نحو التغيير 4
26 May, 2009
عمر الترابي
عطفاً على ما سبق فبعد الحديث عن التغيير الإجتماعي و السياسي، نمضي كما وعدنا للحديث عن التغيير الإيجابي في المضمار الديني ، و الدين لا ينفصل أمره عن الدنيا بل أن غاية سعي المؤمن في حياته أن يُحيل أمره دنياه ديناً و أجراً فيتم له الأجر ويستزرع الدنيا رغبة في الأخرى فتعلوا همته و يلقى الحُسنى بإذن ربه و بعونه باديةً وختاما، [قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الأنعام:162}، فبطيب النوايا تصير الدنيا دين والعادة عبادة وينصلح الأمر، لذلك يتجلى واضحاً صلة المضمار الديني و الإجتماعي و السياسي، خصوصاً ونحن نتحدث عن مجتمع غالبه مؤمن بالغيب و يتلمس الإتصال به أدياناً واعتقادات أورثت معاني الفضيلة و أزكت مقومات المجتمع الصالح و السياسة الصالحة، لذلك فإن الصلة بينهما تجعلني أبني على المقالات السابقة بعضاً من الأفكار فأرجوا من القارئ الكريم أن يلحظها، وقطعاً هذا لا ينفي خصوصية الفكر الديني بلا تعارض مع الموضعين الذين تناولناهما لأنه متداخل معهما وربما يكون يابنياً لهما ولعلي في هذا المقال أمر ماسحاً على آليتين من آليات تنزيل الفكر الدين أجمع فيهما بعضاً من ما خطر على الخاطر من ما يدفع التغيير العام إلى السبيل الأصلح، فحبذت أن أتحدث عن الأمر بالمعروف و عن التأصيل كمعنى للتغيير ومطالبة الزعامات الدينية بتفاعل إجتماعي أقوى وآكد ينتهي كل هذا بإذن الله إلى أن يُحرك الإنسان نحو التغيير المنشود.
الأمر بالمعروف :
يأتي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من أولويات العمل الإسلامي على مر التاريخ، فقال عز وجل [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ...] {آل عمران:110}، وغيرها من الآيات التي تتضافر في تأكيد هذا الأمر و تظفر بهذا المعنى وهو مبسوط عن مظانه لدى أهل العلم، ويتلقى المؤمن الصالح هذه الإشارات بحماسٍ ورغبة أكيدة في التنفيذ وهذا شئ محمود الأصل، ولكن إن لم تُهذب هذه الرغبة وتنضبط بالأمر الرباني و تُناط بالتعاليم النبوية وبالإرشادات العامة - التي يُقعَِدها أهل الشأن - وأيضاً بالهوادي التي تتواتر بحِسها كل هذه المعاني فيرعاها السلطان، إذا لم يتم هذا كله لذهب معنى هذه الرغبة ولربما انقلبت ضداً، ولعل حديثنا هذا نستقوي لمنطقه بأن الله تعالى قدم العلم على العمل فقال اعلم أنه لا إله إلا الله، وقدم العلم على كل شئ وبذا فإن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضوابط يضبطها السادة العلماء في أبواب مفصلة لتأهيل الداعية والآمر بالمعروف ومراتبه وكيفياته، وحتى لا أخوض غِمار بحر لست ملاحه أقول وبالله العون أن جهود السادة العلماء يُتمنى لها أن تصب في تأصيل طرح الدين وتمتينه ومن ثم فإن عليها مخاطبة الواقع بلسانه، لا نقلل أبداً من القضايا الفرعية ولا من الجهود المباركة التي بُذلت وتبذل ولكن تعاطياً مع منطلقات التغيير ودواعيه، نطالب بالمزيد ونأمل أن تكون هذه الجهود مضبوبطةٌ بالنصوص التي توجه العاطفة لا بالعاطفة التي توجه النصوص.
نعم فالحق لا تزيده العاطفة و لا تُعرِّفَه إلا النصوص الضابطة، فلربما تنادت العواطف الطيبة وأثمرت باطلاً خبيثاً، واستقراء سنن الله وشواهد التاريخ يسوق لنا عظاتٍ وعبر تُلهمنا حكمة و تلزمنا الإتعاظ بها. فإن غالب الفتن التي أثقلت كاهل الأمة وأفرزت ما أفرزت من مثقلات إلى أرض الفتن والخمول، ما هي إلى إجتهادات وافتعالات طاشت عن الحق مع صدق النوايا؛ فغالب ما يكون أن العاطفة سبقت الفقه المضبوط. وبالعود على ما نحن بصدده فإن الفكر الديني هو لب عملية التغيير والمُحرك الرئيس له، واحترامي للسادة العلماء يُجبرني أن يتواضع فكري عند مقامهم (احتراما وإجلالاً) لتصير نظراتي و ما خلُصت إليه من طويلِ البحث إنما هو خواطر و رجاء أن ينظروا فيها، وأنا بإحترامي هذا أُربي نفسي على ضرورة تمتين هيبة العلم و العلماء حتى يبقى سلطانه ظاهراً، فإن أولي الأمر منكم على قول سيدنا الحبر عبدالله بن عباس رضي الله عنهما إنما تشمل فيمن تشمل السادة العلماء، فبإثباتنا لحقهم في أن تكون لهم الكلمة العليا نَمَتن لهذا السلطان الصالح وصلاح أمر هذا السلطان هين ومضبوط بإذن الله، وهو شأن طبيعي في كل الأديان إذ أنه من البديهي أن لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .
وحتى لا أضل عن مطلوبي و لا أطغى عن مقصودي فأقول إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آلية خلاّقة و إنها لإحدى قوائم التناصح بمعناه الأعم، و إنه لينبغي أن يتم على الوجه الأكمل، ويتم بالصورة المُثلى و على وفق ما عُلِم من أصولٍ ضابطة مُستقاة من منهج الإيمان الهادف لخيرية العقبى. فإنه لو تم بغير هذا الوجه تردى بالقيمة و تنحى عن المضمون المسلم به، وفي شبيه هذا يقول رب العزة [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ] {النحل:125} فإذا كان سياق الأمر بالمعروف يخاطب من هو أقرب لمنهج سبيل الله، فلعل البلاغ بالحُسنى فيه أدعى وأقرب، فما علينا إلا البلاغ بالحسنى إذ أن الله أعلمُ بمن ضلَّ وأعلم إن كان الناصح و الآمر بالمعروف من المُهتدين، فلئلا يُحسَب الأمر بالمعروف (إن كان بالخطيئة) على السبيل (الدين)، وحتى لا تشوه صورة الدين العامة بسؤ البلاغ، فنؤكد على ضرورة تأهيل الدعاة والآمرين بالمعروف فإنهم يُمثلون الدين.
تغييرٌ بمعنى التأصيل:
إن التغيير بمعناه الذي أوردناه في أول هذه السلسلة يتنزل بمعنى لطيف في مقصود ما نحن بصدده من القول بالتغيير في الفكر الديني فكما أشرنا في حينه فإن التغيير في الفكر الديني إنما هو تأصيلٌ له بمزيد من التمعن في المتون والمدونات والدراسات السابقة التي امتدت لآمادٍ من أزمنة البحث الفقهي فيما خلا، لتكون هذه الدراسات محاولة جادة تُطور من الفهم (والفقه) لتلكم الجهود وتربطها و تعيد ربط ما انفصم من علاقة المفكر الإسلامي بتراثه الفقهي الذي تمترس بقداسة يستحقها إلا أنها يُشتبه أنها حرمت المفكر من الإستفادة من التجربة السابقة، فبهذه الدراسة نستطيع إعمال الفقه السديد في هذا الزمان، وصياغة التراث القديم صياغةً تناسب العصر وتوائم الفهم الحديث الذي أفرزته المتغيرات، الحديثة التي .
مخاطبة الواقع :
تميزت المجتمعات المؤمنة بالغيب بأن العقائد تُشكل شيئاً غالباً من آليات التصرف و الخُلق والسلوك العام، فبطبيعة الحال يُعول على القائمين على أمر الدين من علماء و دعاة ومفكرين وأولياء أمور من خلافات دينية ومنازل مكتسبة بالدين، أن يكون لهم في الحياة العامة المبادرة لترشيد السلوك العام وتوجيهه بما يُضفي أخلاق الدين، فالعهد بهم أن يبادروا لمساواة الخلافات ، حلحلة المشاكل، وتداركها بالوقاية منها؛ توعيةً وتنزيلاً لمقاصد التدين ببث أخلاقه، ويكون ذلك بالتأسي بهدي الرسل، لتكون الزعامة أسوة حسنة، وبالتأكيد فإن المقام الإجتماعي الذي يكتسبه الزعيم الديني من عالم أو مرشد أو خليفة أو داع أوغيره، يُحتم عليه واجباً إجتماعياً موازياً لوزنه الديني في المفاعلة الإجتماعية الراشدة سعياً لخير المجمتع، ليس بإغاثة الملهوف و تنمية همم التكافل فحسب، بل بإستيعاب الخلافات الإجتماعية و النهوض بما يتيسر من ظروف مُعينة، فالحمد لله أن غالب و مجمل أهل بلادنل يكنون لهذه الزعامات الخير والحب والإحترام مما يُشكِّل المناخ السليم لكل مسالك الحل، سياسياً واجتماعياً، فإن دورهم في النُصح كبير، وعهدنا بهم أنهم أهل ذلك ولكن ثقتنا فيهم تدفعنا إلى أن نطمع في المزيد وأكثر، فإنا أملنا فيهم أنهم ممن هم مفاتيحٌ للخير مغاليقٌ للشر كما جاء عند ابن ماجة والبيهقي والطيالسي من حديث أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ).
* باحث وأكاديمي في دولة الإمارات العربية المتحدة.