هكذا رأيتهم يصنعون الحرب
المعز عوض احمدانه
29 October, 2023
29 October, 2023
بعد انقلاب الحركة الإسلامية في سنة 1989 على النظام الديمقراطي عملت بكل جهد لتمكين نفسها في مفاصل الدولة واحكام كامل سيطرتها على السودان، مع أنها كانت قد بدأت هذا المخطط منذ تحالفها مع الرئيس جعفر نميري، لكنها منذ انقلابها المشؤوم وجدت نفسها وقد امتلكت كل مفاتيح البلاد ثرواتها سلاحها أرضها ماءها وحتى بشرها، فحزمت أمرها على أن تعض على ما أوتيت من كنوز ومقدرات بالنواجذ والأضراس وحتى باللهاة إن دعت الضرورة لا تفرط فيها أبداً، لذلك كان شغلها الشاغل وهَمُّها الأكبر كيف لها أن تحافظ على هذه السلطة وعلى كعكتها وكيف لها أن تسدَّ كل الثغرات التي يمكن أَنْ تُؤتَى من ناحيتها.
لذلك ما تركوا شيئاً يُحَقِّقُ لهم هذا الهدف، وينجز لهم هذا المطمح الأسمى إلا وفعلوه، وعليه فليس ثمة شك في أنَّهم قد ركزوا تركيزهم كله في المؤسسات والأجهزة التي تمتلك السلاح والعتاد والقوة لبسط السيطرة عليها، حيث لن تتمكن هذه الحركة الشيطانية من امتلاك السودان، وامتلاك ثرواته ما لم تمتلك وتستحوذ تماماً على شوكة الدولة وعلى سلاحها، لذلك تغلغل تنظيمهم بقوة داخل كل هذه المؤسسات حتى أحكم سيطرته وهيمنته عليها تماماً، وما من فرد يعمل في مؤسسة من هذه المؤسسات إلا وقد تمت دراسة حالته بعناية فائقة، وحدثت عمليات تجريف هائلة، وفي النهاية لم يبق إلا الموالون الخُلَّص من أعضاء التنظيم، أو مَنْ كان مأمون الجانب.
ثم تَفَتَّقَتْ أذهان الشياطين عن تأسيس جيش جديد، أو بالأحرى مليشيا تتولى تنفيذ المهام القذرة التي يريدون اقترافها وتنفيذها، وبالفعل خرجت إلى الوجود قوات الدعم السريع، وهي من جانبها قد فاقت كل توقعاتهم في انجاز ما كان منوط بها، ففرحوا بها غاية الفرح، ونالت عندهم الحظوة الكبرى، ووجد قادتها الطريق سالكاً نحو أرقى الرتب العسكرية، وانفتحت أمامهم دنيا عريضة واسعة ما كانوا ليحلموا بها أو لتخطر لهم على بال.
ثم تمدَّد سلطانهم وقويت شوكتهم وتراكمت ثرواتهم لدرجة أذهلتهم هم أنفسهم دعك من غيرهم، لكن يبدو أنهم رغم ذلك قد طمعوا في المزيد، فدبَّ الخلاف بينهم وبين أولياء نعمتهم وأسباب جاههم ومَنْ صنعهم وأوجدهم من العدم، ومؤكد أنَّ هذا الخلاف كان مضروباً حوله سياج كثيف من السرية، فلم تنتشر أخباره ولم تفعم أجواءنا رائحته فتملأ صفحات اعلامنا، وإنَّما ظلَّ طي الكتمان لم يفشه أحد ولم يشعر بوجوده أحد، حتى جاءت ثورة ديسمبر 2018 فدلقت الكأس عن آخرها وأفشت المكتوم وفاحت الروائح، وذلك عندما لاذ الدعم السريع وقائده بالحياد، ولم ينخرط في قمع الثورة والثوار كما كان مأمولاً منه ومتوقعاً، ففاجأ الجميع بهذا الموقف، ثم لم يقف عند هذا الحد وإنَّما تقدم خطوة أخرى بعيداً عن رعاته وأولياء نعمته، فأعلن انحيازه التام إلى الثورة، ومُؤَكَّد أنَّ ذلك لم يكن لإيمانه المطلق بمبادئها، وبما تدعو إليه من قِيَمٍ ومُثُل، وإنما كان ذلك مغاضبة ومكايدة، أو لأسباب أخرى نجهلها لا تَمُتُّ بحالٍ إلى الانتقال الديمقراطي والحكم المدني بصلة.
وإزاء ذلك هل يتخيَّل أحد أن يترك التنظيم الشيطاني ابنه المُدلَّل يذهب مغاضباً بلا عودة، ومن ثَمَّ تنقطع الصلات بينه وبينه؟ هيهات، محال أن يحدث ذلك، لذا من المؤكد أنَّ مساعي الصلح ورأب الصدع وإزالة الخلاف كانت جارية على قدمٍ وساق، وكان لابدَّ من استرضاء قائد الدعم السريع، وكان لابدَّ من استعادته إلى حِجْرِهم، وأنْ يدخل مجدَّداً تحت عباءتهم وجناحهم، وبالفعل أثمرت هذه المساعي وكانت من ثمراتها فض الاعتصام مع الأخذ في الاعتبار أن الفظاعات التي تمَّ ارتكابها أثناء الفض قد تمَّت عن قصد وتعمُّد وعن سابق تخطيط وتدبير، حيث هَدَفَ التنظيم الشيطاني من اقترافها تحت زي وشعار الدعم السريع أن يقطع الطريق تماماً أمام ابنهم المُدلَّل، وأن يغلق في وجهه أي باب قد يقوده بعيداً عنهم، حيث كلما حدَّثته نفسه فيما بعد بالابتعاد والاستقلال كلما وجد الشعب مكشراً له عن أنيابه وعيونه تَقْدَحُ شَرَرَاً، فيجبره ذلك ويضطره لطرد أي أفكار وهواجس قد تغريه بالانفصال عنهم.
لكن هذا المخطط لم يَسِرْ وفقاً لهوى التنظيم الشيطاني وكما يُحبُّ ويشتهي، فقد اعتراه كثيرٌ من الفشل بسبب جموع الشعب السوداني الهادرة الثائرة التي فاضت بها الشوارع، والتي ازاءها وجد عسكرُ التنظيم الشيطاني ومعهم الابن المُدلَّل أنفسهم جميعاً مضطرين للإنحناء للعاصفة، وذلك ريثما تهدأ وتنطفي جذوتها، أما قائد مليشيا الدعم السريع فقد أخذ اللطمة على قفاه واستوعب الدرس تماماً لكنه بدلاً من أن يعود إلى بيت الطاعة سعى قصارى جهده لكي يفلت من قبضة التنظيم، فقام بمجهودات جبارة تهدف إلى غسل سمعته ولتحسين صورته، كما وقد عمل على شراء ذمم ناس كثيرين من زعماء القبائل والوجهاء والمؤثرين في مجتمعاتهم، لخلق حاضنة شعبية بديلة عن التنظيم الشيطاني، وكذلك عَمِلَ على كسب الحركات المسلحة إلى جانبه عبر اتفاق جوبا، وكل هذه الأعمال وغيرها تصب في اتجاه مساعيه الحثيثة للإفلات من براثن الشيطان، وفي المقابل كان التنظيم يواصل في تقديم مغرياته له ويفعل المستحيل من أجل إبقاء ابنه في دائرته وضمن حظيرته.
كما أنَّ التنظيم الشيطاني بدوره قد قام بأعمال ومجهودات كبيرةٍ جداً لتهيئة المسرح، لقلب الطاولة على الأحزاب المدنية التي تطمح لإقامة نظام مدني ديمقراطي، وبالفعل عندما بدا لهم أنَّ المسرح قد تَهَيَّأ، وأنَّ الظروف صارت مواتية انقلبوا على مشروع الثورة، ومُؤَكَّد أنَّهم جميعاً كانوا قد اتفقوا مُسْبَقَاً على أنصبة توزيع كعكة السلطة، لكن للمرة الثانية الشعب يخذلهم حيث لم يهدأ الشارع اطلاقاً، وكلما ولغوا في الدماء وأزهقوا من النفوس كلما اشتدَّ لهيب الثورة، وأصر الشعب على استكمال مشروع تحرره، فلم تتمكن عصابة العسكر والشيطان من خلفهم والجوقة التي سارت في ركابهم من تشكيل حكومة واكتفى البرهان بإصدار قرارات، أو بالإيعاز إلى جهات أخرى بإصدار قرارات بين فينة وأخرى، كانت تُعزِّزُ من موقع ومكانة التنظيم الشيطاني وتزيل ما كان قد علق به من قيود وتقييدات.
