أنت فينا حيٌ باق .. عمر شاع الدين في الخالدين

 


 

 

لم نوفه حقه فينا، حتى استوفت الأيام حقها فيه، ولمَّا يزل مكتنزًا لم يَفْرِغ كنز فهمه، ولمَّا نستحلب ضرع علمه، وهذا من جلافة الأيام أن أسرعت فيه، ومن كسل التلاميذ أن استمهلوا معه، ففاجأنا القدر ونحن بين حرب وهرب فلم نودع، ولم نشيع، ولم نتربص المأتم، فما حيلتنا فيه نقدمها لمعروفٍ لا يعد، وفراغٍ لا يسد، وثلمة تنتظر رتقًا مدى ما نحيا وما تُرأم، سوى دمعة حرَّى، ودعوة نجوى، وكلمة ذكرى، تذكر غيضًا من شمائله، ولمحًا من فضائله، فلعمري ما تسعه كلمات، ولعمري إن كانت للناس حضرة؛ لرأيتم هول الرجال بين محتبٍ بنعشه، وقائمٍ على قبره، ذاك باكٍ والهٍ، وهذا خاطبٍ فائهٍ، ولكن الله قدَّر.
كان عالمًا لغويًا ثبتًا، مقدمًا غير مدافع، يضعه د. عبد الله علي إبراهيم في ولعه بالعربية في الجيل العاقب للشيخ الطيب السراج والدكتور عبد الله الطيب، هو والأستاذ الأمين على بدوي، وقد أنصفه الدكتور.
ويأتي ولعه بتتبع عامية أهل السودان وتأثيلها بأمها الفصحى قديمًا من عهد غضارة الشباب، وهذا مشروعه الذي أنجزه باقتدار عزَّ نديده، وكان يحتاش عاميات العرب الأخرى، لا يتوقف على ما تضمنته معاجم الفصحى، فيقع هنا وهناك على تطابقات لعاميتنا في عامياتهم يتلقطها، وهذا منحىً مفيد سلكه في تحقيق هدفه رغم مشقته ووعورته، وكانت مكتبته تحوي كل معاجم عاميات بلدان العرب، وكانت له طريقته في تدوير اللفظة ليتقرأ أصلها ومنطلقها فيجزؤها ويقطعها ويقلّب في حروفها، ساعده في ذلك معرفته الواسعة بعاميات أهل السودان، شماله ووسطه وغربه الذي قضى فيه زهرة شبابه.
ولم يكن تقحمه للعامية بسبيل المستشرقين الذين كانوا يريدونها تحل محل الفصحى، بتًا لها بالقرآن، وقصدهم هذا مشهور، إنما كان يريد من وراء ذلك تفصيح العامية، وحزم الشعث، ونفي بعض تجنِّيات المتقولين بأصلها المحلي دون علم، وهنا لا ينفي العلامة دور اللغات المحلية في رفد عربية السودان، لكن على ألا يكون الأمر تخرصًا، أو تقحمًا من متخبطين.
وقد يرد كثيرًا من الكلمات التي ظن الناس أنها محلية إلى الفصحى، إحقاقا لحق، وهَزْمًا لمن يغالبون حتى الفصيح الصريح، وينزعونه نحو المحلية، مع علمية وتجرد في منهجه، وتجنٍ وتلاف في منهجهم، فنقض كثيرًا مما رده عون للغات السودانية، ورده إلى لغات أجنبية، أو الفصحى، ويعد عمله هذا من أهمّ نتاجاته –أي استدراكاته المنشورة على العلامة عون الشريف قاسم في قاموس اللهجة العامية السودانية- فقد صرف عون بعض ألفاظ عاميتنا إلى اللغات المحلية كما سبق، فردَّها شاع الدين إلى فصحاها ردَّا جميلًا، فلا يقرأ المرء قاموس عون إلا معتبطًا تنبيهات شاع الدين، يقيه من كثير مما زلَّ فيه عون، وإن كان في البلاد من يهتم باللغة لطور قاموس عون بإضافة تنبيهات شاع الدين عليه، وطرح ما التبس على عون، ليخرج لنا قاموسًا للعامية أقرب إلى الكمال.
وعامية السودان عنده (خزانة الفصيح، وأغنى العاميات العربية بالغريب) وهذا قول خبير، ولعل وفود أقوامٍ منهم إلى السودان قبل البعثة، وقبل أن تتسن لغاتهم بسنن القرشية سبب في ذلك، فافتراق لغاتهم معروف مشهور، فنجد استنطاء هذيل وسعد بن بكر والأزد وقيس ما تزال تنطق به بعض القبائل، ونجد الطمطمانية وربما نجد غير ذلك ، وله جولاته في عاميات العرب أيضًا، ومن ذاك ما استدركه على تيمور في معجمه الكبير، فقد استدرك عليه أكثر من 300 كلمة بتصويب أو إرجاع للفصحى مما ظنه تيمور أنه تركي.
وقد زاهت مؤلفاته الثلاثين، غير تلك التي وأدها الموت، ليأتي بذلك في طليعة العلماء السودانيين المكثرين، إكثارًا دون إخلال أو وهن أو تكرار، فكل كتاباته أُنُفٌ، تدلُّ على مكنة صاحبها واقتداره وابتداره.
