ياسر عرمان وحسن الترابي وحديث على الهواء … بقلم: طلحة جبريل
26 January, 2010
talha@talhamusa.com
في أكثر من لقاء ومناسبة اثناء زيارتي للخرطوم وجدت ان فكرة ترشيح الحركة الشعبية لمرشح مسلم من الشمال يخوض انتخابات الرئاسة، رائجة وراجحة. كانت الانظار تتجه نحو مالك عقار لاعتبارين، لانه مسلم من الشمال بمعناه القديم وهو قيادي موقعه متقدم في قيادة الحركة الشعبية.
وكان لافتاً ان مصادر الحركة الشعبية نفسها هي التي سربت انباء حول احتمال ترشيح ياسرعرمان لمنصب حاكم ولاية الخرطوم. لكن المفاجأة ان الحركة الشعبية خلطت الاوارق تماماً وقررت في خطوة تتسم بمهارة سياسية ترشيح ياسر عرمان لا غيره للانتخابات الرئاسية.
في ذلك اليوم الذي اعلن فيه عن ترشيح عرمان، خصصت " بي بي سي" برنامجا اخبارياً حول الموضوع. وشاء القدر الذي ينسج أحياناً تفاصيله بمفارقات لافتة، أن يتحدث كل من الدكتور حسن الترابي من الخرطوم وباقان اموم من جوبا، وطلب مني أن اكون مشاركاً في ذلك البرنامج . كانت تلك اول مرة التقي فيها لقاءً افتراضياً مع الدكتور الترابي ، بعد ما يقارب من 22 سنة. وكان طبيعياً ان يطفو تباين في الرؤى والآراء فكرياً وسياسياً.
مشكلة الدكتور الترابي في ذكائه وسعة اطلاعه، لذلك يجد سهولة في ان ينتقل من موقف الى نقيضه، دون أن يرف له جفن. الغايات عنده تبرر جميع الوسائل. وعلى الرغم من أنه يتحدث كثيراً ويعرف كيف يجد طريقه نحو الاعلام ، لكنه يبقى من وجهة نظري رجل غامض. والرجل الغامض متعب لخصومه ومريديه على حد سواء، خصومه لا يعرفون بالضبط ماذا فعل، ومريدوه لا يعرفون كيف يدافعون عنه. يمثل الترابي اضخم سوء تفاهم عرفته السياسة السودانية وكواليسها. البعض يرى في أسلوبه دهاء وآخرون يعتبرونه مدرسة متقدمة في التكتيكات السياسية والحقيقة انه الاثنان معاً. وهو في كل الاحوال يدافع عن موقفه بغطرسة وشراسة. جريء حتى الوقاحة. ينتظر دائماً الفرص ليوظف الوقت لتقوية أوراقه الرابحة. يعتمد على تراكم أخطاء الخصوم . يطبق استراتيجية الغموض والتمويه وأحيانا يصبح الحديث معه في حد ذاته موضوع تفاوض . صياد محترف يعرف كيف والى أي اتجاه يطلق ناره. لا يحقق نفسه إلا عبر التصادم. لا يبحث عن معنى الأحداث بل يعطيها المعنى الذي يريد. يعرف كالسمكة كيف ينساب ليندس ويختفي أو يظهر على سطح الأحداث. يبدأ دائماً كحل لكنه ينتهي كمشكلة. لا يقدم بسرعة بل يحاذر. رجل يصعب فهمه. متحفظ جداً. حذر ومنطوي على نفسه. قليل الانشراح على الرغم من تلك الابتسامة الجاهزة في كل حين ووقت. تثير نوعية مزاجه الاهتمام ويفرض على مخاطبه جهداً لفك الغاز كلامه. رجل يتيه فخراً بنفسه. نشيط ومتحفز إذا لجأ اليه أحد لكن هاجسه المستمر رغبته في تمديد مهمته لذلك فهو على استعداد للالتفاف حول الحقائق بظن قدرته على البقاء بذاته وصفاته سواء كانت أسباب استدعائه قائمة أو انها انتهت لسبب أو آخر. يستوعب صدمة الحريق ثم إذا تطلب الامر يختفى تحت رماده.