ومِنَ المهم جداً أَنْ يؤخذ في الاعتبار أَنَّ التنظيم الشيطاني عندما سقط البشير وجد نفسه أمام عقبتين كؤودين تحولان بشدَّة دون عودته إلى السلطة، رغم سيطرته على الجيش والأجهزة الأمنية والشرطة، وهاتان العقبتان الكؤودان هما عقبة الشارع السوداني الثائر الذي تقوده قوى الحرية والتغيير، وعقبة قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي، ولسنا هنا في معرض الحديث عن الأساليب التي اتبعها التنظيم الشيطاني للقضاء على العقبة الأولى، ولكن حديثنا الآن عن كيفية تعامله مع العقبة الثانية، وعن الأساليب التي قام بإتباعها للتخلُّص من عقبة حميدتي وقواته.
كان هناك خياران أو قُلْ طريقان متوازيان قد سلكهما التنظيم الشيطاني في تعامله مع حميدتي منذ اندلاع الثورة وسقوط البشير، حاولوا معه سياسة الاحتواء والإغراء لإعادة الأمور إلى سابق عهدها، فلم يحصلوا على شيء سوى أَنَّ حميدتي قد حَقَّقَ من هذه السياسة مزيداً من المكاسب والامتيازات، وأما في الطريق الآخر المتوازي فقد مارسوا معه سياسة الترهيب والكشف عن الأنياب، مع العلم أَنَّهم لو كان بيدهم أَنْ ينسفوا حميدتي وقواته ويعدموا وجودهم لفعلوا من أول يوم ولم يُبالوا، لكنَّهم كانوا يُدركون أنَّ تكلفة ذلك باهظة جداً، لذا كانوا فقط يتحيَّنون الفرص ويترقَّبون سانحة قد تسنح للانقضاض عليه، وقد كانت هناك محاولات عدة لكنها جميعها فشلت، وفي نفس التوقيت وفي تلك الأثناء ومن ناحية أخرى كانوا يتودَّدون إليه بشتى السبل ويسترضونه ويغرونه.
وطبعاً هذه السُبُل كلها كانت تَسْتَغِلُّ في حميدتي طمعه وشرهه المبالغ فيه للمزيد من السلطة والمال والجاه، وفي المقابل كانوا يرون أنَّ الرجل في أثناء الثورة وبعدها مباشرة قد اكتسب قبولاً ما لدى الشعب، فقد كانت هناك قطاعات عريضة منه قد حمدت له عدم مشاركته في قمع الثورة، وكذلك حمدت له مواقفه المناصرة التي ساهمت في نجاح الثورة بالإطاحة بالبشير وجوقته من سُدَّة الحكم، ومُؤَكَّد أنَّ أمراً كهذا وملاحظة كهذه ما كانت لتمر عند التنظيم الشيطاني مرور الكرام، فوجود شعبية لحميدتي لا شك أَنَّها ستكون عقبة أمام سعيهم الدؤوب للقضاء عليه، إما بالاحتواء أو بالإفناء.
وعليه لمعت في الأذهان فكرة فَضِّ الاعتصام، وقد تَمَّ اقناع البرهان أنَّهم قد اعتمدوه عندهم رئيساً للجمهورية خلفاً للبشير لكن حتى يتحقَّق ذلك من الضروري تنفيذ هذه المهمة، فلاقت هذه الفكرة هوى في نفسه، فهكذا سيحقِّق حلم والده وسيصير واقعاً حيَّاً، أما حميدتي فأقنعوه أَنَّه سيغدو نائباً لرئيس الجمهورية، وعلى ذلك تَحَلَّبَت الأفواه شوقاً لالتهام كعكة السلطة ولامتلاك السودان، وكان من جرَّاء ذلك أَنْ بَصَمَ الجميع وبشغف وحماس على وضع هذه الفكرة في موضع التنفيذ، فخطَّطوا وفكَّروا ودبَّروا وتآمروا ووزَّعوا المهام فيما بينهم، والكل كان يعمل بإخلاص وتفانٍ مستعجلين النتائج نحو الجوائز الثمينة التي وُعِدوا بها.
وفي الضفة الأخرى كان التنظيم الشيطاني يُخطِّط ويفكِّر ويدبِّر ويتآمر ويوزِّع المهام، فها هي فرصته الذهبية تلوح في الأفق لضرب خازوق من الوزن الثقيل في حميدتي وفي قواته، ولقطع الطريق أمام أي احتمال لتقارب بين العسكر وقوى الثورة المتمثلة يومها في قوى الحرية والتغيير، وطبعاً بلا شك كان بالإمكان فض الاعتصام بدون إراقة قطرة دم واحدة، وبالأخص أَنَّ التوقيت جاء في زمن كانت فيه أعداد المعتصمين أمام القيادة قليلة جداً فالوقت صباح والدنيا رمضان والأيام أيام استقبال للعيد، وعليه كان بالإمكان تفريقهم وبعثرتهم وطردهم من المكان فقط باستخدام العصي والهروات والغازات المسيلة للدموع، لكن لو كان الفَضُّ قد تَمَّ على هذا النحو لم يكن اطلاقاً لِيُحَقِّقَ أهداف التنظيم الشيطاني، كان لابُدَّ من أَنْ يكون الفَضُّ بطريقة تَكْوِي وجدان الشعب السوداني وتظلُّ محفورة في ذاكرته أبد الدهر، وقد كان.
لا شك أنَّ حميدتي وقواته طوال مسيرتهم وتاريخهم قد ارتكبوا جرائم وفظائع، فقد تَمَّت صناعة هذا الرجل أصلاً لهذا الغرض، لكنه ليس شيئاً من ناحية الخبث والمكر والدهاء مقارنة بمَنْ صنعه من دهاقنة التنظيم الشيطاني، ولأنَّه كان صاحب شَرَهٍ وطمع فقد استطاعوا بمهارة عالية توريطه في فَضِّ الاعتصام، وذلك لأجل حرقه تماماً، فلا شعبية بعدئذٍ ولا يحزنون، ولذلك في الوقت الذي كان فيه عساكر الدعم السريع يضربون المعتصمين بالعصي ويمتحنونهم بالسؤال: عسكرية أم مدنية؟ كما وَثَّقَتْ ذلك مقاطع الفيديو التي انتشرت، كانت كتائب التنظيم الشيطاني تقتل وتغتصب وترتكب الفظائع وهي في لباس الدعم السريع، وكما أسلفتُ في الأعلى أَنَّ الغرض والهدف الرئيس من ارتكاب هذه الجرائم الصادمة هي ضرب شعبية حميدتي التي كانت في صعود ضربة مميتة لا قيام لها بعدها، وكذلك للحيلولة دون استئناف المفاوضات والمحادثات التي كانت قد توقَّفت بين العسكر والقوى المدنية.
ولا أنفي اطلاقاً أَنْ تكون قوات الدعم السريع نفسها قد تورَّطت بغباء وشاركت في ارتكاب تلك الفظائع بدافع الحماس، فمثل هذه الأعمال ليست غريبة عنها، لكن فض الاعتصام على هذا النحو وبهذه الصورة البشعة لم يكن يُحقِّقُ لها أَيَّة فائدة، بل كان خصماً عليها، والمستفيد من دون شك كان هو التنظيم الشيطاني الذي قَصَدَ وهَدَفَ إلى نسف أي مقبولية للدعم السريع لدى الشعب، بالإضافة إلى قطع الطريق واغلاقها تماماً أمام أي احتمال للعودة للتفاوض بين العسكر والقوى المدنية.
وهكذا وكما أراد الأبالسة المجرمون فقد انتشرت فيديوهات لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى عن قوات الدعم السريع، وهي تجوس خلال خيام الاعتصام وتحرقها وتلهب ظهور المعتصمين بالسياط، وقد انتشرت كانتشار النار في الهشيم حتى رسخت في الأذهان أو كادت فكرة أنَّهم الوحيدين مَنْ تولوا عملية فضِّ الاعتصام، وتراجع الناس عن تسميتها بقوات الدعم السريع، وصار اسمها في الألسنة وفي القلوب قوات الجنجويد، وتعالت النداءات بحلها.
وعقب فضِّ الاعتصام بزغت شعبية كارهة ومبغضة جداً ومناهضة إلى حدٍّ بعيد لحميدتي ولقواته، وقد استغلها التنظيم الشيطاني ولم يُفَوِّتها وجعل يُرتِّبُ للانقضاض عليهم وافتراسهم ونسفهم من الوجود نسفاً، ومُؤَكَّد أَنَّ هذا الترتيب لو كان قد قُيِّضَ له أَنْ يتم كما خُطِّطَ له لكان قد وجد ترحيباً منقطع النظير من كل قطاعات الشعب ولكان مكسباً سياسياً كبيراً لمن قام به، لكن في المقابل حميدتي لم يكن سهلاً رغم سذاجته البادية للعيان، فقد قام بدوره بإجراء اتصالاته بقادة الحركات المسلحة جميعها ودعاهم لمفاوضات سلام، وعقد مع مَنْ استجاب له اتفاقاً سرياً غير ذلك الاتفاق المعلن الذي تَمَّ في جوبا.