والراحل انسرب إليه حب اللغة والتضلع فيها من والده محمد الحسن شاع الدين، فقد كان من علمائها وفصحائها، فانفتحت عيناه على مكتبة عامرة تملكها والده، وعلم وعشق للعربية.
كان الراحل أديبًا إلى جانب لغويته، له أسلوبه المميز في الكتابة، وطريقته في الترسل، كان له إحساس دافق بالكلمة، لا يضعها إلا بعد أن يقلبها حتى يرضى عنها، فلا تجدها قلقة، بل مطمئنة متوهطة، تجذب أختيها السابقة واللاحقة إليها بدفءٍ وحنان في جملتها، لها إبهارها، وكان له ولع بالأفعال المتعدية، يُكثر من استخدامها ما وسعته العبارة، وفي التعدية امتاع صوتي، لفتتني إليه كتاباته، فكتابته وزنٌ ورنةٌ ونظم وفهم، يحافظ عليه حريصًا.
وكانت له مع الشدياق صحبة وإعجاب والساق على الساق، فكلا الرجلين لغوي وأديب، وكان يكثر الحديث عنه، ولعل أكثر الناس جهل شاعريته المنثورة فما كان يطلع نتاجها على جمهور الناس، وقد أنشأ أكثر قصائد نثره في حومة الشباب، وكان جملةً من المواهب فهو رسَّامٌ، وخطاطٌ أيضًا، أما النقد فقد مَهَر فيه وقدَّم ونقد كثيرًا من المؤلفات الشعرية والأدبية، وكان نقده يرى فيه مواضع الجمال أكثر من رؤيته فيه مواضع القبح، فعينه أعجبت بالجمال تقع فيه وتتبعه، وفيه لطف وإعذار وإشاحة عن القبح، فإما أصرف بصره عنه، وإما ذكره بلطف خفي.
وتفضلاته عليَّ لا تحصى فهو الذي حملني إلى كتابة المقالة الأسبوعية أجلسني ذات مرة –وقد ستر عني غرضه - في مكتب مدير تحرير صحيفة اليوم التالي وألزمني أمامه بكتابة مقالةٍ أسبوعية، فكان أن التزمت المقالة الأسبوعية دهرًا، وكنت قبلها أكتب طلَّةً، لكني ضجرت من بعد من الالتزام، وعدتُ لدأبي القديم، إلَّا أن ما صنعته فيَّ هذه الفترة هو ما أقوم عليه اليوم، وما أفدت من شيخ من أشياخي إفادتي منه، فأنا صنيعه وما بلغت مس كعبه، وصنائعه من الرجال لا تحصى.
وكان حينما تحادثه في علمٍ يصغي إليك إصغاء التلميذ لأستاذه، حتى تحسب أنك تضيف إليه معرفةً جهلها، فلا تكلُّ أذناه تنصت، وعيناه تبرق نحوك في تحديق، ومحياه يبتهج لحديثك فتَشْجَع فتسترسل، حتى إذا ما استفرغت ما عندك ، بدا طربًا لما أفدته له كما يبدو، ثم يبدأ ينهمر علمًا بلطف وتحقق لا ينقطع حتى تحسب أنه لا يحسن شيئًا غير هذا لامتلائه منه حتى النضح، ثُم تدرك أن ما تفضلت به عليه لم يكن شيئًا، وما يُذكر له كتاب إلا ويحدثك عنه حديثًا يغنيك بعد عن قراءته، نعم يغنيك، لأنه حديث ناقد ومستوعب.
ومن أدبه كان لا يبادئ أحدًا بالسلام أو يبادله إلا واقفًا مهما صغر شأنه ، وقد كان هذا يزعجنا لكنها عادته لا يتركها حتى وهو واهنٌ مريض على الفراش، ومن كمال وداده أنَّ كلّ أصدقائه يحسب أنَّه صفيه، فقد صدق فيه اسمه الذي سماه به والده ولم يسر اسمًا، لكنه سار صفةً (صفي الدين)، فكلِّ الناس أصفياه، وهذا أفضل؛ فإنما تسمي الناس أبناءها تيمنًا بصفة المسمى أن تتمثله، وهذا ما حصل.
أما كرمه فلا أعرف له ضريبًا، فما كان يسمح لمرافقيه أو زملائه في الجامعة وغير الجامعة بالمساهمة في ثمن طعام أو شراب أبدًا، يتكفله كله وحده، حتى صار زملاؤه ينسربون إلى تناول الإفطار خفية دون اصطحابه، وكان راتبه شركة بينه وطلابه، ويفرح لنجاحهم فرحه بنجاحه.
لقد كمل فيه الجمال، جمال العلم، وجمال الخُلْق، وهيبة الخَلْق، وندى الكرم، وحماسة المروءة، وفيض العطف، وهكذا تمضي عظماؤنا لم يتبقَ منهم باقٍ، فقد ختم عمر شاع الدين مرحلة كان مثلًا فيها، وكان مقدمًا فيمن رحل، فقلَّ أن تتآلف كل تلكم الصفات لبشر.
اللهم إنَّه خدم قرآنك، وأحب عبدانك، فأجزه بإحسانه إحسانا، وأنزله منزلًا حسنا مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

gasim1969@gmail.com
/////////////////////

 

آراء