قصيدة النثر في السودان: عاطف خيري نموذجاً عبد المنعم عجب الفَيا
إذا كانت القصيدة العربية الكلاسيكية تقوم على نظام وحدة البيت، فإن قصيدة الحداثة الأولى العربية تقوم على وحدة التفعيلة. فشعر التفعيلة شعر موزون يلتزم بقواعد العروض الخليلية في بحوره المختلفة. كل ما هناك أنه حدث تمرد على وحدة البيت وذلك بالتخلص من نظام الشطرين والكتابة على نظام الشطر الواحد على نسق الشعر الأوربي، مع التزام الشاعر بوحدة التفعيلة الخاصة بالبحر الذي ينظم فيه. فعوضاً عن توزيع تفاعيل البحر المعين على شطرين متساويين، كما في القصيدة التقليدية، يعمد الشاعر بكل حرية، إلى توزيع تفاعيل البيت على سطور متساوية أو غير متساوية. أما القافية فلم تعد ملزمة فقد تأتي في نهاية كل سطر أو أكثر وقد لا تأتي الا بعد عدة سطور وقد تتنوع في المقطع الواحد أو بعد كل مقطع. وهكذا إذا كانت قصيدة التفعيلة قد التزمت بأوزان الشعر التقليدية لكنها عمدت إلى تفتيت وحدة البيت، فإن قصيدة النثر، لا تلتزم بالأوزان المعروفة ولا بنظام القافية التقليدي، فهي كتابة نثرية حرة تطمح أن تتجسد في شكل قصيدة مستفيدة من خواص الشعر الأخرى من موسيقى الألفاظ وموسيقى الأفكار والمعاني ومن التناظر والمقابلات بين المعاني والصور والأخيلة والرؤى. هذا، وتعود بدايات قصيدة النثر في السودان في تقديرنا إلى سبعينيات القرن العشرين. واستطيع القول إن محمد المهدي المجذوب، (وأرجو أن أكون مصيبا في ذلك) أول شاعر سوداني يكتب (قصيدة نثر) بكامل عناصرها وجمالياتها وفي أسمى صورها التي تكتب بها الآن عند الشعراء المجيدين لهذا الضرب من الكتابة الشعرية. وأعني بذلك قصيدته (الزعيم) المنشورة بديوانه (الشرافة والهجرة) الصادر في 1972. وللمجذوب قصيدة طويلة بديوان صغير نشر بعد وفاته، وهو ديوان (شحاذ في الخرطوم) 1984 خرج في نظمه عن الأوزان الخليلية والقافية، فجاءت القصيدة، كتابة نثرية بنفَس شعري لكن يتعذر علينا تصنيفها بصفتها قصيدة نثر، وذلك لافتقارها لخصائص قصيدة النثر في نظرنا. ومن التجارب التي يجدر التنويه بها، تجربة الشاعر، التجاني سعيد، الذي أصدر في أواخر السبعينيات (أم أول الثمنينات؟) ديوانا صغيرا بعنوان (قصائد برمائية) جاء كله على نسق "الشعر المنثور". كذلك حوى ديوان محمد عبد الحي (حديقة الورد الأخيرة) 1984 عدداً من القصائد النثرية. غير أن عقد التسعينيات من القرن الماضي قد شهد بداية ازدهار قصيدة النثر في السودان، حتى صارت لها الغلبة مع نهاية العشرية الأولى من الألفية الثالثة، في إنتاج الشعراء الشباب في السودان. ويأتي على رأس شعراء قصيدة النثر السودانية الذين سجلوا حضورا منذ التسعينيات الشاعر الفذ عاطف خيري، فهو عبقرية شعرية فذة، ومن أعظم من أنجبتهم هذه الأرض الطيبة (أرض الشعر والممكن) من الشعراء. عُرف عاطف خيري واشتهر بفرادته الشعرية، منذ صدور ديوانه الأول (سيناريو اليابسة) في 1996. ومما ساهم في لفت الأنظار إلى شاعريته، اختيار المغني (الطليعي) مصطفى سيد أحمد، بعض قصائد الديوان ليشدو بها، منها: اقتراح، وشهيق. ومسبوقا بهذه الشهرة الواسعة أصدر عاطف خيري ديوانه الثاني (الظنون) في سنة 1998. وإذا كان الشاعر قد وظف لغة الكلام على الطريقة السودانية في كتابة قصائد (سيناريو اليابسة)، فإن ديوانه (الظنون) جاء كله باللغة الفصحى الخالصة، وهو يقف، عندي، في مقدمة التجارب الشعرية، في قصيدة النثر المعاصرة، على المستويين السوداني والعربي.