نعم كان بين حميدتي وقادة الحركات المسلحة الدارفورية اتفاقاً سرياً، وكان غرضه الأساسي منه الاستقواء بهم وتقوية معسكره اذا اندلعت الحرب، فلا يكون لقمة سهلة الازدراد، وكان مدفوعاً إلى ذلك دفعاً، فالتنظيم الشيطاني لن يعتقه وهو لم يكن غافلاً عما يُحاك لأجل التهامه وازدراد قواته، ولذلك رغم كون اتفاق جوبا لم ينص على دخول قوات الحركات المسلحة إلى الخرطوم، لكنها أي الحركات المسلحة مع ذلك أدخلت جيوشاً جرارة وعتاداً ثقيلاً، ورأى الناس بأم أعينهم دخولها زرافاتٍ زرافات، ثم رأوا ارتكازاتها وقد توزَّعت على امتداد العاصمة الخرطوم.
وإزاء ذلك تراجع التنظيم الشيطاني عن فكرة تنفيذ خطة الإفناء التي كان يغذو خطاه نحوها ويندفع إليها بكل ما يملك، وإذا به يُظهر مجدَّداً اللِّين والملاطفة والتودُّد، وإذا به يتَّجِه نحو انتهاج سياسة الاحتواء، لكن هذه المرة برزت له عقبة جديدة وهي عقبة الحركات المسلحة التي صارت قواتها حاضرة في الخرطوم، وإذَنْ لابُدَّ من العمل على إضعاف ارتباطها بحميدتي وبقوات الدعم السريع، ولابُدَّ من ضرب أسافين في جسم ذلك التحالف الدارفوري الذي نشأ في أعقاب أو في عَشيَّات اتفاق جوبا.
ومنذ ذلك الوقت انطلقت الدعاية الممنهجة لإعلاء الخطاب العنصري ضد أهلنا في دارفور، وذلك لاستقطاب أهل الشمال والوسط والشرق ودفعهم للاصطفاف خلف التنظيم الشيطاني في مخططه لضرب التحالف الناشئ بين حميدتي والحركات المسلحة الدارفورية، وفي المقابل برزت هناك أصوات دارفورية عنصرية ضد أهلنا في الشمال، ولا أشك لحظة أنَّ كثيراً من هذه الأصوات هنا وهناك يقف خلفها ويدفع لها نفس التنظيم الشيطاني، فالاستقطاب العنصري صار هدف من أهدافه الرئيسة، وبالتالي عندما وجد بعض أعضاء التنظيم الشيطاني والمنتسبين له من أبناء دارفور أَنَّ إخوانهم في التنظيم قد انقلب خطابهم وصار عنصرياً اندفعوا هم بدورهم للاصطفاف ضدهم خلف أبناء اقليمهم.
وفي صعيدٍ آخر نجد أنَّ التنظيم الشيطاني ومن خلال طريق وسياسة الاحتواء قد استطاع أَنْ يُحْرِزَ اختراقات قوية في جسم التحالف الدارفوري، حيث استطاع أَنْ يستميل إلى خَطِّهِ كلاً من جبريل إبراهيم قائد قوات العدل والمساواة ومني أركو مناوي قائد حركة تحرير السودان، أما كيف حدث هذا وما الذي تَمَّ بينهم وجعل هذين القائدين الكبيرين ينحازان إليهم ويفارقان حليفهم فهذا علمه عند ربي؟ والمُؤَكَّد أنَّهما قد حصلا على كعكة كبيرة وعلى ضمانات للحصول على كعكات أكبر في المستقبل، والنتيجة أنَّهما قد ابتعدا عن حميدتي وتباعدت الشُّقَّة بينهم جداً.
ولكن قبل أَنْ يبتعدا عن حميدتي وتتباعد الشُّقَّة بينهم، كان التنظيم الشيطاني قد استطاع ونجح نجاحاً باهراً في اقناع كامل التحالف الدارفوري بما فيهم حميدتي، أَنْ يقلبوا الطاولة على قوى الحرية والتغيير، وأَنْ يُنَفِّذُوا جميعاً كعصابة واحدة انقلاباً ضد الوثيقة الدستورية ويستولوا على السلطة ويقتسموا كعكتها، فهؤلاء كلهم لا يعنيهم بتاتاً أَنْ تكون السلطة بيد الشعب بقدر ما يعنيهم أَنْ يستحوذوا على أكبر نصيب منها، وقد فعلوا فعلتهم وارتكبوا حماقتهم وكانوا يتوقَّعون رغم ذلك أَنْ تخرج جموع الشعب السوداني إلى الشوارع هادرة تأييداً لهم، لكن خاب توقُّعُهم، واشتعلت الشوارع ضدهم، وحاول التنظيم الشيطاني أن يتدارك الموقف، فعمل على قمع التظاهرات واستهداف المتظاهرين بالرصاص الحي وقنصهم، لكن فشلت كل محاولاته فشلاً ذريعاً، وبذلك ذهبت خطته أدراج الرياح، وهنا صار الجميع في حيص بيص.
ورغم اشتراك حميدتي في الانقلاب إلا أَنَّ ذلك لم يشفع له عند التنظيم الشيطاني ليبيِّض صحيفته تماماً عنده، فقد استمر الأبالسة في سعيهم وخططهم التي تهدف إلى تغييب حميدتي من المشهد، لذلك دَبَّتْ خلافات داخل معسكر الانقلاب، وحَدَثَ استقطاب حاد وجرت استمالات، ليجد حميدتي في النهاية نفسه وحيداً، حتى حلفاؤه من قادة الحركات المسلحة الموقِّعين على اتفاق جوبا قد خذلوه وانحازوا لصف التنظيم الشيطاني، وإزاء هذه الخلافات المستعرة والمُحْتَدِمَة جداً غادر حميدتي الخرطوم إلى دارفور، ومكث هناك مدة ليست بالقليلة، وجعل في كل خطبة يخطبها يجلد التنظيم الشيطاني بلا مواربة ولا مداراة، وهنا وضح تماماً أَنَّه قد أيقن بضرورة مفارقة هؤلاء الناس فراقاً لا رجعة منه، وقد عَلَّمَتْهُ التجربة ألا يأمل نهائياً بعودة المياه إلى مجاريها، فهم سيظلون يحفرون تحت أقدامه وليسوا بتاركيه حتى يهلك ويختفي.
بعد ذلك جعل حميدتي وهو بعيداً من الخرطوم يبحث جاهداً عن مخرج يُنْقِذُهُ من هذا المصير المُخَطَّطِ له، فهو قد وَعَى تماماً وأدرك بوضوح ما ينتظره، الشعب الثائر يَغْلِي غضباً منه، وحلفاؤه الأقوياء من قادة حركات دارفور قد خذلوه وتخلوا عن نصرته، والتنظيم الشيطاني يسعى جاهداً للقضاء عليه، وقادة الجيش رغم أَنَّهم يُداجونه ويُظْهِرُون له الود إلا أَنَّهُ حين يحين الحين لن يجدهم إلا في صف أعدائه، وهو على يقين من ذلك، وعلى يقين كذلك أَنَّ موعد هذا الحين يقترب، وهو على وشك أن يُطْبِقَ عليه، وإزاء هذا الوضع جعل يفكر ويفكر حتى هداه تفكيره إلى الالتجاء للشعب ببذل الجهد وتقديم كل ما يستطيعه ويملكه لكسب رضاء هذا الشعب، وذلك للنجاة بعنقه من الدق، وبنفسه من الهلاك.
هناك شعب قَدَّمَ كثيراً من التضحيات في سبيل إقامة دولة للعدل في بلاده ودولة مدنية ديمقراطية، ولا شك أَنَّ تَبَنِّي هذه الدعوة ستستميل إليه كثير من القلوب والأفئدة، وهناك الملايين من الشعب السوداني في الغرب وفي دارفور وفي الشرق وفي الجنوب وحتى في الوسط والشمال يشعرون بالتهميش داخل الدولة السودانية، وأَنَّ هناك طغام معينين من الناس هم الذين يستأثرون بكل شيء من سلطة وثروات دون باقي خلق الله السودانيين، وإذَنْ تَبَنِّي هذه القضية من طرف حميدتي سيجعله في نظر كل هؤلاء مَهْدِي زمانه الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد أَنْ مُلِئَتْ جُوراً، وبالتالي سيُمَكِّنُهُ هذا الموقف من وضع يده على خزانات بشرية هائلة لا تنفد أبداً، سترفد فيما بعد حربه بسيول هادرة لا يقف في وجهها شيء إذا قُدِّرَ لها أَنْ تندلع.
