قراءة نقدية.. حول تناقضات ..مواقف أبناء جبال النوبة
20 January, 2010
قراءة نقدية.. حول تناقضات ..مواقف أبناء جبال النوبة.. وما يثار عن الهيمنة والتهميش.. من أجل البحث عن الحكمة الغائبة.. نحو وعى قومى جديد ضد التعصب
( 2 – 6 )
بقلم/ آدم جمال اْحمد – القاهرة
لقد ذكرت فى المقال السابق، المحور الأول والتى وعدنا فيها القراء بأنها سوف تكون في ست حلقات متتالية...
ثانياً: مؤتمر (كاودا) ومبدأ قرار الوحدة... وآلية الحوار وحق الاختلاف السياسي:
قيادات أبناء النوبة بالحركة الشعبية دعت إلى قيام هذا المؤتمر لعموم أبناء النوبة فى منطقة (كاودا) ، وقامت بتنظيمه والاشراف عليه ، وحضر المؤتمر ما يقدر بـ ( 389 ) مندوباً تقريباً وفقاً لبعض الإحصائيات .. منهم 165 من الخرطوم والمناطق الأخرى ، التي تسيطر عليها الحكومة ، وكذلك 209 من المناطق المحررة ، التي تسيطر عليها الحركة الشعبية فى جبال النوبة ، و15 من دول المهجر فى أوربا وأمريكا ، كما حضر المؤتمر رؤساء أربعة أحزاب من جبال النوبة التي تقوم بعمل سلمى وجماهيري وهم الأب فيليب عباس غبوش ومحمد حماد كوة والبروفيسور الأمين حمودة ويوسف عبد الله جبريل ومنظمات المجتمع المدني ، وممثل وزارة الخارجية النرويجية نيابة عن الدول الراعية للإيقاد ، ورئيس اللجنة العسكرية المشتركة لمراقبة المؤتمر ورئيس الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق.
وكذلك ضم المؤتمر ممثلين للأحزاب السياسية النوبية ، وممثلين للشباب والمرأة ورجالات الإدارة الأهلية والسلاطين وبعض قيادات الحركة الشعبية نفسها ، والتي لم تشارك فى المداولات أو سياقة القرارات والتوصيات ! لأن الهدف من هذا المؤتمر هو توحيد صف النوبة والخروج بتوصيات وقرارات موحدة . .
ولقد تميز هذا المؤتمر بالنظامية وجودة الإخراج ، الذي شهد له العالم على المستوى الدولي والمحلى والاقليمى عبر الأجهزة الإعلامية المختلفة ، مما يؤكد أن شعب جبال النوبة من أميز الشعوب فى العمل التنظيمي وتجاوز الخلافات والمشاكل مهما كان حجمها ، بالإضافة إلى روح التسامح ولكن رغم ذلك لقد صاحب هذا المؤتمر بعض الأخطاء والسلبيات وهذا شيء طبيعي لمثل هذا المؤتمر نسبة لظرف المكان وصعوبة السفر لمنطقة يصعب الوصول اليها بالإضافة إلى كيفية توزيع فرص الدعوات ؟ .
وكنا نتوقع لهذا المؤتمر أن يمثل كل قطاعات جبال النوبة لمجموعاتها العرقية المختلفة وأحزابها السياسية .. ليصبح ما يخرج به من قرارات يمثل ( كل النوبة ) ، حتى لا تظهر لنا أصوات هنا وهناك تعلو إحتجاجاً خارج هذا السرب ( مؤتمر كل النوبة ) ومن هذه الأخطاء لقد حدث تجاوز لبعض المجموعات فى الدعوات متمثلة فى إداراتها الأهلية وبعض الرموز من القيادات السياسية فلم تتاح لهم الفرصة فى المشاركة والتمثيل فى هذا المؤتمر الجامع لعموم أبناء النوبة ، لأسباب قد تكون غير مقصودة حدثت سهواً أو بطريقة مقصودة مما تركت فى الساحة نوع من الغبن وبعض التساؤلات التي تحتاج منا إلى إجابة ؟ .. ما هي الجهات التي قامت بتوجيه الدعوات للمشاركة ولماذا لم تقدم دعوة للحزب القومي الديمقراطي مثلاً ؟ فنحن نسوق هذه التساؤلات وبعض الأخطاء من باب المعالجة وسد الذرائع وكيفية عدم الإنزلاق مستقبلاً فى أى عمل نوبي يؤدى إلى تجاوز الآخرين .. لتمثيل كل الأحزاب النوبية الموجودة فى الساحة السياسية فى وعاء جامع واحد ، وتقديم الدعوة لها مهما كان صغر حجمها لأننا لا نريد أن نقلل من شأن كل الأصوات والأجسام !! لأننا فى مرحلة لا تتطلب عزل أحد مهما كان وضعه.