التقيت الدكتر الترابي لاول مرة، في المغرب عندما جاء حاملاً رسالة من جعفر نميري الى ملك المغرب وكان ذلك في صيف عام 1983، وكان منصب الرجل ايامئذٍ ، هو" مستشار رئيس الجمهورية". أجريت معه حواراً سجالياً نشر في مجلة " المجلة". ثم التقيته مرة ثانية عام 1988، في اول زيارة لي للخرطوم بعد سنوات طويلة. كان قد طلب مني وقتها محمد بوستة الامين العام لحزب الاستقلال المغربي، الذي شغل منصب وزير خارجية المغرب لسنوات، عندما عرف انني ذاهب الى السودان أن احمل منه رسائل مكتوبة ، الى كل من الصادق المهدي بصفته رئيساً لحزب الامة ، ومحمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي ، والدكتور حسن الترابي الامين العام للجبهة القومية الاسلامية. كان مقر الحزب في الخرطوم 2 ، وعندما جئت الى ذلك المقر قيل لي ان الرجل يرأس اجتماعاً لمجلس شورى الجبهة، وكانت فكرة " الانقلاب" قد نضجت تماماً في أذهان قيادة ذلك التنظيم ، وادركت من بعد ان ذلك الاجتماع كان يدخل في إطار الاجتماعات التي تقلب الامر من كافة جوانبه. تبادلت حديثاً قصيراً مع الدكتور الترابي بعد ان سلمته تلك الرسالة التي كانت تقترح زيارات متبادلة بين الاحزاب السودانية الثلاثة وحزب الاستقلال المغربي ، تهدف الى بحث نزاع الصحراء.وقلت له وقتها " لست سوى ساعي بريد يثق فيه المغاربة".
ومنذ ذلك اللقاء لم نلتق ، ولعلني اقول بانني لم اكن حريصاً على اللقاء. إذ اصبح الرجل بعد بضعة اشهر" رجل النظام القوي" ، واخترت انا موقعي الطبيعي معارضاً للنظام الشمولي. وحتى حين جرت مياه كثيرة تحت الجسر وفوقه لم أجد هناك أصلاً جدوى من اللقاء مع رجل، تقلب يين كثير من المواقف، وانا في مكاني، معارضتي للانظمة الشمولية ليست موقفاً متحولاً.
ومرت السنوات بعد سنوات ثم جاءت واقعة" ياسر عرمان" لتشاء الصدف ان نلتقي " عبر الاثير" كما يقول الاذاعيون. قال الترابي الذي كان يتحدث عبر الهاتف من الخرطوم في معرض تعليقه على ترشيح ياسر عرمان، ان ذلك يصب في اتجاه العودة الى المؤسسات الديمقراطية والعمل من اجل الحرية، مشيراً الى انهم ايضاً في " المؤتمر الشعبي" اختاروا مرشحاً جنوبياً للسباق الرئاسية في إشارة الى ترشيح عبدالله دينق نيال. بل قال إنه حتى في حالة انفصال الجنوب سيكون هناك " مؤتمر شعبي" في الشمال وآخر في الجنوب.
وقلت يومها في معرض الرد على هذا الكلام وعلى الهواء مباشرة ، إنني مندهش لان الدكتور الترابي يدافع الآن عن " الحرية والديمقراطية" التي أنقلب عليه هو نفسه ، وانه الآن يبشرنا بان حزبه سيكون مثل " حزب البعث" قيادة قطرية في العراق وقيادة قطرية اخرى في سورية. وقلت ايضاً إن على الترابي ان يحترم ذكاء السودانيين وذاكرتهم. وكان رده على هذا التعقيب كلاماً أتذكر منه العبارة التالية " إن هذا المتحدث (دون إشارة الى الاسم) يعيش في التاريخ وليس في الحاضر".
