من سيرة الملح و الدموع والتحدى خمسة اعوام متلاحقة لاجل الدخول للجامعة, لاجل ان ادرس الصحافة والاعلام. سنوات تأرجحت فيها بين منتهى اليأس ومايكفى قليلا للاصرار, سامشى هذا الدرب وساشق فيه نهرا يخصنى, يقهقه اليأس فى وجهى, ويعطن سنوات من عمرى فى السراب. تحديته باصرار وكلما استطعت ان ازيح حجرا كلما فرهدّ فى روحى الامل, تنمو شجيرات ليمون فى دربى وتفوح روائحها الندية. رائحة الليمون طارده لليأس, عرفت احدى ادوات انهزامه, انتصر عليه مرات ويهزمنى كثيرا, قلت له ستبكى كثيرا ايها اليأس, وسافرح كثيرا لانى سوف انتصر, فدعنى فى حالى!! سخر منى اليأس, سخرية اعادتنى الى نصب عزيمتى, فلولا اليأس لما عرفت الاصرار ولولاه لما تسلقت صخور المعاناة وروتها دموعى فاصبحت ذات اعتشاب يسر ناظريه ويحرضهم على فعل الحياة. كان العام الدراسى 1981/1982 والطريق امامى مشوكا لإيجتاز امتحان الشهادة السودانية, كنت قد وضعتها نصب عينى ان امشى الطريق لنهايته البداية, كل الدروب التى امشيها كانت ومازال فيها من الوعورة مايهزّ كل جبال الروح ويزلزلها وينثر احجارها القاسية فى دروبى التى لانهاية لها. فى كل منحنى اعتقدت فيه فى حالة زهو بالانتصار انها نهاية طريق المعاناة اكتشف ان عصم النفس من الخيلاء المطلق ضرورة تحتمتها الهاوية التى اقف بكل احلامى على حافتها. على هذه القمة ادعك احجار المنى, شرارات المعرفة الاولى تلمع امامى وتفتح دربا جديدا اكون واعية لكل مطباته ووحوشه ومشرعة سفن قلبى لكل من يلتقينى ويرافقنى هذه الدروب وشقوق الحياة على اقدام عرفت ان ملح هذه الحياة هو عصارة الدموع التى انسكبت تشهد على احزاننا, افراحنا على قلتها وتعلن تصالحى مع واقع قاسى {تعافره} فرسة ذات احلام عنيدة. هذه الرياضيات والفيزياء اللعينة تنهك رأسى, لو تابعت ضىء مقدراتى لكان الامر اقل صعوبة, كنت احب العربية وتستوقفنى احداث التاريخ التى بقيت لسنوات طويلة دون اجابات شافيه. ماكان يكفى ان اكون الاولى فى فصلى الدراسى لاجلس فى فصول المساق العلمى, لم تكن بى اى رغبة ان اكون طبيبة, ولا ان ادرس الهندسة, رغبتى كانت محددة ان ادرس الصحافة الاعلام. ولكن كان قد سبق السيف العزل وتمّ توزيعى غير ماترغب سفن واقع مقدراتى. تلاطمتنى امواج الرياضيات, احمل كراساتى وكتبى واجلس امام صديقة عمرى صديقة تبيدى ترفع فى اس امنياتى وتطرح ثمارها امامى, يأتى ادريس تبيدى ابن اجمل من رأيت من النساء- ست حلوة تبيدى اخت صديقة التى رافقتها منذ المتوسطة وحتى سنوات العالى. إدريس آنشتاين – النابغة فى الرياضيات والفيزياء, يفكك جزئيات ماء الامل ويعيدها فى مجرى النهر الذى انهمر صامدا امامى. كلما تقترب ايام الامتحانات كلما تصطك روحى ببرد الخوف, الخوف من الهزيمة, الخوف من المستقبل, ذلك الذى كنت انتظره بكل دفق نبضى وبندول يقرع فى عقلى ويتوقف الزمن بسيطان ناره ويصلينى اسئلة وحزنا واصرارا. احب الجمرات التى تشع حين تنشدّ على اثر سطوتها اشداق طبول التحدى, {يطرشق} الجلد المشدود ويلفحّ وجهى الرماد - احببت الرماد ونعومته منذ فجر كفاح النار الاولى. لابأس فهذه الجمرات تومض فى داخلى تحرقنى باسئلة وقيمة وجودى, اسئلة المعرفة التى لا ولن تنتهى. كلما تقترب مواعيد الامتحانات يتلبسنى الخوف ويصبح كظلى, لعبت عوامل مختلفة فى ذيادة توترى وخوفى وانا اناهد