وطالما التنظيم الشيطاني لن يعتقه طال الزمان أم قصر، فليبحث هو لنفسه عن سبيلٍ للانعتاق منهم، وليقطع الأمل فيهم نهائياً، وليجتهد ما وسعه الجهد في استمالة قطاعات من الشعب لكي تصطف خلفه أو معه، ولذلك عندما رأت مبادرة نقابة المحامين النور سارع إلى تأييدها فوراً، وأعلن عن نفسه حامل لواء الديمقراطية في السودان، وأَنَّه على أَتَمِّ الاستعداد لِبَذْلِ الغالي والنفيس في سبيل إقامة نظام مدني ديمقراطي، ولقد أظهر حماساً شديداً للاتفاق الإطاري وتأييداً يشي بجدية بالغة نحوه، وإزاء مواقفه هذه الأخيرة المذهلة والتي تَصُبُّ في صالح ثورة التغيير لم يكن أمام البرهان إلا القبول على مَضَضٍ على هذا الاتفاق، وإلا سَيَظْهَر وسينكشف أمام الجميع أَنَّه عدو للثورة مناصر للنظام القديم، والبرهان دائماً كما عوَّدنا يُفَضِّلُ أَنْ يضرب ضرباته ويلدغ خصومه من خلف ستار.
فمن عادة سيادته أَنْ يفعل أفاعيله في الخفاء، ويرتكب ما شاء من جرائم وفظائع وموبقات، لكن إذا أتيحت له فرصة الظهور للعلن ومخاطبة الناس ظهر بوجهٍ تكسوه البراءة وكأنَّه أب الثورة وأمها وجدها وحاميها الأوحد، والناس ترى في الواقع منه أشياء، وتسمع في الخطب منه أشياء، وترى عياناً بياناً أَنَّ التنظيم الشيطاني قد صار يستعيد مواقعه، ويسترد قوته، وبدأ يُهدِّد ويتوعَّد ويصرِّح أَنْ لا أحد أكثر رجولة منهم، والبلد بلدهم وهم أسيادها، أما البرهان فكان أعمى وأصم عن هذا كله، فرئاسة الجمهورية عنده طريقها يمر عبر هذا التنظيم.
وأَمَّا ما يتعلَّق بشكل العلاقة بين الرجلين البرهان وحميدتي، فمن الضروري العلم أَنَّ وقتذاك كانت المياه على السطح تجري جريانها العادي الرتيب في هدوء وانسياب لا يُكَدِّرُهُ شيء، أَمَّا تحت السطح فقد كانت المراجل تغلي والبراكين تفور، وكان كلٌّ في ناحيته يجتهد ما وسعه الاجتهاد استعداداً للحرب، فالبرهان هو خليفة البشير لرئاسة السودان حسب نظر التنظيم الشيطاني أو حسب ما أوحوا به إليه، أما سيادته فلا يوجد مَنْ هو أكثر سعادة منه بذلك وفرحته بسعة الكون، أما حميدتي فشأنه مختلف جداً، فكان في ناحيته قد حزم أمره وعقد نيته وقرَّر قراراً لا رجعة عنه على الفراق والمفاصلة، أما التنظيم فلم تنقطع آماله فيه، ولم تتوقف مساعيه الحثيثة لاحتوائه ولإعادته إلى الحظيرة، ولا شك أنَّهم قد بذلوا له في سبيل ذلك ما بذلوا، وأغدقوا عليه ما أغدقوا، لكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح، حيث لم يتزحزح عن موقفه الرافض قيد أنملة، ولكنه في الوقت نفسه كان يشفط كل ما يصله منهم، وهو ثابت في مكانه لا يريم.
ولا أظنُّ أَنَّ موقف حميدتي المُتشدِّد والحاسم بقطع علاقته بالتنظيم الشيطاني عقب انقلاب 25 أكتوبر 2021 كان فقط بسبب خوفه منهم، كما لا أظنُّ أَنَّ اندفاع حميدتي نحو النظام المدني الديمقراطي كان بسبب إيمانه الراسخ بالمبادئ الديمقراطية، لكن سِرُّ هذا الموقف لا يزال في علم الغيب، وربما يأتي يوم تنكشف فيه كل الخبايا، لكن المُؤَكَّد والمقطوع به أَنَّ حميدتي قد وافق بحماسٍ مُنقطعِ النظير على الاتفاق الإطاري، ومن قبل ذلك على مبادرة نقابة المحامين، ولو كان قادة الجيش وطنيين حقاً وتهمهم مصلحة البلد، لاستثمروا هذا الموقف لصالح السودان ولصالح الشعب السوداني، وذلك بأَنْ يطرحوا في الورشة الفنية العسكرية تَنَحِّي جميع القيادات العليا من الصف الأول في الجيش والدعم السريع عن مناصبهم ومواقعهم والذهاب إلى التقاعد، كما من الضروري أَنْ يخضع الجميع قبل الدمج لمعايير القوات المسلحة الخاصة برتب الضباط وضباط الصف، وضرورة أَنَّ يَتِمَّ ذلك بصرامةٍ وبدقةٍ كما قال الكتاب، ولا يُسْتَثْنَى من ذلك أحد.
لو كانوا فعلوا ذلك لكانوا قد وضعوا حميدتي وأخاه وجميع آل دقلو في المحك، فإمَّا أَنْ يقبلوا فيعرف الناس صدقهم واخلاصهم لهذه البلد، فيذهبوا إلى التقاعد ويتخلُّوا عن كل شيء، ويصيروا كسائر أفراد الشعب السوداني ناس عاديين يمارسوا أعمالهم الخاصة، أو أَنْ يرفضوا التنازل عن مواقعهم ويُصِرُّوا على الاحتفاظ بسلطاتهم، وهنا ينكشف أمام الشعب السوداني خداعهم ودجلهم وزيفهم.
وهنا لنا أَنْ نسأل: لماذا لم يُبادِر قادة الجيش بطرح هذا المطلب؟ هل هذا كان بسبب علمهم المسبق بصدق عزم حميدتي وجديته وبالتالي سَيَجُرُّ عليهم ذلك وبال فقدانهم لمناصبهم وجاههم وسلطانهم؟ أم كان تجاهلهم لهذا الطرح بسبب الغفلة، وأَنَّه قد فات عليهم أَنْ يفعلوا ذلك؟ لكن المؤكد أَنَّ التنظيم الشيطاني ما كان سيسمح بهذا الطرح، ومُؤَكَّد أَنَّه كان سيرفضه رفضاً باتاً، لأنَّ هذا الطرح كان سينسف مشروعه للاستيلاء على السلطة ولإحكام قبضته مُجدَّداً على البلاد نسفاً كاملاً.
وهكذا نرى أَنَّ التنظيم الشيطاني كان يبذل مجهودات جبَّارة في كل الاتجاهات، في سبيل استعادة فردوسه المفقود، فكان لا يَنِي ولا يكلُّ ولا يملُّ من العمل والتخطيط والكيد والتآمر، لكن المُهدِّدات التي كانت تواجه مشروعه كبيرة وخطيرة ومتزايدة، فكان كلما اشتغل بمعالجة مهدد بزغ في وجهه مهدد آخر، كان كابوسه الأول هو حميدتي، فهو كان ولا يزال أكبر مهدد لهم، لذلك بذلوا جهدهم كله فيه، ولم يتركوا من سبيل لاستمالته إلا وفعلوه، لكن المحصلة كانت صفراً، ثم ازداد الأمر سوءاً وتفاقمت المُهدِّدات بالإعلان عن الاتفاق الإطاري، والذي يهدف في فحواه وفي مضمونه إلى استئصالهم تماماً، ونزع أي سلطة أو أثر لسلطة لهم.
لكن هل كان أحد يَتَوقَّع أَنْ يجلس التنظيم الشيطاني مكتوف الأيدي ينتظر الحلاقة؟، طالما حميدتي لا يستجيب لمساعيهم ويرفض تماماً فكرة الرجوع إليهم والتحالف معهم، وطالما مشروع الاتفاق الإطاري يسير في طريقه قُدُمَاً لا يَلْوِي على شيء ولا يلتفت إلى شيء، كان لابُدَّ أَنْ يفعل ما يُنْقِذُ رقبته من القَصْف، ورغم أَنَّ البرهان قد كان من ضمن المُوقِّعين على الاتفاق الإطاري، ورغم أَنَّه كان يُكْثِرُ من تأكيداته في كلِّ مخاطباته أَنَّهم مع هذا الاتفاق وأَنَّهم جادِّين فيه ومخلصين له، إلا أَنَّه في الحقيقةِ كان يلعب على الحبلين، فقد كان يُماطِلُ في أهل الإطاري ويبيع الكلام لِلْمَلَكِيَّةِ ويتذرَّع بالذرائع انتظاراً للتنظيم الشيطاني ليفعل شيء، وقد كان.