أعود الآن الى مسألة ترشيح " ياسر سعيد عرمان" كما كان يردد السياسي الحاذق باقان اموم، خلال البرنامج نفسه. لم التق مع ياسر عرمان الا مرتين، الاولى كانت خلال ندوة نظمتها الجالية السودانية في قاعة حيث دأبت على تنظيم ندواتها في مدينة " الكسندريا" في ولاية فرجينيا الامريكية، والمفارقة اننا لم نصافح بعضنا بعضاً. هو لم يبادر وانا لم انتبه لوجوده حتى شاهدت صور تلك الندوة في وقت لاحق.
وكانت المرة الثانية خلال لقاء بين وفد من اتحاد الصحافيين السودانيين في امريكا مع وفد من الحركة الشعبية في فرجينيا نفسها، كنت وقتها رئيساً لاتحاد الصحافيين السودانيين ، وجئنا الى اجتماع مع وفد الحركة في إطار مبادرة وساطة للاتحاد بين الجالية السودانية وفروع الحركة الشعبية في الولايات المتحدة، بعد ان قررت الحركة مقاطعة جميع أنشطة الجالية. وكان وفد الحركة يضم ايضاً عبدالعزيز الحلو، ولم تحقق تلك الوساطة الغاية المرجوة منها ، وقررنا سحبها للاحتفاظ بعلاقتنا الطيبة مع الجانبين.
ونظراً لعدم معرفتي الدقيقة بالرجل، لا اعتقد أنني يمكن أن أتحدث عنه حديثاً سياسياً. في المرة الاولى لم يجر اصلاً حوار بيننا ، وفي المرة الثانية كان الحديث عن السبل الكفيلة بتطويق خلاف. لكن ذلك لايمنع من القول إنني بقيت أتابع عن كثب أنشطته ومواجهاتها ومجابهاته، وأسلوبه الصدامي مع النظام الذي يفترض ان حزبه يقتسم معه السلطة والثروة.
المؤكد ان ترشيح عرمان من طرف الحركة الشعبية سيبقى اختياراً لا يخلو كما اسلفت من مهارة سياسية. الحركة الشعبية تدرك ان الانفصال آت لا ريب في ذلك، إذن الوضع الطبيعي أن لا تحرق رئيسها سلفا كير في محرقة آخر انتخابات في سودان موحد، أي هذا الذي سيصبح " السودان القديم" بعد يناير من العام المقبل، ومن الافضل تمهيد الطريق له ليصبح رئيس الجنوب المقبل ، وبالتالي لا معنى ان تخوض انتخابات تعرف بكل الحسابات انها ستخسرها، لان أغلبية الشماليين لايمكن ان تصوت لرئيس من جنوب اصبح واضحاً انه سيمضي الى حال سبيله.
يبقى في هذه الحالة تقديم شخصية مثيرة للجدل مثل شخصية ياسر عرمان لهذه الانتحابات لازعاج مرشح المؤتمر الوطني ، وهي فرصة ايضاً لان تقول الحركة الشعبية في هذه المباراة الديمقراطية كل ما تريد قوله في حق شركائها في السلطة والثروة، عبر شخص ظل عصي على الترويض حتى وإن كان جميع من معه في القيادة يتولون مواقع رسمية في ما يعرف باسم " حكومة الوحدة الوطنية".
وهي بهذه الخطوة أيضاً سترضي" الشماليين" في الحركة وهي تعرف أن وضعهم سيكون محرجاً عندما يختار الجنوب الانفصال، ولعلها تقول لهم الآن، انظروا ماذا فعلنا لكم ، قدمنا واحداً منكم لأكبر منصب في الدولة.
"علم السياسة" ليس هو" علم التنجيم" لذلك لا يمكن ان نتكهن الآن ماذا سيحقق ياسر عرمان في انتخابات الرئاسة ، لكن المؤكد أن هذه الانتخابات أصبح لها على الأقل " نكهة ومذاق".
ولا أزيد.
"الاحداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1