السلام ونقض العهود في السودان …
29 April, 2010
اتفاقيات السلام في السودان عبارة عن خيبة أمل كبيرة وهشيم رمادٍ تزروه الرياح وتزوير متعمد لإرادة الأمة السودانية مهما غني لها المطبلون وصفق لها المهرجون. كم هائل من الاتفاقيات ذات الغرض السياسي كانت مخرجاتها إشعال بؤر جديدة وخنادق جديدة مرتهنة وغير مرتهنة ومستغلة ومستقلة. الاتفاقيات التي أبرمت لم تسكت المدافع والبنادق وهاهو السودان نتيجة لتنفيذ اتفاقيات ثنائية ينزلق الي هاوية انفصال الجنوب ثم يتبعها التمرد العادل في دارفور والذي سوف يتطور الي تقرير مصير وانفصال دارفور. الذي يحدث في السودان باسم اتفاقيات السلام المنقوصة أمرٌ لا يقبله العقل والمنطق. الذي حدث باسم السلام منذ مجيء ثورة الإنقاذ أمرٌ لا يتحمل وزره وتبعاته الفاشلة إلا حزب المؤتمر الوطني الذي يقود البلاد الي ما لا يحمد عقباه.
وإذا تتبعنا مسيرة الاتفاقيات الحديثة منذ مجيء ثورة الإنقاذ نجدها تبدأ من اتفاقية السلام من الداخل 1997 وهذه الاتفاقية كانت عبارة عن محاولة التفاف فاشلة لتشتيت جهود الحركة الشعبية لتحرير السودان، وكان الاتفاق فيها بين قادة من ثورة الإنقاذ ودكتور رياك مشار ولكن كعهد شمال السودان في نقض العهود تم نقض العهد وماتت الاتفاقية قبل عيد ميلادها الثاني تقريبا مما دعي الي مغادرة دكتور رياك مشار كرسي السلطة الوثير الذي وجده خاويا من الصلاحيات والمشاركة في اتخاذ القرار وموجها لمصلحة الشمال بزاوية منفرجة. غادر د. رياك مشار الخرطوم تاركا ورائه الاتفاقية الصورية لأن الاستمرار في هذا النوع من الاتفاقيات المنقوصة يعني الاغتيال السياسي لقضية الجنوب أو علي الأقل يعني حل بعضي أو جزئي لا يرقي لتحقيق سلام حقيقي يسكت جميع المدافع والبنادق.
ثم جاءت اتفاقية جيبوتي في العام 1999 وكانت بين الصادق المهدي وحكومة الإنقاذ وحينها قال الصادق المهدي جئت لاصطاد أرنبا فاصطدت فيلا ولكن سيادته لم يجد في شبكته فأرا ولا فيلا ولا أرنبه الذي تمناه ووجد نفسه يلاحق سرابا بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً وأصبح يقلب كفيه ندما علي ما قاله. هذه الاتفاقية مثل أختها السابقة انزوت في ركن قصي واغتالها الإهمال وعدم الوفاء بالوعود ونقض العهود وواصل الصادق المهدي جولاته بين تهتدون وتهربون ثم تشاركون وتشتكون ثم تقاطعون.
ثم جاءت اتفاقية نيفاشا في العام 2005 لتحقيق السلام الشامل بشهودها ووسطائها وشركائها الأجانب بقيادة الولايات المتحدة الامريكية الوسيط الأقوى وبضمانات قوية حتى لا تكون ضحية نقض العهود. الغريب في هذه الاتفاقية إن التجمع الوطني المعارض لم يكن مشاركا أو حتى مراقبا فيها. استمرت نيفاشا قوية ومحمية بواسطة الشركاء والوسطاء وتحت الضغوط الغربية والمحكمة الجنائية، ولكن مخرجاتها للأسف انفصال الجنوب وتملل الشرق وانفجار دارفور. هذه الاتفاقية رغم إنها أصبحت أمر واقع ونافذ إلا إنها لا ترقي أن تكون اتفاقية سلام شامل لأن السلام لم يعم دارفور الكبري بل زادت مساحات الصراع حتي وصلت كردفان، وهي اتفاقية لا تعبر عن آمال وطموح الأمة السودانية كلها فهي اتفاقية بين حزب شماليٍ واحد وحركة مقاومة جنوبية واحدة.