والمسألة عند هذا التنظيم صارت معادلة بين طرفين، إما أَنْ يقضي هو تماماً على حميدتي وبالتالي يستعيد سلطته ويعتلي مجدَّداً سُدَّة الحكم، وإما أَنْ يقضي حميدتي والإطاريون عليه تماماً، فلا يجد له أحدٌ أثراً بعد نسفه وحرقه وتذرية رماده في الريح، وعليه وحسب طبيعة ونفسية هذا التنظيم كان من الواضح جداً أَنَّه كان سيختار بلا ريب الخيار الأول، وأَنَّه سيندفع في طريق الحرب غير مبالٍ بأي شيء، فكل شيء يهون في سبيل سلامته، ولأجل استعادته لعرشه وصولجانه.
almoaz2004@hotmail.com
لذلك ما تركوا شيئاً يُحَقِّقُ لهم هذا الهدف، وينجز لهم هذا المطمح الأسمى إلا وفعلوه، وعليه فليس ثمة شك في أنَّهم قد ركزوا تركيزهم كله في المؤسسات والأجهزة التي تمتلك السلاح والعتاد والقوة لبسط السيطرة عليها، حيث لن تتمكن هذه الحركة الشيطانية من امتلاك السودان، وامتلاك ثرواته ما لم تمتلك وتستحوذ تماماً على شوكة الدولة وعلى سلاحها، لذلك تغلغل تنظيمهم بقوة داخل كل هذه المؤسسات حتى أحكم سيطرته وهيمنته عليها تماماً، وما من فرد يعمل في مؤسسة من هذه المؤسسات إلا وقد تمت دراسة حالته بعناية فائقة، وحدثت عمليات تجريف هائلة، وفي النهاية لم يبق إلا الموالون الخُلَّص من أعضاء التنظيم، أو مَنْ كان مأمون الجانب.
ثم تَفَتَّقَتْ أذهان الشياطين عن تأسيس جيش جديد، أو بالأحرى مليشيا تتولى تنفيذ المهام القذرة التي يريدون اقترافها وتنفيذها، وبالفعل خرجت إلى الوجود قوات الدعم السريع، وهي من جانبها قد فاقت كل توقعاتهم في انجاز ما كان منوط بها، ففرحوا بها غاية الفرح، ونالت عندهم الحظوة الكبرى، ووجد قادتها الطريق سالكاً نحو أرقى الرتب العسكرية، وانفتحت أمامهم دنيا عريضة واسعة ما كانوا ليحلموا بها أو لتخطر لهم على بال.
ثم تمدَّد سلطانهم وقويت شوكتهم وتراكمت ثرواتهم لدرجة أذهلتهم هم أنفسهم دعك من غيرهم، لكن يبدو أنهم رغم ذلك قد طمعوا في المزيد، فدبَّ الخلاف بينهم وبين أولياء نعمتهم وأسباب جاههم ومَنْ صنعهم وأوجدهم من العدم، ومؤكد أنَّ هذا الخلاف كان مضروباً حوله سياج كثيف من السرية، فلم تنتشر أخباره ولم تفعم أجواءنا رائحته فتملأ صفحات اعلامنا، وإنَّما ظلَّ طي الكتمان لم يفشه أحد ولم يشعر بوجوده أحد، حتى جاءت ثورة ديسمبر 2018 فدلقت الكأس عن آخرها وأفشت المكتوم وفاحت الروائح، وذلك عندما لاذ الدعم السريع وقائده بالحياد، ولم ينخرط في قمع الثورة والثوار كما كان مأمولاً منه ومتوقعاً، ففاجأ الجميع بهذا الموقف، ثم لم يقف عند هذا الحد وإنَّما تقدم خطوة أخرى بعيداً عن رعاته وأولياء نعمته، فأعلن انحيازه التام إلى الثورة، ومُؤَكَّد أنَّ ذلك لم يكن لإيمانه المطلق بمبادئها، وبما تدعو إليه من قِيَمٍ ومُثُل، وإنما كان ذلك مغاضبة ومكايدة، أو لأسباب أخرى نجهلها لا تَمُتُّ بحالٍ إلى الانتقال الديمقراطي والحكم المدني بصلة.
وإزاء ذلك هل يتخيَّل أحد أن يترك التنظيم الشيطاني ابنه المُدلَّل يذهب مغاضباً بلا عودة، ومن ثَمَّ تنقطع الصلات بينه وبينه؟ هيهات، محال أن يحدث ذلك، لذا من المؤكد أنَّ مساعي الصلح ورأب الصدع وإزالة الخلاف كانت جارية على قدمٍ وساق، وكان لابدَّ من استرضاء قائد الدعم السريع، وكان لابدَّ من استعادته إلى حِجْرِهم، وأنْ يدخل مجدَّداً تحت عباءتهم وجناحهم، وبالفعل أثمرت هذه المساعي وكانت من ثمراتها فض الاعتصام مع الأخذ في الاعتبار أن الفظاعات التي تمَّ ارتكابها أثناء الفض قد تمَّت عن قصد وتعمُّد وعن سابق تخطيط وتدبير، حيث هَدَفَ التنظيم الشيطاني من اقترافها تحت زي وشعار الدعم السريع أن يقطع الطريق تماماً أمام ابنهم المُدلَّل، وأن يغلق في وجهه أي باب قد يقوده بعيداً عنهم، حيث كلما حدَّثته نفسه فيما بعد بالابتعاد والاستقلال كلما وجد الشعب مكشراً له عن أنيابه وعيونه تَقْدَحُ شَرَرَاً، فيجبره ذلك ويضطره لطرد أي أفكار وهواجس قد تغريه بالانفصال عنهم.
لكن هذا المخطط لم يَسِرْ وفقاً لهوى التنظيم الشيطاني وكما يُحبُّ ويشتهي، فقد اعتراه كثيرٌ من الفشل بسبب جموع الشعب السوداني الهادرة الثائرة التي فاضت بها الشوارع، والتي ازاءها وجد عسكرُ التنظيم الشيطاني ومعهم الابن المُدلَّل أنفسهم جميعاً مضطرين للإنحناء للعاصفة، وذلك ريثما تهدأ وتنطفي جذوتها، أما قائد مليشيا الدعم السريع فقد أخذ اللطمة على قفاه واستوعب الدرس تماماً لكنه بدلاً من أن يعود إلى بيت الطاعة سعى قصارى جهده لكي يفلت من قبضة التنظيم، فقام بمجهودات جبارة تهدف إلى غسل سمعته ولتحسين صورته، كما وقد عمل على شراء ذمم ناس كثيرين من زعماء القبائل والوجهاء والمؤثرين في مجتمعاتهم، لخلق حاضنة شعبية بديلة عن التنظيم الشيطاني، وكذلك عَمِلَ على كسب الحركات المسلحة إلى جانبه عبر اتفاق جوبا، وكل هذه الأعمال وغيرها تصب في اتجاه مساعيه الحثيثة للإفلات من براثن الشيطان، وفي المقابل كان التنظيم يواصل في تقديم مغرياته له ويفعل المستحيل من أجل إبقاء ابنه في دائرته وضمن حظيرته.
كما أنَّ التنظيم الشيطاني بدوره قد قام بأعمال ومجهودات كبيرةٍ جداً لتهيئة المسرح، لقلب الطاولة على الأحزاب المدنية التي تطمح لإقامة نظام مدني ديمقراطي، وبالفعل عندما بدا لهم أنَّ المسرح قد تَهَيَّأ، وأنَّ الظروف صارت مواتية انقلبوا على مشروع الثورة، ومُؤَكَّد أنَّهم جميعاً كانوا قد اتفقوا مُسْبَقَاً على أنصبة توزيع كعكة السلطة، لكن للمرة الثانية الشعب يخذلهم حيث لم يهدأ الشارع اطلاقاً، وكلما ولغوا في الدماء وأزهقوا من النفوس كلما اشتدَّ لهيب الثورة، وأصر الشعب على استكمال مشروع تحرره، فلم تتمكن عصابة العسكر والشيطان من خلفهم والجوقة التي سارت في ركابهم من تشكيل حكومة واكتفى البرهان بإصدار قرارات، أو بالإيعاز إلى جهات أخرى بإصدار قرارات بين فينة وأخرى، كانت تُعزِّزُ من موقع ومكانة التنظيم الشيطاني وتزيل ما كان قد علق به من قيود وتقييدات.
ومِنَ المهم جداً أَنْ يؤخذ في الاعتبار أَنَّ التنظيم الشيطاني عندما سقط البشير وجد نفسه أمام عقبتين كؤودين تحولان بشدَّة دون عودته إلى السلطة، رغم سيطرته على الجيش والأجهزة الأمنية والشرطة، وهاتان العقبتان الكؤودان هما عقبة الشارع السوداني الثائر الذي تقوده قوى الحرية والتغيير، وعقبة قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي، ولسنا هنا في معرض الحديث عن الأساليب التي اتبعها التنظيم الشيطاني للقضاء على العقبة الأولى، ولكن حديثنا الآن عن كيفية تعامله مع العقبة الثانية، وعن الأساليب التي قام بإتباعها للتخلُّص من عقبة حميدتي وقواته.