عاطف خيري وديوان الظنون: يتألف ديوان (الظنون) من عدة فصول (إذا جاز لنا أن نسميها كذلك) كل فصل يشتمل على مجموعة من النصوص يحمل كل منها عنواناً. أول فصل من فصول الديوان يحمل عنوان: (كتاب الحَنان - نحو ابن حزم الأندلسي، صاحب طوق الحمامة). إن الشاعر الحداثي عندما يستدعي نص ما، فهو لا يهدف من وراء ذلك إلى تكرار ذلك النص بالضرورة وتأكيد ما يقوله، وإنما يطمح إلى إقامة حوار معه، أو إلى توظيفه وإعادة إنتاجه ربما برؤية مختلفة قد تنتهي به إلى التجاوز والمفارقة. غير أن عاطف خيري لا يهدف إلى شئ من ذلك عند استحضاره لنص ابن حزم. فهو لا يهدف إلى التناصص مع ابن حزم وإنما يهدف إلى إنتاج نص موازٍ وغرضه من استدعاء نص ابن حزم (طوق الحمامة) هو جعله إطاراً أو خلفية فقط تضىء ذاكرة القارئ الجمالية. لذلك يلزمنا قبل الدخول في قراءة نص (كتاب الحنان) أن نتوقف لإضاءة الدلالة الرمزية لعنوان كتاب ابن حزم (طوق الحمامة) والذي أراده الشاعر أن يشكل الخلفية الجمالية لقراءة نصه. وموضوع كتاب ابن حزم (طوق الحمامة: في الأُلفة والأُلّاف) هو الحب: بداياته وعلاماته وأحواله وأطواره ووصاله وهجرانه إلخ. ومع أنه موضوع مباشر وعالجه المؤلف معالجة مباشرة وبلغة حرفية تقريرية إلا أنه اختار للكتاب عنواناً رمزياً يكتنز بالدلالات والإشارات اللطيفة على موضوعه. وقد أفاد ابن حزم من رمز (الحمامة) في التراث والشعر العربي وفي القصص الديني والمثيولوجيا ووظفه ليرمز به إلى موضوع كتابه. فقد كانت العرب تكني بالحمامة عن المرأة. وفي ذلك يقول معجم لسان العرب: "والحَمامَة: المرأة". وفي رمزية الحمامة يقول عبد الله الطيب بكتابه (المرشد إلى فهم أشعار العرب) تحت عنوان جانبي: (الحمامة والحنين) وفي سياق ليس فيه أي ذكر لكتاب ابن حزم، يقول: "الحمامة من رموز الشوق والحنين. ورمزية الحمامة في الشعر العربي متعددة الجوانب كثيرة الأصول والفروع. ذلك بأن الحمامة رمز للمأوى، ورمز للوِرد، ورمز للنظر ورمز للخصوبة والأنوثة والوداعة، ثم هي رمز للحزن والشوق والصبابة والبكاء ثم هي رمز للإلفة للمشهور من تآلف الحمام". (انظر: المرشد،،ج3، ص152 ) ورمزية الحمامة في الثقافة السودانية وفن الغناء السوداني بخاصة شديدة الرسوخ. وفي ذلك يقول عبد الله الطيب في ذات السياق: "والرقص التقليدي في أعراس السودان تقلد فيه الفتيات مذهب الحمامة من الزَّيفان بالصدر والقطف في الخطأ. وقد تقول المغنيات للراقصة (عومي يا الوزين) أي يا أوزة، المراد صفة الحركة الرشيقة. ورقص الفتيان عندنا يحاكون به بخترية الصقور ووثبها وفحولتها ويسمى (الصقرية) نسبة إلى الصقر، وقد يستعينون فيه بالتلاعب بالعصي والسيوف. وعلاقة ما بين الحمامة والصقر من قديم ما غرِيَ به الشعر العربي في الجاهلية والإسلام". انتهى. وقصيدة (رقصة الحمامة) للشاعر الضخم، محمد المهدي المجذوب، أفضل ما يضيء حديث عبد الله الطيب. ومما جاء فيها قول الشاعر:
