زي الهوا
عبد الله الشقليني
13 May, 2009
13 May, 2009
لم أكن أحلم أن أغنية عبد الحليم حافظ ( زي الهوا ) يمكنها أن تنفذ إلى المستقبل بذلك الوضوح وذ اك الإشراق . وفي السيارة برفقة ابنتي من بعد أمسية قضيناها في مطعم في مُجمع تجاري ، امتدت يد لتُدير مؤشِر راديو السيارة ، وكانت أغنية ( زي الهوا ) لعبد الحليم حافظ ، فنـزفت الذكريات . كأن يوماً من صيف 1982 م قد هبط نيزكاً من سماء الذاكرة ، إلى ليلة الثامن والعشرين من يناير 2005 م .
تدخل أنت من بوابة مستشفى ، ( إشبانداو ) على أطراف برلين الغربية . عند الطابق الأول من الجناح الأيمن ، وفي باحة تُعادل مساحة غرفة قرب الدرج ، وقرب طاولة منـزوية ، تجدني أجلس و بصحبتي ( مصطفى ) الفلسطيني و ( أحمد الكرماني ) المصري ، و (نادية ) اليوغسلافية ، نستأنس ليلاً و نلعب الورق . معنا إذنٌ مُسبق بالبقاء خفيةً عن الأعين من بعد أن هجد جميع النُزلاء في الغُرف للنوم بقوة قانون المستشفى . أحضر ( الكرماني ) جهاز تسجيل ( استيريو ) ، وبدأ يُسمعنا من أشعار محمد حمزة وألحان الموسيقار بليغ حمدي بمصاحبة الفرقة الماسية لعبد الحليم أغنية ( زي الهوا ) : ـ
وخَدتِنِي مِن إيدي ومْشينا
تحت القمر غَنينا
وسهِرنا وحَكينا
وفي عِز الكلام
سَكَت الكَلام
وتاريني مَاسْك الهوا .
وخدتِني ومشينا
والفَرح يضُمِنا
ونِسينا يا حبيبي
مِين إنتَ ومِين أنا
حَسيت إن هَوَانَا
حَيعيش مِليون سنة
الدُرة الغنائية الرائعة وصداها يلتفّان من حولنا ، ويهُزنا الرَصف الموسيقي المتبتِّل . جمعتنا رفقة حانية أسهمت الصُدفة في صناعتها . نجلس مع بعضنا نُخفِف من وحدة حبس الاستشفاء . صعُبت الترجمة و نحن نحاول أن نشرح لنادية المعاني بالإنجليزية أو بالألمانية الدارجة ، بعد أن أطربتنا جميعاً تلك التُحفة الفنية الإنسانية الرائعة . كُنا جميعاً في ذلك الزمان نرقب حُباً ينمو وعاطفة تخضَر ، فصفاء الدنيا يطوقنا بثوبٍ عَطِر . تضحك ( نادية) بوهج وهي تنظر إلى ( الكرماني ) ، يشع من عينيها بريق يفصِح عِشقاً ، نما وتعملَق ، وقد اخضرت أنوثتها وأزهرت . أنا ومصطفي كُنا أقرب إلى المشاهدة الفَرِحة ورقابة التوثيق ، فالصُحبة تنمو بيننا ، ولكنها ازدهرت محبة بين ( نادية ) و ( الكرماني ) ، فالنفوس تطفح و تُشرِق ونحن نستمتِع بلا حَسد ! . نشهد البوح المُغلف كأنه يخجل من وجودنا . ومعي مصطفى استشعرنا ثقل جلوسنا كالعوازل ، فالليل قد انتصف ، ها نحن نُجبر المحبة أن تتراجع قليلاً عن الإفصاح . نظرني مصطفى بعيون فيها كل الرؤى ، ففهمت أن نترك الأحبة لشموع الدفء . تذرعنا سوياً بشتى الأعذار للهرب إلى النوم ، وتركنا مقعدينا فجأةً . لكن الأعذار لم تُقبل ، كم كانت هي واهية فسقطت أستارها ، فهب علينا رفيقانا ( الكرماني ) و ( نادية ) ، يطوقاننا بأحضان شقاوة الأحبة وهما يضحكان بعِتاب رفرف علينا وأخجلنا فتراجعنا . لا أسرار بين الجميع ... واستسلمنا . جلسنا مُجدداً و أعِدنا سماع أغنية عبد الحليم ، ودلفنا جميعاً ننهل من دفق عواطفها الجارفة مرة أخرى : ـ
خّايف ومَشيت وأنا خايف
إيدي ف إيدَك وأنا خايِف
خَايف على فرحة قَلبي
خايف على شوقِي وحًبي
للنفوس تاريخ ... ، تتأرجح بين ماضٍ يحاول الإمساك بالوهج وحاضر يتشكل . يقال إن الحال أقرب لإصابة حب ، كسائر الإصابات التي يتعرض لها الإنسان ، تطول وتقصر . ويمكن لنفس ( للكرماني ) أن تحتمل محبة تتربص ، وتنشر حبائلها حتى تغطي خيمة الأُنثى بتنوع الروح والشخصية والثقافة والإرث والحنين والمسلك و خليط الجميع ، و لا يُفصِح عن رغباته الدفينة . أو ربما هو اللهو بلا قيود ، يجد نفسه بين جموع من الأزهار النسائية يجول بينها فراشاً يبحث الرحيق . فها هي زهرة جديدة جمعته معها في صُحبتنا الصدفة . أو ربما يتقيد هو بأخلاق الوفاء وآداب العِشق التُراثي القديم و خصال التضحية . لا نعلم أي النفوس تأسره في حبائلها وتقود خطاه . ففي المنافي يتحلل السلوك من القيود ، ويَغلُب السير مع التيار إلى أقصاه . ما كُنا نلج بواطن الأنفس وخفاياها أو نسعى لبعثرة الدواخِل و هي تحتمل كل الخيارات الممكنة ، لكن المشاعر الإنسانية تبدَّت بجمال يُجبرك أن تجلسها قدرها من المكانة . تجِد أنت القوة يغلب عليها الضعف ، وتختلط الشدة باللين . تجِد البساطة حيناً ، ثم يعتلي صفحتها التعقيد أحياناً أخرى . لنادية إرث من ( البوسنا ) ، كأن وهج الشرق قد لفح بَشرة فؤادها ، فيتورد الخدان من تعليقٍ يفضح المحَبة ، أو لمسة ( الكرماني ) الحانية وهو يُغطي أصابعها الرشيقة براحة كَفه حين ننهمِك نحن في رصف الورق . كان الكرماني طوداً ، طويل القامة ، عظيم الجُثمان وبادي الوسامة . أبيض اللون أشقر الشعر ، مُخضَّر القرنية ، كادت الأصول الشركسية أن تقول أنا دفينة هُنا في جَسده .
الاستشفاء الحكومي في ( إشبانداو ) ، يُعادل فندقاً فخماً في موطننا . طبيبٌ يُشرف على أربعة عشر فرداً من النُـزلاء ، وطاقم من فنيي التمريض يتابع التفاصيل ليل نهار ، تضغط على مكبس قرب مرقدك يأتيك من يخدُمَك . لكل طابق صيدلية ، ولكل طابقين مطعماً ، يتجول فيه البوفيه بتنوع المأكولات ، وقد حُجِب عنه اللاذع من البُهار . أمام طاولتك يقف على راحتك المُختصين . تمُد اصبعك وتُشير ، ثم ترفع كفِك الأيسر :
ـ هذا يكفي ....، شُكراً لك ِ سيدتي .
الدنيا كانت أرحب هُناك ، وفي لقائنا معاً في الأمسيات تختلط العربية الفصيحة مع العامية السودانية و الشامية والمصرية ، أما الإنجليزية فهي تستصرخ النجدة من لكنة الألسنة العربية . اللغة الغالبة بين جميع الأعراق هي الألمانية الدارجة التي تغوص في الركاكة و الطرافة ، ولكنها تفي بغرض المعاملات ، ولا ترقى للغة المحبين ، ولا تمهد للذوق والأوتوكيت . الجوع أو الشبع ، القبول أو الرفض ، المحبة أو الكراهية ، تظل جميعها لغةً في التبسيط المُخِّل ، ولا تقبل المتشابهات ، أو التمهيد أو الغزل الرفيع أو التأدب الحضاري . إلا أن للمشاعر الإنسانية لُغة أخرى تتخطى الصعاب لتنير دروب العشق ، فالإرث الإنساني بالِغ القِدم وللأرواح طرائقها في الائتلاف . ينطلِق حديثنا بطرافته ، والقاسم المُشترك حكايات من طريف العادات والتقاليد والغناء . تُحِس أن لمسات الشرق بدفء حياته الاجتماعية تلقي بِظلالها على مَجلسنا ، ترفرف علينا جميعاً . أغنية عبد الحليم أقوى وأنضر وأكثر جذباً من لَعِب الورق. فنحن نرقب العِشق و فضاءاته الرحبة ، وسباحة السماوات بالخيال الجامِح . يتسلل الدمع خِفية يُغسِل مآقينا ، ويلُفنا صمت وحُزن حين نتسلق هضبة العُقدة الغنائية : ـ
وخَدتِنِي يا حبيبي
ورُحتَ طاير طاير
وفُتَنِي يا حبيبي
و قلبِي حاير ، حاير
وقُلت ليا راجِع
وبُكرة راجِع
وفضلتَ مُستني بآمالي
ومالي البيتْ
بالورد ، بالشوق ،
بالحُب ، بالأغاني
ليلة لن تٌنسى ، فعلى أطراف (برلين ) وعند المستشفى يخِف ضجيج المدينة ، وتتوهج اللحظات الحالِمة ، وتنـزل علينا اللغة الوَاجِدة في أوكار المنافي ، كأن نعيماً اندلق علينا بأنهاره العذبة ، تُمسك بتلابيب الجِزع وتهُزه نشوة . ( نادية ) عازبة قدمت ألمانيا للعمل ، وتعول والديها في يوغسلافيا ( السابقة ) . تستأجر شقة صغيرة وتَسكُن وحدها في برلين . أصبحت عطلة نهاية الأسبوع مناسبة (لنادية ) و (الكرماني ) . يمرح العاشِقان بعيداً عن الحيطة والحَذر . فتعصف بهما رياح الوِصال برونقها ، وطلاقتها بلا حواجز .وتحلقا في عوالم أكبر ، وبدأ الحديث عن مشاريع المستقبل والتخطيط بخُطى وئيدة بلا عجل . لجذور المحبة أن تنمو وتأخذ سِعة للتفاصيل .
