hamidelbashir@yahoo.com الدلنج (عروس الجبال) هي مدينة العلم الأولى في غرب السودان بعد الابيض (عروس الرمال) وكأن ذلك التوافق والتطابق بين المدينتين في كنية العروس وفي الدور الطليعي – التاريخي في التعليم يقف شاهدا على صدقية المزاوجة والتآخي بين التاريخ والجغرافيا وبين الرمال والجبال وبين الجمال والجلال وبين شطري كردفان، وفوق ذلك بين إنسانيها من الرعاة والمزارعين في تأكيد وتوثيق لوحدة وتآخي (القرون) و(الجرون). وفي حقيقة الأمر ان هذه الثنائية في انماط الحياة وسبل كسب العيش (الزراعة والرعي) قد ميزت كل اقليم السافنا المعروف بالاقليم السوداني الممتد من البحر الاحمر شرقا وحتى الاطلنطي غربا وتحده شمالا الصحراء وجنوبا خط الاستواء، ولقد امتاز هذا الاقليم بالاستقرار الخلاق المتمثل في الغنى الثقافي والاثني والازدهار الديني للطرق الصوفية وخاصة الطريقة التجانية زائعة الصيت من فاس إلى السنغال وحتى حدود البحر الاحمر والذي حتما قد عبرته شرقا مع سفن وأفواج الحجيج إلى بلاد الحجاز. وهو ذات الاقليم الذي شهد هجرات قبائل جهينة العربية: المسيرية، الحوازمة، الرزيقات، التعايشة، البني هلبة، السلامات والحمر والمعاليا والشنابلة وغيرها ممن دخلوا السودان من شمال افريقيا عبر غربها بعد انهيار الدولة الفاطمية وجميعهم قد استقروا في هذا الحزام الجغرافي- الثقافي- التاريخي الفسيح والذي تقع بين احداثياته مدينة الدلنج. وللأسف وفي ضوء القراءات الخاطئة (للقرون) و(الجرون)- الرعاة والمزارعين- والتي امتازت بالحميمية وبالتداخل المبدع في الماضي، لقد اضحت هذه الثنائية هي المؤجج لصراعات السافنا في الحزام السوداني خلال الخمسة عقود الأخيرة. وسيظل هذا الصراع طالما ان تخطيطنا الاستراتيجي وخطط التنمية المحلية- على قلتها- في هذا الحزام يصوغها من يجلسون على الكراسي الوثيرة ولم ينعم الله عليهم بفهم احداثيات الواقع الاجتماعي- الاقتصادي للرعاة والمزارعين الذين عاشوا قرونا من التآخي والتعاضد في إطار ثنائية مبدعة افضت إلى قيام وازدهار دول وممالك مثل مملكة الفور والفونج والمسبعات وتقلي وفي خارج السودان مملكة وداي وتمبكتو وغيرها من الاشراقات الإنسانية في الحزام السوداني. وفوق ذلك فإن الرعي والزراعة في هذا الحزام هما وسيلتان لكسب العيش في أراضي هامشية جافة يصعب استغلالها بوسائل أخرى ولأغراض أخرى. مدينة الدلنج ربما اخذت اسمها من قبيلة الدلنج وهي احد افرع قبائل النوبة التي يصل عددها إلى الثمانين، وهي القبيلة النوبية شديدة الاستعراب في الاجزاء الشمالية من جبال النوبة والتي يقف على رأسها القائد التاريخي الملك والناظر السير الأمين علي عيسى والذي خلفه في زعامة القبيلة ابن عمه الاستاذ عبد الحميد النور عيسى امير امارة الاجانج والتي تشمل في داخلها قبيلة الدلنج صاحبة الاسم. ربما رجع تاريخ مدينة الدلنج وتأسيسها إلى القرن التاسع عشر الميلادي حيث نشأت كقرية مركزية صغيرة يسكنها النوبة والحوازمة ويؤمها بصورة موسمية بدو الحوازمة والمسيرية في رحلتهم البندولية السنوية في الخريف والشتاء حتى اضحت سوقا لتبادل المنافع بين الرحل والمستقرين في تأكيد لتكاملية نمطي الانتاج اللذين ميزا هذه المنطقة: الزراعة والرعي. ولم تكتسب مدينة الدلنج دورا اداريا خلال فترة الحكم التركي (1821-1885) إذ طالما ان جبال النوبة لم تخضع بصورة كاملة للإدارة التركية. ولكن من المؤكد ان سلطات النوبة الدلنج (الاجانج) السياسية كانت ترتبط وتخضع أحيانا لسلطات مملكة تقلي وعاصمتها تقلي العباسية، وفي فترة المهدية لم تكتسب الدلنج أهمية سياسية أو إدارية لكنها كانت نقطة مهمة للتجميع وللانطلاق احيانا لجيوش المهدية التي لم تكف من محاولاتها اخضاع جبال النوبة عسكريا وسياسيا لسلطاتها ونفوذها. ومن نافلة القول، لقد زار الدلنج عدة مرات القائد النوبي الفذ الأمير حمدان أبوعنجة وهو من قبيلة المندل التابعة للدلنج ايضا، ومن ذات الانحاء انحدر المناضل النوبي عباس برشم فرح الذي اغتالته دكتاتورية النميري وهو حديث التخرج في كلية الاقتصاد جامعة الخرطوم في عام 1976 ابان المحاولة الانقلابية التي قادها المقدم حسن حسين عثمان. الدلنج هي المدينة التي آوت الراحلة (الاميرة) مندي حفيدة السلطان عجبنا والتي قادت جيوش والدها بعد هزيمته في جبل السلطان بمنطقة النيمانج، وقد كانت مندي دون سن العشرين من العمر، وكأنما قد استلهمت بطولتها العربية - الافريقية جميلة بوحريد احد ابرز قادة حرب التحرير الجزائرية ضد الفرنسيين، ولا بد - في هذا المنحى- من تسليط قليل من الضوء الانساني في بطولة السلطان عجبنا - والد مندي: بعد ان خاض حرب عصابات لأكثر من عام ضد الاحتلال البريطاني في جبال النوبة حوالي (1912-1913) القى القبض عليه في جبال النيمانج وحكم عليه بالاعدام وسط حشد كبير من اهله ومن الجبال المجاورة بقصد كسر هيبتهم وخاطرهم، وفي لحظات الاعدام تقدم إليه من يسأله عن أمنيته: فرد عليه السلطان عجبنا امنيتي ان اقتل رميا بالرصاص لا شنقا بالحبال وذلك لأننا هنا نشنق الكلاب السعرانة بالحبال لا الرجال، كانت تلك الكلمات بمثابة جبر خاطر للمقاومة التي تجددت في جبال النوبة الشمالية اكثر ضراوة تحت قيادة بنت العشرين مندي. ان الدلنج تستحق ان تطلق اسم مندي على احدى شوارعها أو متحفا للتاريخ باسم مندي في الدلنج.