وتهــادى الحمامُ في دارةِ العُـــــرْسِ ورَجْعُ الغـناءِ باحَ ورَنّـــا وابتراقُ النّضارِ في الشَّعَرِ المضفورِ برقُ الخريفِ شالَ وضنّا طهّــرتنــا السـياطُ والــــدّمُ قـربانٌ ولــم نبــــغِ أجـــــــرَهُ حــــيـنَ دِنّــا أنا فـي حـبِّهـــا الغنيُّ عـــــن الأَيامِ إنْســـــاً إذا غـــــــدرنَ وجِـــــنّــا
وفي العصر الحديث اتخذت الحركات الثورية وحركات التحرر الوطني، الحمامة وهي تحمل في فمها غصن الزيتون، شعارا للسلام. وهذا الرمز ذو خلفية دينية وميثولوجية، فهو مستوحى من الدور الذي لعبته الحمامة في قصة طوفان النبي نوح الشهيرة. فقد أرسل النبي نوح، وهو في السفينة، الحمامة للبحث عن مكان يابس ليرسوا عليه، فعادت في المساء وفي فمها غصن زيتون دلالة على أن الطوفان قد انجلى وأنهم وصلوا بر السلامة. واتخاذ الحمامة رمزاً للحب يضفي على الطوق الذي يزين جيد الحمامة رمزية هو الآخر تتعدي مجرد كونه حلية وزينة ويحوله إلى قيد للمحب. ومن معاني الطوق القِلادة ومنها قلد يتقلد العِقد وغيره. وتطويق الشئ حصره وتقييده، وبذا يرمز الطوق إلى القيد، والحب قيدٌ وأي قيد. وقد كان شاعرنا عاطف خيري واعياً تمام الوعي بالطاقة الايحائية والدلالات الدينية والروحية لرمزية الحمامة إذ يقول في نص (كتاب الحنان):
وللطيور في حنانها مسلكٌ فريد، هي صورتُه في الفضاء، وشكلُه الذي ارتضاه حين يحِنُّ إلى التحليق. إذ أن الطير حاذق وله من البصيرة ما للأنبياء، والطيورُ في رحلةٍ من الحنان لا تنقطع، ومن أراد رؤيةَ الحنان لبرهةٍ، انتظر حتى يقع عصفورٌ في شركٍ، فأسرع ونظرَ عينيه.
قوله: "الطير حاذق وله من البصيرة ما للأنبياء"، يستدعي بعداً آخر عميقاً من رمزية الحمامة وهو كونها رمزاً للروح. ففي المسيحية ترمز الحمامة إلى (الروح القدس) أي روح الله بالمفهوم المسيحي للروح. فقد جاء بإنجيل متى ومرقس ولوقا: إن يسوع المسيح عند تعميده خرج من الماء فإذا بالسموات تنفتح له ورأى روح الله نازلاً مقبلا نحوه في شكل حمامة". وشعار المسيحية الأعظم "الله محبة". ومثلما آثر ابن حزم أن يكني ولا يصرح بالحب في عنوان كتابه (ربما صوناً لقدسية الكلمة)، كذلك فضل شاعرنا عاطف خيري هو الآخر ألا يصرح بكلمة حب في نصه، واختار مفردة أخرى تؤدي معنى الحب وتفيض عليه وهي مفردة (الحنان). فالحنان أشمل من الحب وأبقى، فهو يشمل حب المعشوق وحب الأم والأب والأخ والأخت والصديق، وحب الإنسان لأخيه الانسان وحبه لسائر المخلوقات. وفي إيماءة لاستخدامه الحَنان والحِن معادلا للحب يقول خيري بـ(كتاب الحنان):
أول الحنان حاءٌ ونون. الحاءُ عندي حرفٌ متطرفٌ من حروف الألم، هو صوته الذي لا يكذب، عكس الهاء التي تدعي صلتها بالألم والتأوه لكنها تذهب لتدخل في صوت الضحك أيضاً.