على مركِب العشق ترفقت الدنيا زمناً ، فالموج يلثُم أطرافها بحنان دافق . ما أيسر على قصص العِشق أن تتخطى الدروب الشائكة ، ولكن لن ينج أحد من صَفعة الأقدار بلا مُقدمات . ففي موعدها الدوري جاءت الإختبارات بخبر الشِفاء للكرماني ، و تقرر سفره لموطنه فجأةً ، انكفأ القِدر وتفرقت المصائر ، وترنحت الأحلام واختلطت الحِسابات . نهض الجَسد من كَبوته صحيحاً ، وآن لشجرة المحبة أن تزوي ، فقد هبطت فؤوس البتر بلا موعد . تقرر خروجه من المستشفى مباشرة وإلى السفر ، ومنحته إدارة التأمين الصحي يوماً وليلة للمُغادرة ، بعد أن أكملت الترتيبات . كانت المفاجأة صاعِقة ، ولم يكن هنالِك مُتسعاً . إنها عيوب نُظم العلاج على نفقة التأمين الصحي ،ينـزل القرار صاعقاً ومُدمراً . يجتمع الشِفاء للجسد مع فراق الأحبة . إنها الخسارة الفادِحة .
أخفى ( الكرماني ) أمر سفره عن ( نادية ) ، وأسَّر بالنبأ لشخصي ولمصطفى . شرح لنا أبعاد المأساة ، ورأى أن السفر بلا وداع أكثر رحمة لهما ، يقلل من وقع الكارثة على الطرف الغض من المعادلة .فعودته ثانية من مصر أمر يحتاج سنوات من التدبير والنحت في
حجارة الدُنيا والقبض على الجمر . وقرر هو إلا يودِّع محبوبته ، ولينهل مما اختزنته الذاكرة من فيض ، وحَمَّلنا أمانة تسليمها مفتاح شقتها إذ كانت تستأمنه دارها . فارقنا والدهشة تلبس لباس الحُزن وانعقدت الألسن جميعاً ونحن نودعه، ولم نقُل الكثير . قفزت الفاجعة الآن إلى نور المصابيح ، وبرزت أنياب الدنيا الكالحة . أطلت أغنية عبد الحليم حافظ من الذاكرة المنسية ، وكأنها تستكتب المستقبل حين تغنى من قبل ونحن في رونق أيامِنا : ـ
رميت الورد طفيت الشمع
يا حبيبي
والغِنوة الحلوة مَلاهَا الدمع
يا حبيبي
َوفْ عِز الأمان
ضَاع مني الأمان
وتاريني ماسكْ الهوا بأيديَّ
جلست مع ( مصطفى ) عند الطاولة التي نلتقي عندها كل ليلة ننتظر . حلَّت علينا كآبة لا تُحتمل ، وقَدمت ( نادية ) بفرائحيتها تسأل عنه . وهطل المطر أسوداً على ليلِنا ، فغطت نادية وجهها بيديها ، ونشجت بكاءً يفطر القلوب ، فاضطربت الأنفس وحبست الحديث في الصدور . لم يكن سهلاً علينا مشاهدة المحبة تُغتال بسكين النُظم في وطن لا نُدرك قوانينه بالقدر الذي يجنبنا الفواجِع . فلبسنا السواد أسبوعا ، ولم تستعِد المرأة العاشِقة ثوب نضارها أبداً حتى افترقنا . بقيت الحسرة تُضيء مجلسنا حتى فرقتنا الدروب التي لا تنتهي . الدنيا كانت أرحب ، وبرلين الغربية كانت داراً تأوي كل الأعراق المقهورة في أوطانها . مائتا ألف من طالبي اللجوء يقطنون برلين الغربية في ذلك الزمان . الدفء يلف الغرباء بالحنين ويَحضنهم . بعض أحزان الماضي ربما أكثر رأفة من تعقيد الحاضِر . نهض الآن صقيع الجفاء يصُد القادمين الجُدد ، فالدنيا من حولنا ارتدَّت إلى الوراء ، وأضحى البؤس عارياً بلا مُعين .
عبد الله الشقليني
30/01/2005
abdallashiglini@hotmail.com