كان هناك خياران أو قُلْ طريقان متوازيان قد سلكهما التنظيم الشيطاني في تعامله مع حميدتي منذ اندلاع الثورة وسقوط البشير، حاولوا معه سياسة الاحتواء والإغراء لإعادة الأمور إلى سابق عهدها، فلم يحصلوا على شيء سوى أَنَّ حميدتي قد حَقَّقَ من هذه السياسة مزيداً من المكاسب والامتيازات، وأما في الطريق الآخر المتوازي فقد مارسوا معه سياسة الترهيب والكشف عن الأنياب، مع العلم أَنَّهم لو كان بيدهم أَنْ ينسفوا حميدتي وقواته ويعدموا وجودهم لفعلوا من أول يوم ولم يُبالوا، لكنَّهم كانوا يُدركون أنَّ تكلفة ذلك باهظة جداً، لذا كانوا فقط يتحيَّنون الفرص ويترقَّبون سانحة قد تسنح للانقضاض عليه، وقد كانت هناك محاولات عدة لكنها جميعها فشلت، وفي نفس التوقيت وفي تلك الأثناء ومن ناحية أخرى كانوا يتودَّدون إليه بشتى السبل ويسترضونه ويغرونه.
وطبعاً هذه السُبُل كلها كانت تَسْتَغِلُّ في حميدتي طمعه وشرهه المبالغ فيه للمزيد من السلطة والمال والجاه، وفي المقابل كانوا يرون أنَّ الرجل في أثناء الثورة وبعدها مباشرة قد اكتسب قبولاً ما لدى الشعب، فقد كانت هناك قطاعات عريضة منه قد حمدت له عدم مشاركته في قمع الثورة، وكذلك حمدت له مواقفه المناصرة التي ساهمت في نجاح الثورة بالإطاحة بالبشير وجوقته من سُدَّة الحكم، ومُؤَكَّد أنَّ أمراً كهذا وملاحظة كهذه ما كانت لتمر عند التنظيم الشيطاني مرور الكرام، فوجود شعبية لحميدتي لا شك أَنَّها ستكون عقبة أمام سعيهم الدؤوب للقضاء عليه، إما بالاحتواء أو بالإفناء.
وعليه لمعت في الأذهان فكرة فَضِّ الاعتصام، وقد تَمَّ اقناع البرهان أنَّهم قد اعتمدوه عندهم رئيساً للجمهورية خلفاً للبشير لكن حتى يتحقَّق ذلك من الضروري تنفيذ هذه المهمة، فلاقت هذه الفكرة هوى في نفسه، فهكذا سيحقِّق حلم والده وسيصير واقعاً حيَّاً، أما حميدتي فأقنعوه أَنَّه سيغدو نائباً لرئيس الجمهورية، وعلى ذلك تَحَلَّبَت الأفواه شوقاً لالتهام كعكة السلطة ولامتلاك السودان، وكان من جرَّاء ذلك أَنْ بَصَمَ الجميع وبشغف وحماس على وضع هذه الفكرة في موضع التنفيذ، فخطَّطوا وفكَّروا ودبَّروا وتآمروا ووزَّعوا المهام فيما بينهم، والكل كان يعمل بإخلاص وتفانٍ مستعجلين النتائج نحو الجوائز الثمينة التي وُعِدوا بها.
وفي الضفة الأخرى كان التنظيم الشيطاني يُخطِّط ويفكِّر ويدبِّر ويتآمر ويوزِّع المهام، فها هي فرصته الذهبية تلوح في الأفق لضرب خازوق من الوزن الثقيل في حميدتي وفي قواته، ولقطع الطريق أمام أي احتمال لتقارب بين العسكر وقوى الثورة المتمثلة يومها في قوى الحرية والتغيير، وطبعاً بلا شك كان بالإمكان فض الاعتصام بدون إراقة قطرة دم واحدة، وبالأخص أَنَّ التوقيت جاء في زمن كانت فيه أعداد المعتصمين أمام القيادة قليلة جداً فالوقت صباح والدنيا رمضان والأيام أيام استقبال للعيد، وعليه كان بالإمكان تفريقهم وبعثرتهم وطردهم من المكان فقط باستخدام العصي والهروات والغازات المسيلة للدموع، لكن لو كان الفَضُّ قد تَمَّ على هذا النحو لم يكن اطلاقاً لِيُحَقِّقَ أهداف التنظيم الشيطاني، كان لابُدَّ من أَنْ يكون الفَضُّ بطريقة تَكْوِي وجدان الشعب السوداني وتظلُّ محفورة في ذاكرته أبد الدهر، وقد كان.
لا شك أنَّ حميدتي وقواته طوال مسيرتهم وتاريخهم قد ارتكبوا جرائم وفظائع، فقد تَمَّت صناعة هذا الرجل أصلاً لهذا الغرض، لكنه ليس شيئاً من ناحية الخبث والمكر والدهاء مقارنة بمَنْ صنعه من دهاقنة التنظيم الشيطاني، ولأنَّه كان صاحب شَرَهٍ وطمع فقد استطاعوا بمهارة عالية توريطه في فَضِّ الاعتصام، وذلك لأجل حرقه تماماً، فلا شعبية بعدئذٍ ولا يحزنون، ولذلك في الوقت الذي كان فيه عساكر الدعم السريع يضربون المعتصمين بالعصي ويمتحنونهم بالسؤال: عسكرية أم مدنية؟ كما وَثَّقَتْ ذلك مقاطع الفيديو التي انتشرت، كانت كتائب التنظيم الشيطاني تقتل وتغتصب وترتكب الفظائع وهي في لباس الدعم السريع، وكما أسلفتُ في الأعلى أَنَّ الغرض والهدف الرئيس من ارتكاب هذه الجرائم الصادمة هي ضرب شعبية حميدتي التي كانت في صعود ضربة مميتة لا قيام لها بعدها، وكذلك للحيلولة دون استئناف المفاوضات والمحادثات التي كانت قد توقَّفت بين العسكر والقوى المدنية.
ولا أنفي اطلاقاً أَنْ تكون قوات الدعم السريع نفسها قد تورَّطت بغباء وشاركت في ارتكاب تلك الفظائع بدافع الحماس، فمثل هذه الأعمال ليست غريبة عنها، لكن فض الاعتصام على هذا النحو وبهذه الصورة البشعة لم يكن يُحقِّقُ لها أَيَّة فائدة، بل كان خصماً عليها، والمستفيد من دون شك كان هو التنظيم الشيطاني الذي قَصَدَ وهَدَفَ إلى نسف أي مقبولية للدعم السريع لدى الشعب، بالإضافة إلى قطع الطريق واغلاقها تماماً أمام أي احتمال للعودة للتفاوض بين العسكر والقوى المدنية.
وهكذا وكما أراد الأبالسة المجرمون فقد انتشرت فيديوهات لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى عن قوات الدعم السريع، وهي تجوس خلال خيام الاعتصام وتحرقها وتلهب ظهور المعتصمين بالسياط، وقد انتشرت كانتشار النار في الهشيم حتى رسخت في الأذهان أو كادت فكرة أنَّهم الوحيدين مَنْ تولوا عملية فضِّ الاعتصام، وتراجع الناس عن تسميتها بقوات الدعم السريع، وصار اسمها في الألسنة وفي القلوب قوات الجنجويد، وتعالت النداءات بحلها.
وعقب فضِّ الاعتصام بزغت شعبية كارهة ومبغضة جداً ومناهضة إلى حدٍّ بعيد لحميدتي ولقواته، وقد استغلها التنظيم الشيطاني ولم يُفَوِّتها وجعل يُرتِّبُ للانقضاض عليهم وافتراسهم ونسفهم من الوجود نسفاً، ومُؤَكَّد أَنَّ هذا الترتيب لو كان قد قُيِّضَ له أَنْ يتم كما خُطِّطَ له لكان قد وجد ترحيباً منقطع النظير من كل قطاعات الشعب ولكان مكسباً سياسياً كبيراً لمن قام به، لكن في المقابل حميدتي لم يكن سهلاً رغم سذاجته البادية للعيان، فقد قام بدوره بإجراء اتصالاته بقادة الحركات المسلحة جميعها ودعاهم لمفاوضات سلام، وعقد مع مَنْ استجاب له اتفاقاً سرياً غير ذلك الاتفاق المعلن الذي تَمَّ في جوبا.
نعم كان بين حميدتي وقادة الحركات المسلحة الدارفورية اتفاقاً سرياً، وكان غرضه الأساسي منه الاستقواء بهم وتقوية معسكره اذا اندلعت الحرب، فلا يكون لقمة سهلة الازدراد، وكان مدفوعاً إلى ذلك دفعاً، فالتنظيم الشيطاني لن يعتقه وهو لم يكن غافلاً عما يُحاك لأجل التهامه وازدراد قواته، ولذلك رغم كون اتفاق جوبا لم ينص على دخول قوات الحركات المسلحة إلى الخرطوم، لكنها أي الحركات المسلحة مع ذلك أدخلت جيوشاً جرارة وعتاداً ثقيلاً، ورأى الناس بأم أعينهم دخولها زرافاتٍ زرافات، ثم رأوا ارتكازاتها وقد توزَّعت على امتداد العاصمة الخرطوم.