والحنان والحِنّ ومشتقاتها، مفردات أثيرة وحميمة في الثقافة واللهجة السودانية العربية. والمحنة عندهم المحبة، والحِنيِّن: الحِبيِّب (تصغير) حبيب، تقال تمليحا واستلطافاً ومحنةً. وحتى في علاقتهم بربهم، دعاؤهم الأثير: يا حنّان يا منّان، تحنن علينا. فمن معاني الحنان العطف والرحمة والمودة. ومن لوزام الحنان والحِن، الشوق والحنين، شوق المحب لمحبوبه وولده ووطنه وأصدقائه. يقول لسان العرب: "الحَنان: حنَّ عليه يحنُّ حَناناً، الرحمة والعطف. قال تعالى: (وآتيناه الحكم صبياً وحَناناً من لدنا). والحنين: الشوق وتوقان النفس، حَنَّ إليه يحِنُّ حنيناً فهو حانٌّ. وحنت الإبل: نزعت إلى أوطانها أو أولادها، وتحننت الناقة على ولدها: تعطفت. وأصل الحنين ترجيع الناقة صوتها إثر ولدها. وكذلك الشاة والحمامة والرجل. ويقال: حَنّ عليه أي عطف. وحَنّ إليه أي نزع إليه". انتهى. وفي إشارة إلى هذا المفهوم الشامل للحنان، يقول عاطف خيري في (كتاب الحنان):
والحنان الذي نعنيه هنا ذلك الدَّفقُ الابتدائي النقي، عندما يجاهدُ الطينُ لأن يغدو نارا، والنارُ لأن تغدو طينا. ذلك الحنان الغريب، غير مدعٍ ولا مبتذل، هو عند الأنثى يمنحها قدرةَ الاحتراق والوصول وكشفَ سُدفَ الغيب والنظر إلى ما بعد الظاهر، بل يجعلها حاذقة في حَبْك الحِيَل وسُبل الامتلاك وورود بئر مَنْ تُحب، لأن الحنان عندها يبدأ مهرجاً وشيطانيا، إلى أنْ يبلغ رشدَه ويتوب إذا ما غدتْ أمّا، والحنان لدى الأمِ مشهودٌ ومعلوم وهو بابٌ أفضى بها إلى الجنة.
إن من أهم خواص قصيدة النثر أن بلاغتها بلاغة بكر، بمعنى أن الصورة الشعرية فيها لا تنسج على نموذج سابق أو مماثل في الواقع، وإنما تأتي بنت لحظتها وتأخذ دلالتها من عالم النص وشبكة علاقته الداخلية. يقول عاطف خيري بنص (كتاب الحنان):
في منزلِ السِّر.. هنا، بالقرب من لوحة له لم تتم، خلفَ شجرٍ رعاياه من كتمان وتمتمة وسكوت، بين أقاليم وقته: لا صباحَ لا مساء، جلستْ الصبية تتنفس أنوثتها وتحصي أوجاع فستانها. في منزل السر هنا، طرقٌ على الباب .. لا يفتح أحد.. والنوافذ في شُغْلٍ عن الهواء.
انظر إلى قوله: تتنفس أنوثتها، وتحصي أوجاع فستانها.. والنوافذ في شغل عن الهواء، كلها تعابير طريفة مفارقة غير مسبوقة. و"المفارقة" paradox هي العمود الفقري لبلاغة قصيدة النثر التي تكتب الآن. وهي تنطوي على المباغتة وكسر التوقع. فالصور الشعرية لقصيدة النثر تأـتي مباغتة وذاهلة لمفارقتها لمخزون الذاكرة الجمالية المألوفة. والمفارقة بهذا المفهوم، أداة من الأدوات البلاغية لـ"نزع الإلفة" defamiliarization التي طالب بها شعراء ونقاد (الشكلانية الروس) في عشرينات القرن الماضي. ونزع الإلفة تعميقاً وإثراء لتذوقنا الجمالي، تعد أهم الخصائص الأسلوبية التي تميز القصيدة عند عاطف خيري. يقول بقصيدة (أغنية أول الليل) بديوان (الظنون):
أول الليل يدخلُ العارفون جبةَ الصحو في معتقلات الكأس تكذّبُ الحقيقةُ على أهلها، تلفحُ ثوبَ أمها، تهرعُ لموعدٍ في زقاقِ الجنونْ.