ثم جاءت اتفاقية القاهرة كوليد غير معترف به عالميا مصاب بشلل كلي يعيش في ظل الحكومة ويأكل ويشرب من بقايا مائدة الحزب الحاكم. هذه الاتفاقية ولأنها سودانية خالصة ولأنها بين قويٍ بيده السلطة والثروة وبين حزبٍ يتسول السلام فهي غير محترمة البنود وهي أيضا واهية واهنة ضعيفة تعيش في غرفة الإنعاش تتنفس أوكسجين المؤتمر الوطني ويتم إيقاظها متي ما شاءت الحكومة ومن أهم نقاط ضعفها إنها لا تجد التفهم والتأييد في الداخل وأحسب أنها لبت رغبات وطلبات شخصية لقائد حزب طائفي عريق.
ثم جاءت اتفاقية ابوجا في العام 2006 ميتة الأطراف والأوصال تنقصها المصداقية والقوة الحقيقية في الميدان فهي مثل اتفاقية القاهرة عبارة عن حمل خارج الرحم ومصنوعة بأيدي غير مهرة من قادة المؤتمر الوطني وهي تفتقر الي التأييد الداخلي بين أبناء دارفور. هذه الاتفاقية الجزئية في دارفور دعمت الصراع والنزاع والحرب في غرب السودان كله وأضافت بؤر جديدة في الصراع امتدت الي كردفان. هذه الاتفاقية المنقوصة هي سبب الحروبات التي نعيشها الآن لأنها حاولت ان تعالج أعراض المشكلة بدلا من معالجة جذور المشكلة. وبسبب هذه الاتفاقية التي لم تغن عن المؤتمر الوطني شيئاً مازالت عجلة الحروب مستمرة في دارفور والحكومة تتسول السلام في الدوحة وانجامينا في وجود تمنع شديد وشروط قاسية من حركة العدل والمساواة التي أثبتت وجودا قويا في الميدان العسكري والسياسي. الفشل في إدارة سلام دارفور سببه تعنت وعناد المؤتمر الوطني ومحاولاته غير المنطقية في إدارة الصراع والنزاع في غرب السودان.
ثم جاءت اتفاقية أسمرا في العام 2006 كمسرحية هزيلة تم إنتاجها ودبلجتها في استوديوهات اسمرا التي باعت القضية البجاوية بثمن بخس كميات محدودة من الذرة والبترول. هذه الاتفاقية تم التوافق عليها بسبب ظروف قاهرة وبسبب ضغوط كبيرة مورست علي قادة الحركة البجاوية. لكن برغم كل ما حدث لم يتم خرق هذه الاتفاقية بطلقة واحدة هذه محمدة لا تجد تقديرا من قبل المؤتمر الوطني. المهم المؤتمر الوطني لم يف بعهوده ووعوده تجاه أبناء الشرق الذين صدقوا معه وهاهو المؤتمر الوطني في الانتخابات الأخيرة لم يخل دائرة انتخابية واحدة للسيد مساعد رئيس الجمهورية موسي محمد احمد مثل زملائه نهار ومسار وغيرهم. كان موقف موسي محمد أحمد واضحا ضد المحكمة الجنائية وهذا الموقف يستحق التقدير وكان بإمكان المؤتمر ان يخلق له دائرة ويخج ويشحن له الصناديق كما في ولاية البحر الأحمر ولكن المؤتمر الوطني أراد ان يرسل رسالة لقادة مؤتمر البجا مفادها أنكم لا تملكون قاعدة حقيقية تستندون عليها لذلك سوف نستمر في تعيينكم في مناصب نختارها لكم. هذا السلوك من المؤتمر الوطني تجاه قضايا الشرق قد يجمدها حيناً من الدهر ولكنه لا يمنع من تجدد القضية مرة أخري. وأنا بدوري أهمس في أذن المؤتمر الوطني وأقول له لا تكرر أخطاء دارفور في شرق السودان فترقي القضية الي سقف تقرير المصير.
هذا النهج في إبرام الاتفاقيات لن يساهم في بناء وحدة وطنية ولن يساهم في خلق سودان واحد نعتز به ونفخر. الشاهد في هذا النهج لإبرام الاتفاقيات أنه ساهم في إعادة إنتاج الحروب والنزاعات بطريقة أكثر قسوة وساهم في تطبيع التدخل الأجنبي في السودان.
Taha Bamkar [tahabamkar@yahoo.com]