وإزاء ذلك تراجع التنظيم الشيطاني عن فكرة تنفيذ خطة الإفناء التي كان يغذو خطاه نحوها ويندفع إليها بكل ما يملك، وإذا به يُظهر مجدَّداً اللِّين والملاطفة والتودُّد، وإذا به يتَّجِه نحو انتهاج سياسة الاحتواء، لكن هذه المرة برزت له عقبة جديدة وهي عقبة الحركات المسلحة التي صارت قواتها حاضرة في الخرطوم، وإذَنْ لابُدَّ من العمل على إضعاف ارتباطها بحميدتي وبقوات الدعم السريع، ولابُدَّ من ضرب أسافين في جسم ذلك التحالف الدارفوري الذي نشأ في أعقاب أو في عَشيَّات اتفاق جوبا.
ومنذ ذلك الوقت انطلقت الدعاية الممنهجة لإعلاء الخطاب العنصري ضد أهلنا في دارفور، وذلك لاستقطاب أهل الشمال والوسط والشرق ودفعهم للاصطفاف خلف التنظيم الشيطاني في مخططه لضرب التحالف الناشئ بين حميدتي والحركات المسلحة الدارفورية، وفي المقابل برزت هناك أصوات دارفورية عنصرية ضد أهلنا في الشمال، ولا أشك لحظة أنَّ كثيراً من هذه الأصوات هنا وهناك يقف خلفها ويدفع لها نفس التنظيم الشيطاني، فالاستقطاب العنصري صار هدف من أهدافه الرئيسة، وبالتالي عندما وجد بعض أعضاء التنظيم الشيطاني والمنتسبين له من أبناء دارفور أَنَّ إخوانهم في التنظيم قد انقلب خطابهم وصار عنصرياً اندفعوا هم بدورهم للاصطفاف ضدهم خلف أبناء اقليمهم.
وفي صعيدٍ آخر نجد أنَّ التنظيم الشيطاني ومن خلال طريق وسياسة الاحتواء قد استطاع أَنْ يُحْرِزَ اختراقات قوية في جسم التحالف الدارفوري، حيث استطاع أَنْ يستميل إلى خَطِّهِ كلاً من جبريل إبراهيم قائد قوات العدل والمساواة ومني أركو مناوي قائد حركة تحرير السودان، أما كيف حدث هذا وما الذي تَمَّ بينهم وجعل هذين القائدين الكبيرين ينحازان إليهم ويفارقان حليفهم فهذا علمه عند ربي؟ والمُؤَكَّد أنَّهما قد حصلا على كعكة كبيرة وعلى ضمانات للحصول على كعكات أكبر في المستقبل، والنتيجة أنَّهما قد ابتعدا عن حميدتي وتباعدت الشُّقَّة بينهم جداً.
ولكن قبل أَنْ يبتعدا عن حميدتي وتتباعد الشُّقَّة بينهم، كان التنظيم الشيطاني قد استطاع ونجح نجاحاً باهراً في اقناع كامل التحالف الدارفوري بما فيهم حميدتي، أَنْ يقلبوا الطاولة على قوى الحرية والتغيير، وأَنْ يُنَفِّذُوا جميعاً كعصابة واحدة انقلاباً ضد الوثيقة الدستورية ويستولوا على السلطة ويقتسموا كعكتها، فهؤلاء كلهم لا يعنيهم بتاتاً أَنْ تكون السلطة بيد الشعب بقدر ما يعنيهم أَنْ يستحوذوا على أكبر نصيب منها، وقد فعلوا فعلتهم وارتكبوا حماقتهم وكانوا يتوقَّعون رغم ذلك أَنْ تخرج جموع الشعب السوداني إلى الشوارع هادرة تأييداً لهم، لكن خاب توقُّعُهم، واشتعلت الشوارع ضدهم، وحاول التنظيم الشيطاني أن يتدارك الموقف، فعمل على قمع التظاهرات واستهداف المتظاهرين بالرصاص الحي وقنصهم، لكن فشلت كل محاولاته فشلاً ذريعاً، وبذلك ذهبت خطته أدراج الرياح، وهنا صار الجميع في حيص بيص.
ورغم اشتراك حميدتي في الانقلاب إلا أَنَّ ذلك لم يشفع له عند التنظيم الشيطاني ليبيِّض صحيفته تماماً عنده، فقد استمر الأبالسة في سعيهم وخططهم التي تهدف إلى تغييب حميدتي من المشهد، لذلك دَبَّتْ خلافات داخل معسكر الانقلاب، وحَدَثَ استقطاب حاد وجرت استمالات، ليجد حميدتي في النهاية نفسه وحيداً، حتى حلفاؤه من قادة الحركات المسلحة الموقِّعين على اتفاق جوبا قد خذلوه وانحازوا لصف التنظيم الشيطاني، وإزاء هذه الخلافات المستعرة والمُحْتَدِمَة جداً غادر حميدتي الخرطوم إلى دارفور، ومكث هناك مدة ليست بالقليلة، وجعل في كل خطبة يخطبها يجلد التنظيم الشيطاني بلا مواربة ولا مداراة، وهنا وضح تماماً أَنَّه قد أيقن بضرورة مفارقة هؤلاء الناس فراقاً لا رجعة منه، وقد عَلَّمَتْهُ التجربة ألا يأمل نهائياً بعودة المياه إلى مجاريها، فهم سيظلون يحفرون تحت أقدامه وليسوا بتاركيه حتى يهلك ويختفي.
بعد ذلك جعل حميدتي وهو بعيداً من الخرطوم يبحث جاهداً عن مخرج يُنْقِذُهُ من هذا المصير المُخَطَّطِ له، فهو قد وَعَى تماماً وأدرك بوضوح ما ينتظره، الشعب الثائر يَغْلِي غضباً منه، وحلفاؤه الأقوياء من قادة حركات دارفور قد خذلوه وتخلوا عن نصرته، والتنظيم الشيطاني يسعى جاهداً للقضاء عليه، وقادة الجيش رغم أَنَّهم يُداجونه ويُظْهِرُون له الود إلا أَنَّهُ حين يحين الحين لن يجدهم إلا في صف أعدائه، وهو على يقين من ذلك، وعلى يقين كذلك أَنَّ موعد هذا الحين يقترب، وهو على وشك أن يُطْبِقَ عليه، وإزاء هذا الوضع جعل يفكر ويفكر حتى هداه تفكيره إلى الالتجاء للشعب ببذل الجهد وتقديم كل ما يستطيعه ويملكه لكسب رضاء هذا الشعب، وذلك للنجاة بعنقه من الدق، وبنفسه من الهلاك.
هناك شعب قَدَّمَ كثيراً من التضحيات في سبيل إقامة دولة للعدل في بلاده ودولة مدنية ديمقراطية، ولا شك أَنَّ تَبَنِّي هذه الدعوة ستستميل إليه كثير من القلوب والأفئدة، وهناك الملايين من الشعب السوداني في الغرب وفي دارفور وفي الشرق وفي الجنوب وحتى في الوسط والشمال يشعرون بالتهميش داخل الدولة السودانية، وأَنَّ هناك طغام معينين من الناس هم الذين يستأثرون بكل شيء من سلطة وثروات دون باقي خلق الله السودانيين، وإذَنْ تَبَنِّي هذه القضية من طرف حميدتي سيجعله في نظر كل هؤلاء مَهْدِي زمانه الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد أَنْ مُلِئَتْ جُوراً، وبالتالي سيُمَكِّنُهُ هذا الموقف من وضع يده على خزانات بشرية هائلة لا تنفد أبداً، سترفد فيما بعد حربه بسيول هادرة لا يقف في وجهها شيء إذا قُدِّرَ لها أَنْ تندلع.
وطالما التنظيم الشيطاني لن يعتقه طال الزمان أم قصر، فليبحث هو لنفسه عن سبيلٍ للانعتاق منهم، وليقطع الأمل فيهم نهائياً، وليجتهد ما وسعه الجهد في استمالة قطاعات من الشعب لكي تصطف خلفه أو معه، ولذلك عندما رأت مبادرة نقابة المحامين النور سارع إلى تأييدها فوراً، وأعلن عن نفسه حامل لواء الديمقراطية في السودان، وأَنَّه على أَتَمِّ الاستعداد لِبَذْلِ الغالي والنفيس في سبيل إقامة نظام مدني ديمقراطي، ولقد أظهر حماساً شديداً للاتفاق الإطاري وتأييداً يشي بجدية بالغة نحوه، وإزاء مواقفه هذه الأخيرة المذهلة والتي تَصُبُّ في صالح ثورة التغيير لم يكن أمام البرهان إلا القبول على مَضَضٍ على هذا الاتفاق، وإلا سَيَظْهَر وسينكشف أمام الجميع أَنَّه عدو للثورة مناصر للنظام القديم، والبرهان دائماً كما عوَّدنا يُفَضِّلُ أَنْ يضرب ضرباته ويلدغ خصومه من خلف ستار.