انظر إلى الصورة المباغتة في قوله: "الحقيقة تلفح ثوب أمها". فهي لا تأخذ بلاغتها من نموذج سابق. فالبلاغة القديمة، ليس في العربية وحسب، بل في كل لغات العالم، تنهض على مقاربة التشبيه ومناسبة الاستعارة، بمعنى يجب أن يكون وجه الشبه بين المشبه والمشبه به، قريبا جداً، ويجب أن تكون هنالك مناسبة بين المستعار منه والمستعار إليه. وفي هذه الصورة لا يوجد وجه شبه بين "الحقيقة" والبنت التي "تلفح" ثوب أمها، دعك من أن تكون هناك مقاربة في التشبيه، أو مناسبة في الاستعارة. من هنا تأتي مباغة الصورة للقارىء لتربك حساباته البلاغية المألوفة. وقد لعبت كلمة "تلفح" دورا مركزياً في خلق المباغتة وإثارة الدهشة البلاغية. فالكلمة تضج بالحركة الدرامية المخاتلة. وصورة البنت هنا مستوحاة من العادات الشعبية السودانية حيث أن الفتاة في مقتبل عمرها، وقبل أن يكون لها زيّها الخاص، كثيرا ما تستعير ثياب أمها للخروج. و"تلفح" كلمة عربية، ولكنها تعني مجازياً، في اللهجة السودانية، الخطف أو الأخذ خلسة وعلى عجل. فالفتاة تباغت أمها لتخطف ثوبها وتخرج به خلسة وعلى عجل لشأن يخصها. وتوظيف مفردات اللهجة ولغة الكلام من أبرز ميزات قصيدة النثر عند شعرائنا، وهي خاصية حسنة ومستحبة، بشرط أن تأتي عفو الخاطر. ثم تأمل المقابلة أو التناظر contrast بين كلمة "الحقيقة" وكلمة "الجنون". وهذه المقابلة أنتجت مفارقة بلاغية خلقت توترا جمالياً لدى القارىء. ولا يخفى أن الغرض البلاغي من هذه الصورة "نزع الإلفة" ونقد مفهوم الحقيقة السائد. وينسحب هذا الغرض البلاغي على بقية صور القصيدة:
أول الليل أخرج من سوء ظني إلى ظنّ جاري أصرخُ: مَنْ لفقَ لنا هذه الذكريات وكل ما بيننا، قطةُ تعدو بذات الجدار الخؤونْ
أول الليل تردُ البيوت سلاماً قديما عليك الملاءة هاك الوسادة ارح مرفقيك ولؤمٌ يفك رباط الحذاء وضحكٌ ينظفُ فانوسَ قلبك
أول الليل تسهر الشمس حتى الصباح.
ومن خواص قصيدة النثر التقاط الشاعر أشياء عادية وتفاصيل دقيقة من الحياة اليومية ليخلق بها صورا ويقيم بينها علائق لا تخطر على البال في الواقع. فإذا نظرنا إلى هذه الصور الشعرية بمعايير البلاغة التقليدية، سوف لن نظفر منها بشيء. فهذه الصور لم تُنسج على نموذج بلاغي سابق، في الذاكرة الجماعية الموروثة، وإنما تجترج بلاغتها كفاحا من عالم القصيدة. يقول في فصل (كتاب الحنان):
لمَنْ كنتِ تُطرّزين ذلك الهدوء تحتَ أي ظلٍ قمتِ بإعدادِ قهوتك والنار! النارُ ستحرق أطرافَ نارِك. ....... تبتسمُ رئةُ الهواء إذ تزفرين أرق البارحة. كلُّ شىء معدٌّ لاستقبال ما علقَ بأهدابِ حذائك وأنتِ تمشين بحذر على بساطِ الارتباك.