لأن هذا المؤتمر أثار جدلاًَ واسعاً بسبب القرارات المثيرة التي خرج بها المؤتمرون ومن بينهم المطالبة بحق تقرير المصير أسوة بالجنوب ، وتفويضهم للحركة الشعبية للتحدث بإسمهم فى مفاوضات السلام الجارية فى نيفاشا بكينيا فى سابقة سياسية هى الأولى من نوعها، وكذلك دمج أحزاب جبال النوبة الأربعة فى حزب واحد تحت مظلة ( الحزب القومى السودانى المتحد ) برئاسة الأب فيليب عباس غبوش ، بمعزل عن أحزاب نوبية اخرى ، وقد كان هناك حوارات جارية حول الوحدة فى الخرطوم بين هذه الأحزاب الأربعة وعلى أثرها قام بينها تحالف حول العديد من القضايا ، وبموجب هذا التحالف لقد تصدت لمعالجة قضايا نوبية كثيرة بالداخل ومن ضمنها الإلتقاء بمبعوث السلام الأمريكى ( دانفورث ) وتمليكه كل الحقائق ومطالب أبناء النوبة وخريطة تحدد حدود جبال النوبة وكذلك الالتقاء بـ ( ألن قولتى ) المبعوث البريطاني للسلام فى السودان ، والتي صاحبتها إرتفاع ضجيج صوت الحكومة إحتجاجاً للمذكرة الشهيرة التي هزت أركانه فجعلت ( الدنيا تقوم وتقع ) ... فالتوحيد كان قرار اللحظة ، والدليل على ذلك ما تمخض من إنقسامات مؤسفة ولم تمض على نهاية إنعقاد قيام المؤتمر شهر بين صفوف بعض قادة الحزب القومي السوداني المتحد لبعض ، وذلك من خلال تراشقهم بالبيانات بعزل وإقصاء بعضهم البعض فى مسرحية درامية حزينة ، مما أصاب جموع وجماهير النوبة باليأس والإحباط من الوحدة التي تكونت وتحققت بدون قناعات راسخة.
ولا نغفل بأن النظام كان وراء هذه المسرحية الدرامية لإستمالتها لبعض الأعضاء التي لم تكتمل فصولها ، والنظام له باع ويد طولى فى العمل السياسي لرسم الخطط بذكاء من خلال تجاربه الطويلة وأبرز الإستراتيجيات المدروسة ، والذي كان له عامل السبق فيها .. فأستطاع تفكيك وتفتيت وخلق إنقسامات وفجوات بين كل تنظيمات القوى السياسية السودانية وحتى وسط تنظيم الترابي نفسه كنظام سياسى إسلاموعروبي، فكيف الحال لتنظيماتنا النوبية التي لم تصقلها التجارب بعد.
