ظلت نظرية المعرفة منذ فجر الفكر البشري منازعة بين القلب والعقل، أي بين العرفان والبرهان. وإذا كانت الفلسفة قد اختارت، في الغالب، العقل المنطقي التحليلي طريقاً للمعرفة، فقد اختار التصوف في كل الأديان والثقافات، القلب أو (الحدس) طريقاً إلى ذلك. والناظر المتأمل في شعر التجاني يوسف بشير (1912-1937) يلحظ تعمق التجاني في دراسة التراث الصوفي العرفاني، وهضمه وتمثله في تجربته الشعرية. على أننا نرى أن أبا حامد الغزالي أكثر المتصوفة تأثيرا في التجاني وذلك إلى الحد الذي توصلنا فيه، على ضوء هذا التأثير، إلى حقيقة التهمة التي طرد على أساسها التجاني من المعهد العلمي بأم درمان. فقد رجح عندنا استنباطاً أن التجاني احتج، في نقاش مع زملائه حول شعر شوقي، بنص للغزالي من كتاب (إحياء علوم الدين) عن أثر كل من القرآن والشعر على نفس السامع. فأساء زملاؤه فهم النص الذي أورده عن الغزالي وظنوا خطأً أن التجاني يفضل بذلك شعر شوقي على القرآن. يقول الغزالي بكتابه العمدة (إحياء علوم الدين) باب (آداب السماع والوجد) أي سماع تلاوة القرآن والإنشاد العرفاني والمديح النبوي، يقول: "القلوب وإن كانت محترقة في حبِّ الله، فإن البيت الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن، وذلك لوزن الشعر ومشاكلته للطِّباع، ولكونه مشاكلاً للطَّبع اقتدر البَشَر على نظم الشعر، وأما القرآن فنظمه خارج عن أساليب الكلام ومنهاجه، وهو لذلك معجزٌ لا يدخل في قوة البشر؛ لعدم مشاكلته لطبعه"(1). انتهى. ويمزج التجاني في شعره، الرومانتيكية كما نجدها عند كبار الشعراء الغربيين (وليم وردزورث، ووليم بليك، وغوته، وهوجو)، بالصوفية العرفانية في تجلياتها الاسلامية عند الغزالي وابن عربي وعبد الغني النابلسي والسهروردي وغيرهم. ولذلك يلزم القارئ لكي يتذوق شعر التجاني تذوقا تاماً، أن يلم، ولو بقدر يسير، بلغة المتصوفة ومصطلحاتهم وأن يجدد معرفته بالأصول الفكرية للرومانتيكية عند رموزها الكبار. ونحن نرى أن الرومانتيكية والصوفية العرفانية، تشتركان في مرتكزات ثلاثة: الأول أن جوهر النفس الإنسانية ليس من هذا العالم الأرضي، إنها من عنصر (إلهي): "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي". والثاني أن القلب أو الفؤاد (البصيرة والحدس) مستودع المعرفة الحقة بأصل الوجود والمرآة التي تنعكس فيها الأنوار والمعارف الإلهية في قلب الصوفي العارف، وهو ما يشار إليه عندهم: بالإشراق والفيض والتجلي والكشف والمشاهدة. ويعرف عند الرومانتيكيين بالالهام أو الوحي الشعري. والمرتكز الثالث، ثمرة مباشرة للأول والثاني، وهو النزعة الانسانوية humanism أي الإيمان بوحدة الأصل الإنساني ووحدة الدين والفكر والمصير الإنساني