منعرجات الدرب لاصل لبدايته. جلست للامتحان, قاومت الحمى والعرق الذى تصبب وبلّ السطور, فكرت فى امتحان الانشاء ان اكتب قصتى, قصة بنات مثلى يقاومن فى الظروف القاسية, كنت اشتاق حينها ان اكون مثل البنات النابهات وصورة آمال عبدالرحمن لاتفارقنى, فقد كانت غدوة امامى فى الاجتهاد والمثابرة, كانت تحرضنى ضمن آخريات وأخرين يتعدون على اصابع الشجر. إدريس كان قريبا منى يشجينى بسيرة المقاومة والانتصارات, كان يعرف مثل الاقربين والقريبات ان دربى لم ولن يكن سهلا, كان سندا صعب علىّ نسيانه وسيظل محفورا فى تاريخى وسيرتى, صديقة تحاول ان تزرع بذور الطمأنينة فى حقول خوفى وتذكرنى بانى قادرة على النجاح وتحصى لىّ عدد المرات التى كنت فيها الاولى فى الصف الدراسى. وجلسنا للامتحانات, كنت اعرف ان درجتى فى اللغة العربية والتاريخ والتربية الاسلامية ستكون عالية وكنت على يقين بان الرياضيات ستكون العقبة وكذلك الفيزياء. وقد حدث ذلك, نجحت فى الشهادة بدرجة كان لها ان تحطمنى تماما, فهى اقلّ كثيرا من المتوقع. بكيت يومها كثيرا فى {زقاق} بيتنا, جلست ارضا قرب {صاج العواسة}, عطنت اصابعى فى الرماد وغسلته بدموعى, شبت النار فى روحى, دموع امى حليمة تضىء بين اصابعى, تناغمنى ان لا ابكى, تهدهد فىّ الامل { بتنجحى يابت حشايا, من يومك والعين صايباك}. ماكنت ارغب ان اكلف ابى مالايستطيع وقد صار محمولا, كبرت الاسرة والزهرة الاخرى التى اختارها زوجة وهبتنا اربعة فوانيس ضواية رغم ماطال الزهرة الاولى من ذبول, كنت اعرف ان {الشيلة} قد اصبحت {تقيلة} وامى حليمة ماعادت قادرة على العمل من سنين بعد ان اقعدتها الرطوبة. ومع كل سجلت فى مدرسة اتحاد معلمى كوستى المسائية لاجلس للمرة الثانية لامتحان الشهادة السودانية. كان عاما ثرا, اذادت فيه معارفى واتسع افقى لها وللفعاليات والنشاطات المدرسية, كنت لا اتوانى فى مراجعة دروسى ووقدمت لىّ منى شقيقتى كل الممكن فى تبسيط الرياضايات والفيزياء, مدّ ادريس مرة اخرى يديه واغرقنى بجمائله, رغم انه غادر كوستى لدراسة البيطرة بجامعة الخرطوم الاّ انه وفى كل زياراته لكوستى يحرص ان يقدم لىّ مايستطيع لحل اى معضلة تواجهنى, فكان نعم الرفيق. واجهت الخوف من الامتحانات بشىء من الشجاعة, مرات يهزمنى ومرات انتصر عليه, تقترب مواعيد الامتحانات, يتشجرّ اليأس حقولا من شوك فى دربى, اسخر منه وامدّ له لسان اصرارى. ومرة اخرى يهزمنى والنتيجة بالكاد تؤهلنى لدراسة معهد متوسط. {شطارتك راحت شمار فى مرقة} قالت جارتنا التى كانت تعول على اجتهادى فى تحفيز بناتها. لم اقف امام ابى هذه المرة, لم اقل له بانى اريد ان اعيد السنة وان اجلس للمرة الثالثة للامتحان. بدأت اذاكر قبل بدء العام, انفش ريش طاووس عزيمتى وافرّ {كلوش} الارادة. عملت لفترة فى مجلس بلدية كوستى, فترة مؤقته تساعدنى ان ارفع عن كاهل ابى المسئولية فى ان يدبر لىّ مصاريف الامتحانات. منى شقيقتى كانت تجلس للمرة الثانية لامتحان الشهادة, مبرزة فى الرياضيات, الرياضايات الاضافية والفيزياء. كانت تساهر معى الليل لتشرح لىّ وترفع الزوايا المستقيمة لتكون اكثر حدة , مواجهة بها بتحدى وحوش الاحباط والهزائم التى ما ان تنتهى واحدة والاّ تكاثر روحها فى نونات احلامى, تتسع فلجة الروح, يدخلنى هواء منعشا, يختلط برائحة المطر والطين, المّح يد رفيق