فشعار الوحدة التي الذي رفعناه فى كاودا أثار حفيظة النظام الحاكم مما دعا مسئول ملف قضية جبال النوبة نافع على نافع لقاء بعض رموز القبائل غير النوبية والإجتماع بهم سرياً وحسهم فيها على خطورة وحدة النوبة وطلب منهم شراء وإمتلاك أراضى النوبة ( سياسة الاستيطان ) والعمل على تقويض هذا الاتفاق ، مع توفير مبالغ طائلة لهم من الأموال تحت تصرفهم وحتى يصبح النوبة الشعب بدون أرض ، وساعدوا بطريقة مباشرة أو غير المباشرة بالعمل فى تسهيل الهجرة وسفر أبناء النوبة أفواجاً وجماعات خارج السودان فى شكل أفراد أو أسر ، رغم أن هنالك ظروف قسرية لهجرتهم إلا أنها اعتبرتها سياسة لتفريغ المناطق بطريقة غير المباشرة ... فلذلك لابد من التفكير فى كيفية العودة الطوعية للنازحين والمهاجرين الذين هاجروا من ديارهم ومناطقهم فى جبال النوبة بعد السلام.
لقد ظللنا نتحدث مراراً عن الوحدة ؟ ولكن ما هي الوحدة التي ننشدها وهنالك تباين وسط هذه المجموعات النوبية تتمثل فى العرق واللغة والثقافة والدين والسحنات والعادات والتقاليد .. فماذا نعنى بالوحدة ؟ والتى أصبحنا نطلقها فى كل مجلس ومؤتمر هل هي وحدة سياسية أم إجتماعية أم عقائدية أم وحدة على النظام والمصير المشترك .. لأن مفهوم الوحدة .. مفهوم غامض مثلها فى ذلك مثل مفهوم الهوية فى السودان ، الذي أصبح مفهوماً إشكالياً وسبب إشكالية هذا المفهوم هو أنه مفهوم متحرك فضفاض.
تتبدى "الوحدة" بكل تعقيداتها وتجلياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية والعقائدية شاغلاً ضاغطاً وهماً حقيقياً يناوش المفكرين والساسة والعامة فى جبال النوبة ، وعندما تكون القناعة راسخة فى المفاهيم والاعتراف بالآخر هي التي تتحكم فى تشكيل وصياغة الوحدة الحقيقية وفق أصولها الطبقية أو الإثنية أو الدينية ، فإنها تعمل تلقائياًُ على الدمج القسرى لكل المجموعات العرقية والسياسية النوبية ، و فى إطار هذه العمليات يجرى إنتاج و تسويق أيدولوجيات الوحدة الطوعية ، كما يتم منع إنتاج أنماط الوحدة بمختلف صورها المستترة و المباشرة.
إن مفهوم الوحدة فيه معايير خلافية سياسية حوله ، مما يجعله يحتاج لحوار عقلاني و منطقي .. فإن المنطق آلية ضرورية لتواصل الحوار العقلاني بين البشر لأنه يضع المعايير التي تميز الفاسد عن الصالح من الآراء وتحدد الضوابط التي تعين على الإستنتاج السليم فى الوقائع والإفتراضات ، بصرف النظر عن الخصوصية المزاجية أو العقائدية لصاحب الفكرة.
لأن الحوار الفكري بين الناس لا يدور إلا من أجل الإصطلاح فيما بينهم على يقين حول القضايا ، التي تشتد حولها الخلاف بإعتبارها أمور ليست لها مسلمات تلقائية .. ومن جانب أخر فإذا تناولنا أى بيان أو مقال نشر خلال الأيام الماضية وقمنا بتحليله ، فسوف نرى العجب العجاب !! فالذي يريد أن يناقش توجهاً سياسياً لفرد أو مجموعة فيما يوحى به عنوان بيانه أو مقاله ينحدر فى صلب هذه الخصائص ( المزاجية ) لتلك المجموعة دون أدنى تحليل لتوجهه السياسي أو مدحاً له فالذي يريد أن يجادل تنظيماًً سياسياً حول رؤاه السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا يدور جدله حول الأطروحات النظرية لذلك التنظيم بل ينصرف إلى حديث سخيف عن خروج أهل ذلك التنظيم عن الملة .... حتى ينتهي و ينحدر بالنقد إلى التلاحى وإذا تلاحت الخصوم تسافهت الحلوم ، و يعتبر تشويشاً فكرياً عضوياً متعمداً والتشويش المتعمد إنعكاس لعدم الأمانة الفكرية أما العضوى فهو تعبير صادق عن التخلف الفكري لأنه فى هذه الحالة يصير عاجزاً فى عدم القدرة على تجريد الأشياء تجريداً موضوعياً وعقلانياً .. و لاشك أن إنعدام العقلانية هو الذي يعود إلى سيادة النزعة الذاتية فى الأحكام علي الآخرين مع كل ما يصحبها من خلط بين القيم في مجالات لا تفيد .