المشترك، وبالتالي الإيمان بقيمة الإنسان من حيث هو إنسان بغض النظر عن جنسه ودينه ولونه وموطنه. وكلمة (إشراقة) التي ترد في شعر التجاني إشارة إلى الجوهر الإلهي في نفس الإنسان. وهي من الإشراق بالمعنى العرفاني، الصوفي والفلسفي. والإشراق عندهم، نور معرفي "يُقذفه الله في القلب"، فتنفتح به البصائر وتنكشف به الحقائق، وترفع الحجب والأستار. وإلى ذلك ترد الإشارة في قصيدة التجاني (الصوفي المعذب):
ربِّ في الإشـــــراقةِ الأولى علـــى طــــينةِ آدمْ أمم تزخــــرُ فـــــي الغـيـبِ وفـي الطينةِ عالمْ
الإشراقة الأولى، الجذوة الإلهية التي أودعها الله من روحه، في نفس الإنسان، والتي يصفها التجاني أيضا في قصيدة (نفسي) بقوله:
هي نفسي إشراقةٌ من سماء اللـه * تحـــبــو مــــع القـــــرونِ وتبــــطي
وعندما اختار التجاني كلمة (إشراقة) عنواناً لديوان شعره كأنه أراد بذلك القول إن قصائد الديوان إشراقات أو تجليات صوفية عرفانية، وكل قصيدة بمثابة إشراقة أو قبس أو كشف عرفاني نوراني. يقول في ختام قصيدة (قطرات) والتي أرادها أن تكون بمثابة المقدمة للديوان:
قطراتٌ من التأمل حيرى * مطرقات على الدجى مبراقهْ يترسلن في جوانب آفاقي * شـــــعاعاً اســـــميته (إشـــــــــراقــه)
كما يصفها في ذات القصيدة بقوله: "من دمي تستدرها أنفاسي/ لهيباً اسميته إشـــراقه". وقوله: "يتحدرن من (معابد) أيامي/ حنيناً اســــميته إشــــراقه". والقلب عند المتصوفة ليس فقط وسيلة المعرفة، بل هو أيضاً بيت (الرّب). ويستدلون بذلك بالحديث القدسي: "ما وسعني أرضي ولا سمائي وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن". وهذا المعنى نجده في التعبير الشعبي السوداني بقولهم: "خت الرحمن في قلبك". أي ضع الرحمن في قلبك. والمراد: تيقن واطمئن. وإذا وضعنا كل ذلك في الحسبان، فإننا سوف نتفهم بكل يسر صرخة التجاني في قصيدة (قلب الفيلسوف):
هنا الحقيقة فــي جنبي هنا قبـسٌ * من السموات في (قلبي) هنا الله
ولما كان الوجود عند الصوفي تجليات لأسماء الله، فهو يرى الله في كل شىء. وفي ذلك يقول التجاني في قصيدة (الصوفي المعذب):
كلُّ ما في الكونِ يمشي في حـناياه الإلهْ هـــــذه النملة فـــــي رِقَتـــِها رجــعُ صــداهْ هو يحيا فـي حــواشيـهـا وتحيــا فـي ثــراهْ
وفي إضاءة لهذه الرؤية الصوفية للوجود يقول الغزالي: "لكل شيء وجهان، وجه إلى نفسه ووجه إلى ربه. فهو باعتبار وجه نفسه عدم، وباعتبار وجه الله تعالى موجود. إذن لا موجود إلا الله تعالى ووجه. إذن فكل شيء هالك إلا وجهه أزلا وأبداً.. فإذا عرفت ذلك فأعلم أن أرباب البصائر ما رأوا شيئا إلا رأوا الله معه. ومنهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء"(2). انتهى.