طفولتى, متعبا يعود متسخ الملابس ومطهرة روحه فى بحثها الدائم عن سكينة, كان يحب المدرسة مثلى ولكنه الفقر, الفقر الذى اقعد محاسن وحنان, اقعد التنه والشول من طرق بوابة العلم. غرسن فى روحى الاراده وكانن فرسات جامحات وهنّ ينكشن معى { زريعة} الشقاء, افتح عيونى باتساع الحلم واقرأ, اقرأ والهث راكضة فى ميادين الفرح المنتظر. كلما ينهكنى العطش تبتل عروق روحى من تبلدى الامانى فارتوى اعدّ نفسى لعطش جديد, العطش والمعرفة صنوان وانا إبنتهما التى تعلمت على ايديهما التمرد والثورة, ثائرة وممتلئة بالغضب تماما كما تسكننى الاحلام فالبسها خاتم سليمان. كنت بالمقابل اشرح لمنى البلاغة والقواعد, بالكاد يستمر شرحى ساعة واحدة ويبدأ تثاؤبها وتتسع عيونى لقهوة المعرفة واتذوق بمتعة درس الكناية واجتهادى فى الاعراب. جدى ينادينى, اسمى يبدو معوجا وهو ينطقه, بقدرة قادر قلب القاف كافا, يطلب منى ان اطفىء النور, احتجّ بانى مازلت اذاكر,- لسه بقرأ ياجدى-, يدعو علىّ {القرّ اللى ينفخ عدوك, خلاص كفاية}. انام والخوف يفرش شوكة بطانية, تدثرت بها فى ليالى الشتاء وهزيع الروح, الخوف من يوم باكر, الخوف من الهزيمة ومن دبارة الاحزان التى كانت ملتفة حول رقابنا. مواعيد الامتحانات تقترب, ادفع الرسوم بعد ان دبرتها من الزلابية التى كنت ارميها صباحا فى صاج المقاومة لانتصر, جارتنا التى تعمل فى السوق الصغير, جوار دكان امى حليمة ساعدتنى, كانت تدخل كهبة النسيم وتصبح علينا, امى تعانى من الصداع النصفى وترقد والدمع يملأ عيونى, ونجوى تبكى وهى تمسك برأس أمى, منى تنتزع كعادتها الضحك مننا حتى فى اقسى لحظات حزننا وتعاستنا,- انتو بتبكوا ليه, ماتستنوا لمن تموت- وتغتاظ نجوى منها وحاجة حواء تدعو لامنا بالعافية ولينا بالنجاح. تحمل جردل الزلابية وتبيعه مع الشاى باللبن, الذى تقوم بصنعه وبيعه ليقيها شر الزمان. حاجة حواء كانت اليد الحنينة التى امتدت لنا فى زمن قاهر, حاول ان يهزمنى فقلت له بعالى الصوت لا, ليس معى. وجلست للمرة الثالثة, والنتيجة 61%, كان فرحى عظيما, لقد خطوت نحو النجاح, قالوا لىّ انها لن تؤهلنى لدخول كلية الاعلام ويمكننى ان ادرس اعلام معهد الدراسات الاضافية ولم يكن حينها معترفا به كما قيل لىّ. كنت مصرة على كلية الاعلام, قلت لابى عن رغبة بديلة ان درس المسرح, كنت اهوى التمثيل ومثلت منذ المدرسة المتوسطة, كنت اهوى الغناء واصدح باغنيات عشة الفلاتية, اعترض ابى باعتبار انها دراسة – مابتجيب قروش- على حد قوله. مرة اخرى تغلق الابواب فى وجهى, واقف عاجزة, رأسى تطحن { فتريتة} همومى, تحجرت الدموع ووضعت اصابع الحزن على وجه ايامى علّها تمنحها ارادة مسك القلم بتصميم اكبر. سالتنى منى عن وجهتى وكانت قد تحصلت على مجموع يؤهلها لدراسة التربية بجامعة جوبا, وصادف ان تمّ اغلاق الجامعة لاجل غير مسمى, قلت لها سامتحن للمرة الرابعة ولا اريد لاحد ان يعرف, اريد ان يتفاجأ الاهل بنجاحى وكسرى لطوق المستحيل. وعدتنى منى ان تساعدنى فى دفع المصاريف فقد كانت تعمل محاسبة حينها فى مصنع سكر كنانة , كانت منى – عنكوليب- الامل الذى انغرس فى روحى عامئيذ. يتبع
------------ فصل من تجربتى التى من المتوقع صدور الجزء الاول منها خلال هذا العام وهى بعنوان {انثى الانهار}, وهى باللغة العربية والالمانية {فى كتابين منفصلين}