فيجب علينا أن نسعى إلي جمع ولملمة شتات صفوفنا المتبعثرة من أجل توحيد الصف والرؤي والكلمة في هذا الظرف الصعب ، حتي تصبح وحدة النوبة قوة تهابها الأعداء للحصول علي حقوقنا ومطالبنا المشروعة في هذا المنعطف الحرج والمرحلة العصيبة من تاريخ نضالنا في جبال النوبة جنبً إلي جنب في صفوف الحركة الشعبية لنتناسى فيها كل الظلامات ونزيل الضغائن وصغائر الأمور العالقة بالنفوس لنلتفت جميعا إلي الهم الأكبر ، الذي يتمثل في الإنتصار الحقيقي في الوحدة علي قلب رجل واحد ، لتنال بها قضية جبال النوبة .. ثم بعد الحصول علي كل الأهداف التي تتمثل للنوبة من حكم ذاتي وثروة وأرض والإعتراف بنا كشعب له مستقبله السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي في حق المشاركة والتمثيل بالحجم في ظل السودان الجديد بمتغيراته في سلام العدل والمساواة والديمقراطية ، ثم بعد ذلك يحق لنا أن نجلس كنوبة جميعاً ليكون الحساب لإزالة الضبابية وغشاوة الظلمة والمرارات بتوزيع عادل للفرص في المساواة والتفكير في كيفية إدارة جبال النوبة وتنظيماتها السياسية برؤي وأيدلوجية وفهم جديد .
أما الآن فإن الهم حقيقة أكبر ما يكون في التفكير في سفاسف الأمور التي يجب علينا أن نتجاوزها برحابة صدر ونتعامل معها بحكمة وعقلانية .. ومع كل هذه التداعيات تطل علينا الفتنة والتي بدأت شرارتها تتقد من خلال متابعتي للبيانات والمقالات التي تحمل صبغة جهوية وقبلية وأحقاد وسموم ومهاترات من بعض الإخوة تسرد فيها مواضيع لم يسمح فيها الظرف بتناولها ، لان الظرف غير ملائم لإثارتها والوقت غير مناسب لان اولويات المرحلة أكبر تتطلب منا جميعاً وحدة الصف ورفض التقوقع في الإطار الجهوي والقبلي .
لاننكر أن كل الفلسفات والحضارات التي نشأت في العالم قد بنت وقامت علي فكرة الإطار القبلي وفلسفة المجموعات ، لكنها تطورت بمرور الزمن فأخذت الطابع الأممي .. فنحن لا نرفض أن تكون هنالك روابط قبلية من أجل وحدة النسيج الاجتماعي مع إحياء الجوانب الثقافية والمحافظة علي الموروث والإرث لكل مجموعة قبلية فى أن لا تندثر وتذوب وسط الزخم الهائل من هيمنة الثقافات الأخري ، لأننا نعتبر أن هذه الروابط القبلية هي فلسفة في إطار التطور الفكري البراغماتي .. فيجب أن تتطور وتتشكل في الإطار الأممي الوحدوى الشامل لكل قبائل منطقة جبال النوبة بمختلف تباينها الثقافي والفكري والاجتماعي والعرقى والدينى من أجل وعاء جامع لكل عموم قبائل منطقة جبال النوبة للتعايش السلمى بينها فى جبال النوبة .
إلي اللقاء في الحلقة القادمة .......
القاهرة - 16 يناير 2004 م