الصوفي المعذب: ولما كان التجاني ليس صوفياً بالمعنى السلوكي التعبدي، وإنما يتمثل المعارف الصوفية تمثلاً جمالياً في تجربته الشعرية، فإنه يظل منازعاً على المستوى الشخصي بين العرفان (القلب) وبين البرهان (العقل). وقد عبر عن هذا التنازع في مطلع قصيدة (حيرة) بقوله:
بين اثنتين أسرُّ أم أبكي؟ قبسُ اليقينِ وجذوةُ الشكِ
قوله: "قبس اليقين" إشارة إلى القلب، وقوله "جذوة الشك"، إشارة إلى العقل. وهذا يقودنا إلى مناقشة مفهوم الشك عند التجاني. فقد فهم كل الذين كتبوا عن التجاني، شك التجاني بأنه شك إيماني أي شك ما دون الإيمان. وهذا فهم ساذج لمفهوم الشك عند التجاني. شك التجاني شك معرفي وليس شكاً إيمانياً. إنه شك في الوسيلة المثلى للوصول للحقيقة: هل هي القلب أم العقل؟. وإذا استعنا بالنص القرآني نستطيع القول إن شك التجاني شك إبراهيمي، وهو ما دلت عليه الآية القرآنية :(وإذ قال إبراهيم، ربي أرني كيف تحي الموتى، قال أولم لم تؤمن، قال بلى، ولكن لكي يطمئن قلبي). ومن ذلك فهم المتصوفة أن اليقين درجة فوق الإيمان. وكذلك كان التجاني يبحث عن ذلك اليقين الذي فوق الإيمان ليطمئن قلبه. فهو حين يشك لا يبحث عن الايمان لأنه لم يفقده، وإنما يبحث عن اليقين. يدلك على ذلك قوله في قصيدة (أنبياء الحقيقة):
ربَّ نفسٍ من عنصر الفكــرِ ســــواها ونفسٍ مـــــن حـــــمأةِ الطيـــنِ صــــــــــوّر شــــكها فــــي هــــدى الحــــقــيقـــةِ إيمــــانٌ وفـــــــي ضـــــــــوئها يــقيــــنٌ مــجـــوهــــــــــــر ما بها أن تســـام فـــــي الأرضِ خسفاً أو تُعـــادى فــــــي رأيـــها أو تـُـكفَّـــــــــــــــــــر
قال "شكها" في الحقيقة "إيمانٌ"، فكيف يجوز أن توصم بالكفر؟ وكان الإمام الغزالي الذي تأثر به التجاني كثيراً، قد مر بتجربة الشك المعرفي هذا، وقد انتهت به هذه التجربة إلى التصوف (العرفان) ونبذ الفلسفة (البرهان) وذلك "بنور قذفه الله في الصدر"، على حد عبارته. فشك الغزالي لم يكن شكاً إيمانياً، وإنما شكا معرفياً في المفاضلة بين طريق القلب وطريق العقل. غير أن التجاني ظل منازعاً بين تسليم القلب وتساؤلات العقل، وهو تنازع لا خيار له فهو لا يرضاه ولا يريده، ولكن يحدث رغماً عنه، فيجاهد للتخلص منه، وهيهات. يقول في قصيدة (يؤلمني شكي):
أشكُ يؤلمني شكي وأبحثُ عن * برد اليقينِ فيفنى فيه مجهودي أشكُ لا عن رضا مني ويقتلني * شكي ويذبلُ من وسواسه عودي
قوله "وسواسه" فيه إشارة إلى قوله تعالى: (الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس). فدلَّ بذلك أن إيمان العبد لا يسلم من هذا الوسواس. إذاً العذاب الذي يحسه الشاعر في روحه سببه الاحساس بانطفا جذوة الاشراق في القلب. يقول في قصيدة (الصوفي المعذب): "غابَ عن نفسي إشراقُك والفجرُ الجميلْ". إذاً غياب هذا الإشراق أو شمس الحقيقة في نفسه، هو سبب العذاب الذي يعانيه والذي يعبر عنه في القصيدة بقوله: "ثم مـــاذا جــدَّ مـِــن بعْـــدِ خلوصي وصفائي/ أظلمتْ روحي ماعدتُ أرى مـــا أنا رائــي".
