الصادق المهديِ بين الاُصولية والعصرية 1-2
13 January, 2010
abass_a2002@yahoo.com
وضع الصادق المهدي اللبنات لمذهبه الهجين بين الاُصولية والعصرية منذ ولوجه النادي السياسي بعد ثورة أكتوبر 1964. فمن ناحية, دعا لتحديث الحزب ورفض جمع الإمام الهادي للقيادتين السياسية والإمامية واصفها بالبابوية, ومن أخري تحالف مع الأخوان المسلمين في عدة سياسات, أهمها تبنِّي مشروع دستور 1968 الإسلامي. هذا يتضمن رفض البابوية في الحزب وفرضها علي بقية السودانيين, بمن فيهم الجنوبيين.
عصرية الصادق:
إضافة إلي إنكاره لحديث "النساء ناقصات عقل ودين" واصفه بالفقه الذكوري, قال الصادق أن المرأة يمكن أن تكون مسلمة وعصرية في اّن واحد, مُستدلاً بالاّية "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر." (مسجد ودنوباوي 12\7\2002). ولا يمكن أن تكون هذه الاّية تدعو لعصرية المرأة المسلمة إلا في حالتين فقط. الأولي, أن تكون دعت لعصرية المرأة في مجتمع الرسول وتمَّ تطبيقها في القرن السابع الميلادي. والثانية أنها لماَّ نزلت, لم يفهمها الصحابة, لأن وظيفتها أن تكون مُعلَّبة ومجمَّدة للقرن الحادي والعشرين لتعمل علي عصرنة المرأة. لا يعني ذلك أننا ندعو لعودة المرأة للعصور المظلمة, إنما رفض لي عُنق الاّية لتخريج مفهوم أو معني لا يطيقه أو يحتويه النص.
وذكر في "جدلية الأصل والعصر" و"نحو مرجعية إسلامية متجددة" أن المرأة قد تأخذ قد أكثر من الرجل في الميراث إذا تساوا في درجة القرابة. كما هاجم النقاب ذاكراً أنه ليس من الإسلام لأن الإسلام يبيح كشف الوجه واليدين. وبهذا المنطق, فإن التطوع والنوافل أيضاً ليست من الإسلام في شئ, لأن الإسلام فرض الصلوات الخمس وصوم رمضان فقط. ولا أعتقد أنه من الليبرالية وإحترام خيارات الاّخر, إن كان خيار شخصياً للمرأة, أن تُهاجم لإرتداءه, ويُربط بالجريمة, لأن الجريمة لا تقتصر علي مرتديي أزياء معيَّنة. كما أضاف الصادق بُعداً جديداً للعلاقة الجنسية, كان مجهولاً هو البُعد الروحي, وأبدي إعجابه بعيد الحب (فالنتاين) قائلاً: "إن به معان إنسانية طيبة." (خطاب عيد ميلاده).
إثارة هذه الأشياء تُنفِّر منه التيارات السلفية والمُحافظة خاصة وهو يدعو إلي تياره "السودان العريض" ليحكم ما يتبقي من القُطر مرة ثالثة. وبدلاً عن إثارتها, كان الأحري أن يطرح برنامجه بالأرقام لإزالة الفقر والبطالة, معالجة الديون الخارجية, إصلاح النظام التعليمي الذي أفسده النظام الحالي, علاج عزوف الشباب عن الزواج, إستعادة حلايب, وغيرها من المسائل المُلحِّة, بدلاً عن قوله إن الإقتصاد الحديث يرتبط بالشريعة مُستدلاً بالاّية "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها." بالنسبة لأهل الريف فإن الصادق مازال في وادٍ وهم في فيافٍ. وذلك لأن هذه الأمور تُعد ترفاً فكرياً للملايين في تلال البحر الأحمر والأنقسنا وجبال النوبة, الذين لا يعلمون إن كان فالنتاين هو إسم سيارة أو إسم ملكة بريطانيا, ولا يعنيهم بقدر ما يعنيهم توفير الضروري من الدواء والخشن من الغذاء والكساء.
اصولية الصادق:
كان مشروع الدستور الإسلامي, الذي تبنَّاه الصادق, بمثابة الإسفين الذي تمَّ دقه في نعش السودان الديمقراطي المُوحَّد, لأنه تسبَّب في إنسحاب الجنوبيين من لجنة الدستور, ثُم إنقلاب 1969. وبعد إنتفاضة 1985, كان برنامج الصادق هو نهج الصحوة الإسلامية. والدعوة لصحوة إسلامية في بلد كالسودان لا داعي لها لأن الإسلام لم يكن نائماً فيه. فبحسب المراقبين, يُعتبر السودان وصعيد مصر من أكثر المجتمعات مُحافظة وتمسكاً بقيم الإسلام في العالم العربي. أما أسلمة السياسة, فلا تعني صحوة بل إفساداً لكل من السياسة والإسلام, إذ أدت لشرخ الوحدة الوطنية وتشويه سمعة الإسلام.
