الاخوان المسلمون هذه (الحقيقة)؟ معركة كرري من وجهة نظر الانصار معركة بطولية ضد المستعمر، وهي بالنسبة لهم (حقيقة)، هل يشاطرهم الذين تعاونوا مع المستعمر هذه (الحقيقة)؟
إذن لا تحدثنا عن حقائق وتزييف، لأن ما يراه طرف حقيقة يراه الطرف الآخر تزييفاً،
حتى في مجال العلوم الطبيعية فإن كلمة (حقائق) تتعرض للاهتزاز من حين لآخر، فبعض حقائق العلم في القرن التاسع عشر جاء في القرن العشرين ما يمحوها، وبعض حقائق القرن العشرين جاء القرن الحادي والعشرين بما يدحضها، وهكذا…فاذا كنا وفي المجال العلمي والذي تدور معاركه في المختبرات ووفق الطرق العلمية المحضة نتنازل عن حقائق آمنا بها فترة من الزمن لمصلحة (حقائق) جديدة قابلة للمحو هي الأخرى ..فما بالك بمجال العلوم الإنسانية؟
علماء التاريخ يدركون هذه (الحقائق) ولذا تجي عباراتهم في كتبهم من باب (اعتقد، وأرى، وأتصور، وأفترض، وأظن، ومن وجهة نظري..الخ).
والدكتور القراي في الوقت الذي يتحدث فيه عن مطالبته بان تسمح جميع مناهجنا بتقديم (نظرة نقدية ثاقبة) فلجنته تقوم بحذف الباب الثامن وعنوانه: (الأسس والمرتكزات الفكرية للثورة المهدية)، وهو الباب الذي يمكن من خلاله تقديم النظرة النقدية الثاقبة، مما يدل على أن موجهاته للجنة (راحت شمار في مرقة)، ولو آمنا سلفاً أن الباب بوضعه القديم فيه ما لا يتماشى مع النظرة النقدية الثاقبة التي يدعو لها القراي، فالواجب إذن الإبقاء عليه وتحسين شكله وتقديم النقد من خلاله؛ لا قطع رأسه ومحوه من الوجود.
ثم ما الذي يجعل الدرس الاول والذي يتحدث عن ميلاد المهدي وهجرته وتعليمه والتحاقه بالطريقة السمانية فيه تزييف ولا يقوم على الحقائق ولذا جرى حذفه؟ وكيف تستطيع تقديم النظرة النقدية الثاقبة لهذا الرجل وانت تجهل مولده وتعليمه والمؤثرات التي اثرت على فكره عند التحاقه بالطريقة السمانية؟
هناك جملة مهمة وردت في تعقيب القراي يجب الوقوف عندها هي: (ولكن أن يقوم كيان كامل، يضم عدداً كبيراً من المواطنين، يفترض أن يكونوا (أنصار الله) بالتقوى والصدق، ويخطب فيهم أمامهم، بهذه التصريحات الخاطئة، فإن هذا يستوجب الوقوف عنده، لأن فيه دلالة كبيرة وخطيرة، على ما يتعرض له الوعي من تزييف في بلادنا).
لا يهمني في هذا السياق تصريحات امام الانصار، لكن ما يهمني في هذه الجملة تحديداً هو: (على ما يتعرض له الوعي من تزييف في بلادنا)، واتوجه بسؤال للدكتور القراي..ما المقياس الذي نستطيع ان نقيس به (الوعي) ثم نقرر بعدها درجة الانحراف أو التطابق مع هذا المقياس؟ ومن هو الذي وضع مقياس (الوعي)؟
أعرف تماما ان هذه الجمل من شاكلة (وعي) و(تزييف) وما إلى ذلك جمل انشائية يستخدمها الساسة (لخم) الشعب، وتقع ضمن نطاق (عدة الشغل)، لأنه من الصعب تعريفها، لذا سنعود مرة أخرى للأسئلة ونقول: هل تعريف الوعي لدى الشيوعيين يتطابق مع تعريف الوعي عند الجمهوريين؟ هل يتفقان مثلاً في (الوعي) بحقوق المرأة، أو ما يسمى (حقوق) المثليين؟ هل الوعي لدى المسلم هو نفسه الوعي لغير المسلم؟
إذن الوعي كلمة فضفاضة يستطيع الإنسان أن يسبح فيها بخياله كيفما ما شاء، لكن عموماً تستخدمها القوى الحديثة، بأطرافها في اليمين واليسار، بصورة استعلائية ضد القوى التقليدية الطائفية من انصار وختمية وطرق صوفية، وهم المتهمون بالتخلف والرجعية وغياب (الوعي)، والدكتور القراي وهو يستخدمها هكذا يعرف اتجاه بوصلته. بما يشي أن عمل تغيير المناهج لا يخلو من سياسة.
لذا من الواجب فصل السياسة عن تغيير المناهج وجعله عمل محترفين لا صراعات سياسيين. فعمل المحترفين طويل الأجل وسيستمر فترة ولن يغيره إلا محترف آخر لأسباب موضوعية، وعمل الساسة قصير الأجل، وسيتم تغييره في اقرب (لفة) متى تغيرت رياح السياسة.