التجاني والنزعة الإنسانوية: قلنا إن ما يجمع بين الرومانتيكية والصوفية العرفانية، النزعة الانسانوية. فكلاهما تؤمن بالأصل الواحد للجنس البشري، وبوحدة الفكر البشري، ووحدة الأديان والحضارات. ونجد كل ذلك في شعر التجاني، فهو ينظر إلى كل الأديان نظرة إنسانوية متسامحة بوصفها جميعا صادرة عن الله سبحانه وتعالى وطرق إلى الخير والهداية والمحبة. يقول في قصيدة (الله):
ها هنا مسجدٌ مغيظٌ على ذي البيع الطهر والمســوح الوضاءْ وهنــــا راهــــبٌ مـــــــــن القـــوم ثـــــوارٌ لمجــــــدِ الكنيســـــةِ الـــــــــزهــــــــراءْ كلها في الثــــرى دوافــــعُ خيـــــــرٍ بنتُ وهب شـــقيقـــةُ العـــــــــــــذراءْ
والتجاني متأثر في ذلك بفكر الشيخ الصوفي الأكبر، محي الدين ابن عربي، وبخاصة اعتقاده في (دين الحب) إشارة للأصل الواحد لكل الأديان. ويؤسس ابن عربي لمفهومه في وحدة العقيدة الدينية من نصوص القرآن الكريم والذي يرى أنه حرص على إبراز وحدة العقيدة من جهة، واختلاف الشرائع من جهة أخرى. ويستدل ابن عربي على وحدة الأديان بقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه). لذلك يصف القرآن كل الأنبياء بلا استثناء بأنهم مسلمون. وتتسع دائرة الخلاص الديني وفقاً لهذا المفهوم الشامل للإسلام لتشمل أصحاب الأديان جميعاً بلا تمييز أو تفرقة. ويستدل ابن عربي على ذلك بقوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). أي أن الفصل بين أصحاب العقائد بما فيهم المجوس، عبدة النار، والمشركون، عبدة الأوثان، يجب أن يترك لله سبحانه ليكون الحكم له وحده يوم القيامة. ويستدل على بذلك بقوله تعالى: (إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء قدير(. "وفي مقابل وحدة الدين تختلف الشرائع، فكل جماعة دينية جعل الله (شرعة ومنهاجاً) وكانت المشيئة الإلهية قد اقتضت ألا يكون الناس أمة واحدة. الأمر الذي يقتضي أن يعمل اليهود بشريعتهم، ويعمل النصارى بشريعتهم، ويعمل المسلمون بشريعتهم. على هدى من هذه المبادئ القرآنية ينتج ابن عربي خطابه"(3). ومن تجليات النزعة الإنسانية لدى الرومانتيكيين والمتصوفة اتخاذ الجمال البشري رمزا إلى جمال الخالق. فهم يتخذون من الحب وجمال الأنثى معراجاً إلى التأمل الفلسفي في جمال الكون، وسر الوجود الأعظم، ووسيلة لتحقيق السلام الداخلي وإشباع الشبق الروحي إلى الوحدة والانسجام النفسي. لذلك تبدو أشعارهم في ظاهرها قصائد غزلية ولكن في حقيقتها تعبيراً عن مواجدهم ومشاهداتهم العرفانية. يقول الشاعر الصوفي العرفاني عبد الغني النابلسي:
لا تلمني يا عذولي في هوى الغيد الحسان إن ديني واعتقادي بالذي خــلف الجيــــــــوب
ويقول الشيخ عبد الرحيم البرعي (اليمني):
أُغالطُ عن سلمى بسُعدى تنصلاً ولبنى وما قصدي سعادٌ ولا لبنى
وبهذا النهج أخذ التجاني، فالقصيدة عنده تبدأ غزلية وتنتهي إلى تأملات في جمال الخالق والكون وأسراره ومن ذلك مثلاً قوله في مطلع قصيدة (كنائس ومساجد):
درج الحسنُ في مواكب عيسى مدرجَ الحبِّ في مساجد أحمد
وقصيدة (زهى الحسن) التي يقول فيها:
آمنتُ بالحسنِ بــــرداً وبالصـــــــــــبابــــةِ نــــــــارا وبالكنيســــــــــةِ عــــقــــداً منضداً من عــــــــــذارى وبالمســــــيحِ ومــــــن طافَ حــــوله واستجــــارا إيمانَ من يعبد الحسـنَ في عيونِ النصارى
حاشية: المقال من فصل، التجاني يوسف بشير، بكتابنا (الشعر السوداني: من مدرسة الإحياء إلى قصيدة النثر)2020.
الهوامش والمراجع: 1- أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، دار القلم للنشر، بيروت، الطبعة الثالثة (بدون تاريخ) الجزء الثاني، ص 247 2- أبو حامد الغزالي، مشكاة الأنوار، شرح وتحقيق الشيخ عبد العزيز عز الدين السيروان، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، 152،153 3- نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، المركز العربي الحديث، الطبعة الأولى، ص 247-249