وفي خطابه في إفتتاح الجمعية التاسيسية 6\5\1986, دعا الصادق المهدي لإقامة "التجربة الإسلامية الصحيحة العادلة." رئيس الوزراء يمثِّل الأمة بكافة طوائفها وأديانها وألوان طيفها السياسي, وليس طائفته أو الذين أدلوا بأصواتهم لحزبه فقط (1,531,236). لذا, الحديث عن تجربة إسلامية, لم يكن أولوية لأنها تفرِّق ولا تجمع, في بلد يدين فيها 30 في المائة من السكان بديانات غير الإسلام, إضافة إلي العلمانيين, وحتي المدارس الإسلامية التي لا تشاركه أيدلوجيته. كانت الأولوية التي ينبغي تكريس الوقت والجهد لها أمران: الوحدة الوطنية والتنمية الإقتصادية. بتحقيق هذان الأمران تنهض الأمم وتكون لها وزنها ومكانتها, إضافة إلي رضي الشعب عن الحكام وثقته فيهم, مما يؤدي إلي السلام الإجتماعي وترسيخ الديمقراطية. وهذان الأمران لا يحتاجان إلي تجربة إسلامية, لأنه لا توجد أمة, بالتنوع السوداني, أنجزتهما بإقحام الدين في السياسة.
من حق أي جماعة\حزب\طائفة إعتناق ماشاءت من أيدلوجيا, ولكنه ليس من حق أي من تلك الكيانات فرض أيدلوجيتها علي الباقين, ولو بأغبية برلمانية ميكانيكية. وذلك لأن الشريعة من المسائل الجوهرية, كالدستور ينبغي الحرص فيها علي أقصي قدر من الإجماع, بدلاً عن أغلبية اّلية. وحتي ما سمَّاه الصادق ب: "تجربة إسلامية صحيحة عادلة", لم يكن سوي إطلاق عموميات مُبهمة, لا تختلف كثيراً عن عموميات (المشروع الحضاري) لدي المُحافظين الجُدد. وذلك لأن الإثنين يشتركان في غياب تفاصيل وبرنامج مُحدَّد يعالج شؤون الدولة والأمة. هذا ليس حكم قاسياً علي الصادق, لأنه إن كان لديه منهج وبرنامج مُفصَّل عن تجربته المزعومة لكانت الفترة الديمقراطية السابقة كافية لرؤيته وتحقيقه.
وتعود خلفية الصادق الأصولية إلي تأثره بمدرسة جده الإمام المهدي. لم يدعُ الإمام إلي العودة إلي أصول الدين فقط, بل قاد حملة شرسة علي الفقهاء وحرَّم المذاهب, وأحرق كتب الفقه مستبدلها براتبه, وسنَّ قوانين فيها مغالاة وتطرف. فعلي سبيل المثال, منع المرأة من الكلام بصوت عال ومصافحتها للرجل, وكانت عقوبة من صافح إمرأة أو عانقها خمسين جلدة. بل أنه حرّم ما لم يحرمه الكتاب والسنة كخروج المرأة للأسواق ولبسها للمجوهرات, والإنفاق المُبذر في الأعراس, وعويل النساء في الماّتم. واعتبر المهدي الإلهام مصدر تشريعي, بدلاً عن المذاهب, والذي إعتبره بعض العلماء بدعة وكفَّره اّخرون.
كما إدَّعي المهدي بأن الرسول يخاطبه يقظة, وليس في المنام, ويخبره عن مغيبات: "أخبرني سيد الوجود يقظة لا مناما."
نعلم بأن الصادق لا يدعو لمنع خروج المرأة للأسواق, أو جلد مُصافح المرأة كجده, ولكنه كثير الإعجاب بالتراث المهدوي دون تمحيص أو نقد حسب قوله: "إن المهدية حُجة لا تُرد ولها نهج لا يبلي مع الزمن ورسالة لا تتقادم مع الأيام." وهذا قول يجافي الحقيقة والتقدم لأنه بمثابة وضع المهدية في مكان القراّن الصالح لكل زمان. ولا يقبل العقل والمنطق والعصر أن يكون راتب المهدي نهج غير بال إلا في حالة واحدة: أن يكون فيه حلول لمشكلات البشرية ليس الحالية فقط بل حتي قيام الساعة. ومن التراث المهدوي أخذ الصادق الإلهام كمصدر تشريعي, حسب ما كرَّر في عدة مناسبات. وتكمن خطورة الإلهام - الذي لا يقره أهل السنة والجماعة - في أنه يُضفي قدسية علي اّراء بشر, عكس الإجتهاد الذي يحتمل الخطأ, لذا وُضعت له القاعدة الفقهية "إن أخطأ فله أجرا."
