ثورة الأغصان … بقلم: د.عثمان إبراهيم عثمان
26 December, 2009
سيرت جماهير قوى الإجماع الوطني (أحزاب تحالف جوبا) مسيرة سلمية يوم الاثنين 14/12/2009م،- دحضت بها افتراء الدكتور نافع - إلي مبنى المجلس الوطني بأم درمان؛ بغية تسليم مذكرة لرئاسة المجلس، وجماهير الشعب، تطالب فيها بمواءمة قوانين التحول الديمقراطي، والوحدة الوطنية الطوعية، والسلام، المتعارضة مع الدستور، واتفاقية السلام الشامل، ومبادئ حقوق الإنسان، والمواثيق الدولية، وهي قوانين: الأمن الوطني، والنقابات، والاستفتاء، والمشورة الشعبية، بالإضافة إلي تعديل القانون الجنائي، وقانون الإجراءات الجنائية. لقد أخطر القائمون علي أمر المسيرة، الشرطة بموعدها، ومسارها (حسب توجيه رئيس الجمهورية لوزير الداخلية، حتى يتسنى تأمينها)، كما أعلنوا بأنها ستكون سلمية، وتعتمد السلوك الحضاري في إيصال هذه الرسالة.
في صبيحة الاثنين، تحولت كل أحياء أم درمان المجاورة لمباني المجلس الوطني إلي ثكنات عسكرية، واكتظت شوارعها، وأزقتها بحشد من عسكر الشرطة، والأمن، والجيش وغيرها من مليشيات المؤتمر الوطني المدججين بالسلاح، والعربات المصفحة، وكأن البلاد في حالة حرب مع عدو خارجي؛ ولم لا؟، فلم تجهز تلك القوات أساساً إلا لردع الشعب، ومنعه من المطالبة بحقوقه، وليس للدفاع عن حياض الوطن التي صارت مرتعاً لكل طامع فيه. لقد تصدى العسكر بوحشية لا تعرف الرحمة علي المواطنين العزل، إلا من عزيمة صادقة لا تعرف الخور، بما فيهم النساء، وأوسعوهم ضرباً، وحرقاً، واختناقاً في مشهد يفوق ما يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين. كما قاموا باعتقال ما يفوق المائة منهم، ليطلقوا صراحهم فيما بعد بالضمان الشخصي.
لقد حبك الإنقاذيون سيناريوهات عدة، لتبرير استخدامهم للقوة المفرطة ضد جماهير المسيرة، فمنهم من قال بأنها غير قانونية، وآخر من وصمها بالتخريب، وثالث من أتهمها بالسعي لقلب نظام الحكم، وإشعال الفتنة بالبلاد. إذا ما تمعنا في تلك الموبقات الأربع، نجد أن الإنقاذ قد اقترفتها بالكامل في غير ما استحياء. ابتدرت الإنقاذ عهدها الشؤم بخرق القانون بليل، ومن ثم الاستيلاء علي الحكم عبر انقلاب علي السلطة الشرعية المنتخبة بواسطة الشعب. ثم تتابع خرقها للقوانين السماوية، والوضعية، في مناسبات عديدة منها: إعدام مجدي شنقاً حتى الموت بسبب حيازته لمال حلال؛ ودفن رفقاء السلاح أحياء، في حفرة واحدة، بعد رميهم بالرصاص، في الشهر الفضيل (رمضان)، ومقبل العيد السعيد؛ واغتيال الطالب محمد عبد السلام، ورمي جثته في العراء- مازال البلاغ مفتوحاً ضد "مجهول" بشهادة المحامي غازي سليمان رئيس هيئة الدفاع، قبل أن يصير مدافعاً جسوراً عن القتلة- وتعذيب الدكتور علي فضل حتى الموت في وعدد كبير من أبناء هذا الشعب الشرفاء- وتصفية كل أسرى حرب الجنوب، من مقاتلين، ومواطنين أبرياء مشتبه بهم؛ وإلا لماذا لم نسمع عن أي أسري أطلقت الحكومة صراحهم بعد إتقاقية السلام الشامل؟ ألم تكن كل تلك الأفعال غير قانونية، وتستوجب الجزاء العادل؟ ولن يتحقق ذلك إلا عبر إنشاء لجنة وطنية للحقيقة، والمصالحة، بمشاركة دولية، لرد المظالم، ورفع الضرر، عن كل من اعتدي عليه منذ فجر الاستقلال. بغير ذلك سوف يزداد عدد مطلوبي المحكمة الجنائية الدولية، التي لا محالة فاعلة، وإن طال"الزوغان". أما التخريب الذي استحدثته الإنقاذ في جسد البلاد فلا تحده حدود، وأسوأه ما علق بالنفوس من فساد أخلاقي، وإداري، ومالي؛ وأقله ما لحق بنظمنا التعليمية، والصحية، وركائز الاقتصاد الوطني مثل: مشروع الجزيرة، والسكة حديد وغيرها. كما استغل الانقلابيون، بخبث، التباين القبلي، والديني، فوضعوا وحدة البلاد في مهب الريح، عبر النزاعات المسلحة. محصلة كل ذلك أن صار السودان من أغلي دول العالم معيشة، مما حوّل 38 مليوناً من سكانه إلي جوعى؛ وأكثر بلاد العالم فساداً، بشهادة جهازه الرقابي. كما أصبح انهيار البنايات، وازدياد الأخطاء الطبية، من الأمور المألوفة، في عهد الإنقاذ، كناتج طبيعي لتدني المستويات التعليمية، والإهمال المتعمد لصحة المواطن. فهل أي فعل آخر، مهما بلغ من سوء، يمكن أن يضاهي"عواسة" الإنقاذ هذه؟ يجب أن يستحي أهل الإنقاذ عند ذكر قلب نظام الحكم، الذي كان حلالاً عليهم، حرام علي الآخرين. وما الجاه الذي أرخى سدوله علي نكراتهم، إلا عبر هذا الفعل المنكر. كما عملوا، بقناة لا تعرف الكلل، ولا الملل، علي زرع الفتن والشقاق- فرق تسد- بين مكونات المجتمع العرقية، والدينية، بغية استدامة هذا الجاه، والسلطان، حتى ولو إلي حين.