قوله: "والنار! النارُ ستحرق أطرافَ نارِك". النار الأولى (مكررة) والنار الثانية (نارك) فيهما جناس تام: اتحاد في النطق واختلاف في المعاني. النار الأولى، هي النار الحقيقية، والنار الثانية نار جمالها الفتّان، أي "نارُ فتنتك". وأما الهدوء فشىءٌ ينسج كما القماش. والهواء رئة تبتسم، والزفير يتحول إلى أرق، والحذاء له أهداب، وللارتباك بساط يُمشى عليه. وفي كل ذلك ليس هناك علاقة مشابهة أو قرينة محسوسة تجمع بين هذه الصور ولابد من البحث عن جامع أو رابط آخر غير العلاقة الحسية المباشرة، التشبيه والاستعارة، بين هذه الصور الشعرية، وهذا الجامع، جامع نفسي لا حسي. ومن جماليات قصيدة النثر، هي أنها قصيدة "رؤيا"، بمعنى أن الشاعر يطلق العنان لعقله الباطن أو لاشعوره فتأتي صوره الشعرية، أشبه بلغة الحُلم، وهي لغة لا يبدو من حيث الظاهر أنه يحكمها ترابط منطقي، ولكنها في الحقيقة شديدة الترابط والتماسك والتوالد والترميز. في نص (إفك الأصابع) تحت عنوان (كيف؟) يقول عاطف خيري:
ينتعلُ روحَه تؤلمه ذاتُ الحصاة: كيفَ ضيّعتَ أشعارَك الأولى والصبيةَ التي إذ تراك يسقطُ القلبُ في شفتيها في ذاتِ الرعشة في زريبة أبيها تركلُ بقرةٌ إناءَ اللبنْ .... ... آهٍ، أيتها الأصابع المدربةْ!
هذا مشهد رؤيا بامتياز، فهو مرسوم بذات الترميز الذي تنقش به لغة الحلم، وله منطقه الخاص القابل للتأويل كما هي لغة الحلم والرؤيا. يقول الشاعر هناك حصاة في روحه تؤلمه (إشارة إلى وخز الضمير) كلما تذكر أنه تسبب في إضاعة أشعاره الأولى (أحلامه) وإضاعة تلك الفتاة التي أخلصت له الحب. ووضعه نقطتين فوق بعض، بعد كلمة "حصاة:" يعني أنه ما سوف يلي، هو تفسير لدلالة هذه الحصاة التي تسبب له الألم. وعبارة "ينتعل روحه" القصد منها تجسيد المعنى بصورة شعرية حسية ترمز للمعاناة الداخلية. فالإنسان يعوقه السير إذا كانت هناك حصاة في نعله، كذلك روح الشاعر تعوقها هذه الذكريات الواخزة، عن الانطلاق. ولا يكتفي الشاعر بذلك، بل يشبه إضاعته أحلامه وأشعاره وتلك الفتاة، بحال من أضاع اللبن الطازج، وذلك بقوله: "في زريبة أبيها تركل بقرةٌ إناء اللبن"، في إشارة إلى ضياع الفرص المؤاتية. وهنا يستدعي الشاعر، المثل العربي القديم: "في الصيف ضيعت اللبن"، ويختلف الضمير، في المثل، وفقا لاختلاف نوع المخاطب. ويضرب المثل لمن يطلب شيئاً قد فوَّته على نفسه. تأمل المقابلة بين السقوط والركل، في قول الشاعر: "يسقط القلب في شفتيها" وقوله: "تركلُ بقرةٌ إناء اللبن". كذلك انظر التناظر والتقابل، بين كلمة "الرعشة" وعبارة "الأصابع المدربة"، وهنا مفارقة جمالية، فالأيدي مدربة جيدا في الإمساك باللحظة والفرص المواتية، ومع ذلك ترتعش، كنايةً عن الافراط في الحرص على الشىء، فتضيعه. وهذه المقابلات والتناظرات بين الصور الشعرية، هي التي تولد ما يسمى