فمن عادة سيادته أَنْ يفعل أفاعيله في الخفاء، ويرتكب ما شاء من جرائم وفظائع وموبقات، لكن إذا أتيحت له فرصة الظهور للعلن ومخاطبة الناس ظهر بوجهٍ تكسوه البراءة وكأنَّه أب الثورة وأمها وجدها وحاميها الأوحد، والناس ترى في الواقع منه أشياء، وتسمع في الخطب منه أشياء، وترى عياناً بياناً أَنَّ التنظيم الشيطاني قد صار يستعيد مواقعه، ويسترد قوته، وبدأ يُهدِّد ويتوعَّد ويصرِّح أَنْ لا أحد أكثر رجولة منهم، والبلد بلدهم وهم أسيادها، أما البرهان فكان أعمى وأصم عن هذا كله، فرئاسة الجمهورية عنده طريقها يمر عبر هذا التنظيم.
وأَمَّا ما يتعلَّق بشكل العلاقة بين الرجلين البرهان وحميدتي، فمن الضروري العلم أَنَّ وقتذاك كانت المياه على السطح تجري جريانها العادي الرتيب في هدوء وانسياب لا يُكَدِّرُهُ شيء، أَمَّا تحت السطح فقد كانت المراجل تغلي والبراكين تفور، وكان كلٌّ في ناحيته يجتهد ما وسعه الاجتهاد استعداداً للحرب، فالبرهان هو خليفة البشير لرئاسة السودان حسب نظر التنظيم الشيطاني أو حسب ما أوحوا به إليه، أما سيادته فلا يوجد مَنْ هو أكثر سعادة منه بذلك وفرحته بسعة الكون، أما حميدتي فشأنه مختلف جداً، فكان في ناحيته قد حزم أمره وعقد نيته وقرَّر قراراً لا رجعة عنه على الفراق والمفاصلة، أما التنظيم فلم تنقطع آماله فيه، ولم تتوقف مساعيه الحثيثة لاحتوائه ولإعادته إلى الحظيرة، ولا شك أنَّهم قد بذلوا له في سبيل ذلك ما بذلوا، وأغدقوا عليه ما أغدقوا، لكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح، حيث لم يتزحزح عن موقفه الرافض قيد أنملة، ولكنه في الوقت نفسه كان يشفط كل ما يصله منهم، وهو ثابت في مكانه لا يريم.
ولا أظنُّ أَنَّ موقف حميدتي المُتشدِّد والحاسم بقطع علاقته بالتنظيم الشيطاني عقب انقلاب 25 أكتوبر 2021 كان فقط بسبب خوفه منهم، كما لا أظنُّ أَنَّ اندفاع حميدتي نحو النظام المدني الديمقراطي كان بسبب إيمانه الراسخ بالمبادئ الديمقراطية، لكن سِرُّ هذا الموقف لا يزال في علم الغيب، وربما يأتي يوم تنكشف فيه كل الخبايا، لكن المُؤَكَّد والمقطوع به أَنَّ حميدتي قد وافق بحماسٍ مُنقطعِ النظير على الاتفاق الإطاري، ومن قبل ذلك على مبادرة نقابة المحامين، ولو كان قادة الجيش وطنيين حقاً وتهمهم مصلحة البلد، لاستثمروا هذا الموقف لصالح السودان ولصالح الشعب السوداني، وذلك بأَنْ يطرحوا في الورشة الفنية العسكرية تَنَحِّي جميع القيادات العليا من الصف الأول في الجيش والدعم السريع عن مناصبهم ومواقعهم والذهاب إلى التقاعد، كما من الضروري أَنْ يخضع الجميع قبل الدمج لمعايير القوات المسلحة الخاصة برتب الضباط وضباط الصف، وضرورة أَنَّ يَتِمَّ ذلك بصرامةٍ وبدقةٍ كما قال الكتاب، ولا يُسْتَثْنَى من ذلك أحد.
لو كانوا فعلوا ذلك لكانوا قد وضعوا حميدتي وأخاه وجميع آل دقلو في المحك، فإمَّا أَنْ يقبلوا فيعرف الناس صدقهم واخلاصهم لهذه البلد، فيذهبوا إلى التقاعد ويتخلُّوا عن كل شيء، ويصيروا كسائر أفراد الشعب السوداني ناس عاديين يمارسوا أعمالهم الخاصة، أو أَنْ يرفضوا التنازل عن مواقعهم ويُصِرُّوا على الاحتفاظ بسلطاتهم، وهنا ينكشف أمام الشعب السوداني خداعهم ودجلهم وزيفهم.
وهنا لنا أَنْ نسأل: لماذا لم يُبادِر قادة الجيش بطرح هذا المطلب؟ هل هذا كان بسبب علمهم المسبق بصدق عزم حميدتي وجديته وبالتالي سَيَجُرُّ عليهم ذلك وبال فقدانهم لمناصبهم وجاههم وسلطانهم؟ أم كان تجاهلهم لهذا الطرح بسبب الغفلة، وأَنَّه قد فات عليهم أَنْ يفعلوا ذلك؟ لكن المؤكد أَنَّ التنظيم الشيطاني ما كان سيسمح بهذا الطرح، ومُؤَكَّد أَنَّه كان سيرفضه رفضاً باتاً، لأنَّ هذا الطرح كان سينسف مشروعه للاستيلاء على السلطة ولإحكام قبضته مُجدَّداً على البلاد نسفاً كاملاً.
وهكذا نرى أَنَّ التنظيم الشيطاني كان يبذل مجهودات جبَّارة في كل الاتجاهات، في سبيل استعادة فردوسه المفقود، فكان لا يَنِي ولا يكلُّ ولا يملُّ من العمل والتخطيط والكيد والتآمر، لكن المُهدِّدات التي كانت تواجه مشروعه كبيرة وخطيرة ومتزايدة، فكان كلما اشتغل بمعالجة مهدد بزغ في وجهه مهدد آخر، كان كابوسه الأول هو حميدتي، فهو كان ولا يزال أكبر مهدد لهم، لذلك بذلوا جهدهم كله فيه، ولم يتركوا من سبيل لاستمالته إلا وفعلوه، لكن المحصلة كانت صفراً، ثم ازداد الأمر سوءاً وتفاقمت المُهدِّدات بالإعلان عن الاتفاق الإطاري، والذي يهدف في فحواه وفي مضمونه إلى استئصالهم تماماً، ونزع أي سلطة أو أثر لسلطة لهم.
لكن هل كان أحد يَتَوقَّع أَنْ يجلس التنظيم الشيطاني مكتوف الأيدي ينتظر الحلاقة؟، طالما حميدتي لا يستجيب لمساعيهم ويرفض تماماً فكرة الرجوع إليهم والتحالف معهم، وطالما مشروع الاتفاق الإطاري يسير في طريقه قُدُمَاً لا يَلْوِي على شيء ولا يلتفت إلى شيء، كان لابُدَّ أَنْ يفعل ما يُنْقِذُ رقبته من القَصْف، ورغم أَنَّ البرهان قد كان من ضمن المُوقِّعين على الاتفاق الإطاري، ورغم أَنَّه كان يُكْثِرُ من تأكيداته في كلِّ مخاطباته أَنَّهم مع هذا الاتفاق وأَنَّهم جادِّين فيه ومخلصين له، إلا أَنَّه في الحقيقةِ كان يلعب على الحبلين، فقد كان يُماطِلُ في أهل الإطاري ويبيع الكلام لِلْمَلَكِيَّةِ ويتذرَّع بالذرائع انتظاراً للتنظيم الشيطاني ليفعل شيء، وقد كان.
والمسألة عند هذا التنظيم صارت معادلة بين طرفين، إما أَنْ يقضي هو تماماً على حميدتي وبالتالي يستعيد سلطته ويعتلي مجدَّداً سُدَّة الحكم، وإما أَنْ يقضي حميدتي والإطاريون عليه تماماً، فلا يجد له أحدٌ أثراً بعد نسفه وحرقه وتذرية رماده في الريح، وعليه وحسب طبيعة ونفسية هذا التنظيم كان من الواضح جداً أَنَّه كان سيختار بلا ريب الخيار الأول، وأَنَّه سيندفع في طريق الحرب غير مبالٍ بأي شيء، فكل شيء يهون في سبيل سلامته، ولأجل استعادته لعرشه وصولجانه.
almoaz2004@hotmail.com