لنترك الموبقات التي ارتكبتها الإنقاذ في حق المواطن السوداني الشريف قليلاً، ونقوم بالتحليل الموضوعي للتعاطي العنيف، ورفع العصا الغليظة، في مواجهة جماهير المسيرة السلمية العزل. فالحقيقة هي أن الإنقاذ في أمس الحاجة "لانتخابات" تعلم كيف تربحها في ظل القوانين السارية الآن – أهمها قانون الأمن-، أو تعدل قليلاً، بمزاجها، إن أجبرت علي ذلك. تكمن أهمية هذه "الانتخابات" بالنسبة لهم في تعديل وضع قائدهم من رئيس انقلابي، إلي رئيس منتخب من قبل الشعب، ومن ثم يفلت من ملاحقة الأرجنتيني الأشعث؛ وما دروا أن وصمة الجنائية لا تنفك إلا عند حافة القبور. ولذا فإن التظاهر ضد قانون الأمن الوطني، المتعارض مع الدستور، واتفاقية السلام الشامل، يعتبر خطاً أحمر للإنقاذ، خاصة وأن جهاز الأمن والمخابرات – بجيشه المدجج بالسلاح، واستثماراته المترعة بالمال – هو الحاكم الفعلي للبلاد، والضامن الأوحد لبقاء الإنقاذ. عجبت أيما عجب، وأنا أسمع البعض يبرر وجود قانون سيئ كهذا، بدرئه للمهددات الخارجية، كنتيجة لتقاطر القوات الدولية والمنظمات الإنسانية علي بلادنا. فأقول لهم: إن وجودها قانوني، واستوجبه تعاطيهم السياسي الأخرق، وإصرارهم علي كراسي الحكم تحت كل الظروف، ولذا فان ضبط عملها كان يمكن أن يكون عبر استنساخ قانون خاص بها. في رأي أن قانون الأمن الذي أجيز يوم الأحد 20/12/2009م، قصد به ترويع، وإذلال المعارضين بالداخل، ولا علاقة له بتأمين البلاد من العدو الخارجي. كما أهمس في أذن رئيس المجلس الوطني بالقول: ربما كان هذا القانون "فاضلاً جداً" لو كان مجلسك وطنياً بحق، ليضبط تجاوزاته، ونظامكم العدلي غير مدجن لحزبكم الحاكم، لينصف المتضررين من تفلتاته.
ختام القول: إن الإنقاذ قد رسبت، بصورة فاضحة، في أول اختبار ديمقراطي، لأن حرية التجمع السلمي للتعبير عن الرأي، هي أساس النظم الديمقراطية الحقة. لقد أقبلت الإنقاذ علي الإنتخابات وفي ذهنها "مجبر أخوك لا بطل" ولذا تملأ الدنيا ضجيجاً بأنها ستقيم انتخابات حرة، ونزيهة تسلم السلطة لمن يكسبها، في حين أنها تضيق ذرعاً بمسيرة سلمية لمواطنين يمارسون حقاً دستورياً. إن كانت الإنقاذ فعلاً تعني ما تقول، فلم يتدثر رئيسها باللباس العسكري إلي الآن؟ وهل سيستقيل القائد العام للقوات المسلحة إذا ما ترشح لرئاسة الجمهورية؟ آمل أن تكون الإجابة بنعم، وإلا فإن من يترشح بجانبه يكون قد انتحر سياسياً، إن لم يكن قد خان وطنه، في رأيي.
خلاصة القول: إن نظام الإنقاذ – شأنه شأن كل الأنظمة الدكتاتورية – حساس لأي تمرين ديمقراطي، ولذا تجده يرتعد لمجرد رفع بضع رايات تطالبه بإفساح المجال للتنافس الحر، والشريف في الاستحقاق الانتخابي المقبل. وهو استحقاق جدي رغم الشكوك في قومية الأجهزة المنوط بها الفصل في أي نزاعات قد تنشأ ضمن إجراءات إنفاذه. ولذا فلتستمر قوى الإجماع الوطني في مسيرات "ثورة الأغصان" السلمية "ولن يضيع حق خلفه مطالب"، ولتجيش الإنقاذ مليشياتها، لمنعها حتى قبل أن تتجمع، بسد الطرق وإغلاق الكباري – لتقول إنها مسيرة لبضع أفراد-، ولتضربها بالرصاص المطاطي، والقنابل المسيلة للدموع، فلن يجدي ذلك فتيلاً.
د.عثمان إبراهيم عثمان
عميد كلية العلوم بجامعة الخرطوم السابق
osman30 i [osman30i@hotmail.com]