وذكر أن القراّن والسنة أكدا المعني الوظيفي للمهدية مستدلاً بالاّيتين "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون." و"من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة علي المؤمنين أعزة علي الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم." لا نود الخوض في صحة المهدية أو عدمها أو الاّية الأولي. بيد أن الاّية الثانية تثير الرعب - كخطاب أيمن الظواهري - بما تتضمن من إقامة الجهاد في القرن الحادي والعشرين, مع أن عبدالرحمن المهدي قد ترك هذه اللغة منذ مطلع القرن العشرين, حينما تحالف مع بريطانيا. وهنا يكمن الفرق بين الصوفية والمهدية, فبينما تدعو الأولي لإصلاح الفرد عبر الموعظة الحسني والهداية والإرشاد, فإن الثانية تدعوه لها بالجهاد. وإضافة إلي المأزق الداخلي, فإن إستدلاله بهذه الاّية يوقعه في مأزق خارجي أيضاً لدي أهل الكتاب الذين يدعوهم إلي وحدته العيسيوية, لأنها تصنِّف الناس إلي مؤمنين وكافرين.
ولإثبات أن جده هو المهدي الوحيد الذي كان منتظر وملأ الأرض عدلاً, حاول الصادق نفي صحة المهدية لدي الشيعة الأثنا عشرية قائلاً: "قانون البشرية لا يسمح أن يكون عُمر مهديهم المنتظر أكثر من ألف سنة." ووجود المهدي وعودته لدي الإثنا عشرية قضية مُسلَّمة وغير قابلة للنقاش, ويعتقدون أنه إذا خلت الأرض من إمام لساخت بأهلها. وهو أمر لا يخضع لقانون إنما يستند علي المعجزة التي نفاها الصادق. وإن كانت المسألة بالمنطق فإنَّ القرن الحادي والعشرين أكثر حاجة لمهدي من القرن التاسع عشر, عندما قام المهدي بدعوته لتحرير ديار المسلمين وإزالة الفساد. وذلك لإستشراء الفساد والإنحلال الذي ضرب المسلمين, بسبب حُكام لا ضمير أو ذمة لهم قاموا بإحتكار الثروة وتجويع شعوبهم, كحُكام الخرطوم الحاليين.
وعن تحرير ديار المسلمين, فإن هذا العصر أحوج ما يكون لمُحرِّر من الهيمنة الأجنبية علي العالم الإسلامي, بصورة مباشرة (فلسطين, أفغانستان, العراق), وغير مباشرة (الجزيرة العربية, مصر). وبعكس مهدي جزيرة لبب, فهناك عامل رئيسي أدي لترسيخ مذهب الإثنا عشرية وقدسيته وإنتشاره, هو أن الأئمة الإثني عشر معصومين وينحدرون مباشرة من نسل الرسول من إبنته فاطمة الزهراء وزوجها الإمام علي بن أبي طالب. إضافة إلي عامل اّخر هو أن مذهبهم – عكس مهدية السودان – يحمل في طياته الأمل والمستقبل بعودة الإمام الغائب, ونشأت عنه مؤسسات ومنظومة فكرية وسياسية راسخة. هذا النفي يوقعه في حرج مع أهم قوتين في الشرق الأوسط: إيران وحزب الله. ولا يمكن مقارنة مهدية السودان بالشيعية, لأن الأولي حركة محلية لم تعبر الحدود, بل أنها حتي في السودان إنحصرت في أقاليم معيَّنة, بينما أن الشيعية لها أتباع في كل العالم الإسلامي. وأفلحت الإيرانية, بمفردها, في إزالة حكم الشاه, بكل جبروته, بينما فشلت السودانية, بمفردها, في إزالة ثلاثة أنظمة عسكرية خصمت 42 سنة من تطور السودان الطبيعي.
هذا الرأي ليس لإنتماءنا لمذهب الإثنا عشرية, إنما, كحالة النِقاب, من منطلق الليبرالية وإحترام قناعات الاّخر, وإحترام إفرازات هذا المذهب: إيران وحزب الله, القوتان الوحيدتان المناوئتان للمشروع الصهيو-أمريكي للمنطقة.