بموسيقى الأفكار في القصيدة. هذا، وترتبط لغة الحلم أو الرؤيا، ارتباطاً وثيقاً بالتداعي الحر، أو ما يطلق عليهStream of Consciousness أي تقنية "تيار الوعي" حيث يتشابك الواقع باللاواقع "السيريالي" وتتداخل الصور وتتقاطع في تموجات سريعة وانتقالات مفاجئة لحركة الذهن والمخيلة. ومراد تقنية "تيار الوعي" أو التداعي الحر، في الكتابة الإبداعية، كما يقول معاوية نور "تناول التفاعلات الداخلية في عملية الاحساس والتفكير عند شخص من الأشخاص، وربط كل ذلك بموسيقى الروح واتجاه الوعي. وهو يعرض لذلك الجانب الغامض في تسلسل الاحساسات واضطراب الميول والأفكار وتضادها في لحظة واحدة من الزمان عند شخص واحد من الأشخاص. كما أنه يصور ما يثيره شىء تافه من ملابسات الحياة في عملية الوعي وتداعي الخواطر، وقفز الخيال، وتموجات الصور الفكرية". يقول الشاعر في قصيدة (الجلوس) بالديوان نفسه:
إذن، كيفَ تمضي الظهيرةُ دونَ أنْ يجلس رجلٌ ما في مكانٍ ما يتفقّدُ سمكةً في نهرِ غربتِه وما تبقَّى من سيئاتْ بالجلوس على شوكةٍ، تجلسُ عاطلةً ناصيةَ الحقل الحقلُ جالسٌ في ذاتِ خضرتِه الأخضرُ لونُ الجلوس يهمسُ في أُذنِ جارِه بأفحشِ الألوانْ.
هكذا تأتي الصور والمشاهد بلا ترابط منطقي ينتظمها، ليس بمنطق لغة الخطاب العادي وحسب، بل حتى بمنطق لغة المجاز القائم على المقاربة في التشبيه والمناسبة في الاستعارة. وحسب القارىء من تذوق النص، هذا التوهج، وهذه الومضات والانتقالات الخاطفة، التي تثير في نفسه الدهشة والحيرة والنشوة الغامضة. وعلى ذات المنوال يقول الشاعر في ذات القصيدة:
وأنتِ تحلِّقين للنهوض صَدرَّ في طبعتِه الشعبية أقرأُ الآنَ الحليبَ، يُمْتحنُ أقمشةً ما أنزلَّ القطنُ بها من كتمانْ جالساً قارعة السرير، والهواءُ يُطْعِمُ من بوخِك صغارَه في عُشِّ الرئة.
انظر كيف استدعت كلمة حليب، كلمة قُطن، لجامع البياض في كلٍ. والحليب هنا إشارة إلى الثدي/النهد. وانظر كيف استدعت قطن كلمة أقمشة التي استدعت بدورها كلمة كتمان، بمعنى ستر، كونها تستر الجسد، وهذه وظيفة الأقمشة والقطن. وتأمل المقابلة بين الهواء والرئة، وكيف صار الهواء طائرا "يطعم صغاره في عش الرئة". وهذه التقابلات وهذه التناظرات، كما سبقت الإشارة، هي التي تمنح قصيدة النثر (شعريتها)، ليس لأنها تنوب عن موسيقى الوزن والقافية، وحسب، بل لأنها ترفد الخيال الشعري بفتوحات وفضاءات جديدة لم يحلق فيها من قبل. كذلك يوظف الشاعر الاقتباس أو التناص في قوله: "ما أنزل القطن بها من كتمان"، كما لا يخفى تناصص الشاعر، على سبيل المفارقة، مع التعبير المأثور: "قارعة الطريق". في قوله: "جالساً قارعة السرير".
حاشية: المقال من فصل قصيدة النثر في السودان بكتابنا (الشعر السوداني: من مدرسة الإحياء إلى قصيدة النثر)، مدارات للنشر والتوزيع، الخرطوم، الطبعة الأولى 2020