السودانيون في لبنان اليوم .. وبالأمس ماذ فعل عبود؟ … بقلم: خالد عويس

 


 

خالد عويس
21 July, 2010

 



خالد عويس
روائي وكاتب سوداني
21 يونيو2010
تحت عنوان: (سودانيون يشكون العنصرية) نشرت صحيفة (الأخبار) اللبنانية، الأسبوع الماضي، تحقيقاً لافتا شمل ضمن مادته حادثةً عنصرية للغاية تعرّض فيها سودانيون إلى معاملة قاسية في بيروت على يد عناصر من قوى الأمن اللبناني.

نحو مئة من السودانيين كانوا يقيمون حفلاً خيرياً في منطقة (الأوزاعي) في بيروت يعود ريعه لطفلٍ مصاب بالسرطان حين اقتحمت الحفل قوة مدججة بالأسلحة من الأمن اللبناني.إلى هنا تبدو التفاصيل منطقية.فمن حق الدولة اللبنانية أن تبحث عن المقيمين بصورةٍ غير شرعية، ومن حقها – أيضاً – أن تدقق في الأنشطة التي تقيمها جاليات عربية أو غير عربية.لكن أحداثاً دراماتيكية وقعت بحسب وصف بعض السودانيين الذين أشاروا إلى أن عناصر الأمن انهالوا بالضرب على الحاضرين مع شتائم (عنصرية) من العيار الثقيل من ضمنها: (على الأرض يا حيوانات) !! 

أُخرج السودانيون من صالة الأفراح إلى الطريق العام وهم مكبلون بالأصفاد، ثم أُمروا بالتمدد على الأرض، وداس الجنود بأحذيتهم على رؤوسهم ورقابهم. كل ذلك نقلته صحيفة (الأخبار) في تحقيقها عن سودانيين كانوا ضمن قائمة الحضور. حفل الشتائم من قبل قوى الأمن شمل عبارات من شاكلة: (صايرين تعرفوا تلبسوا تياب كمان يا بهايم) !

محمد صديق الذي يقيم في لبنان منذ نحو ثلاثة عشر عاما، يقول للصحيفة إنه تعرّض للضرب بقسوة، وقُيدت يداه خلف ظهره، وحين شكا أوجاعا في يده، أجابه الجندي: (مبسوط هيك يا أسود يا فحمة ؟). أما محمد آدم فيشير إلى أن أحد الجنود قال له: (هذا بلد محترم يا واطي، مش فاتحينو مرقص لأمثالك) !

صحيفة (الأخبار) اللبنانية سعت لاستنطاق مدير قوى الأمن العام، اللواء وفيق جزيني الذي لم ينف عملية الدهم، لكنه أشار إلى توقيف عدد كبير من السودانيين المقيمين بشكل غير شرعي. ونفى أن يكون قد تمّ توقيف أيّ سوداني يحمل إقامة شرعية.

وتبرز صحيفة (الأخبار) تناقض رواية اللواء جزيني مع الإقامة الشرعية التي أبرزها المواطن السوداني علاء عبدالله.

ورداً على الاتهامات التي ساقها المواطنون السودانيون بشأن الضرب والإهانات – تضيف (الأخبار) اللبنانية - لفت جزيني إلى أنهم (حاولوا الهرب أثناء عملية الدهم بعد مواجهتهم أفراد الأمن العام، ما دفع أفراد الدورية إلى شدّهم بالقوة، ومن يقل غير ذلك فهو يكذب). جزيني أكد في النهاية أن قوى الأمن العام تجري تحقيقاً داخلياً بشأن الحادثة. تبقى الإشارة واجبة إلى أن عدد اللاجئين السودانيين المسجلين في لبنان نحو ثلاثمئة لاجيء، بحسب مسؤولة مفوضية اللاجئين في لبنان، السيدة لور شدرواي.وتشير شدرواي إلى أن أعدادا أخرى من السودانيين تسللت إلى لبنان خلسة مع غيرهم من الجنسيات، لكن عددا منهم يتعرضون لإساءات من اللبنانيين مثل التمييز والعنصرية، وخاصة (ذوي البشرة السمراء والسوداء) !

سأعلّق على هذه الحادثة، لكن بدءً لابد أن أؤكد أن للبنان مكانة خاصة جدا في نفسي.فككاتب نشرتُ روايتي الثانية في دار (الساقي) البيروتية وارتبطت معها وبمؤسستها الراحلة، مي غصوب بعلائق وثيقة.وتجمعني بعدد كبير من الكتّاب والأدباء والإعلاميين اللبنانيين واللبنانيات وشائج قوية وصداقات عميقة.وزرت هذا البلد الجميل مرتين وأحببته.

ولعدد من كتّاب وشعراء لبنان منزلة خاصة في نفسي.ولفيروز منزلة مماثلة.وحين وقعت حرب 2006 انضممت إلى أصدقائي، الروائي الليبي العالمي، إبراهيم الكوني، والكاتب السعودي، والإعلامي، تركي الدخيل، والكاتب الطارقي، عمر الأنصاري، في التبرع بكامل حقوقنا المادية عن عائدات كتاب واحد منشور لكلٍ منّا لصالح أطفال لبنان، دون منٍ أو أذى، في إطار التفاتةٍ رمزية تهدف إلى تغليب هذا الطابع الإنساني الذي يمكن أن يلفت إلى قضايا أخرى كفلسطين ودارفور والصومال، وهذا ما كتبته لاحقا في مقال ناشدت من خلاله أدباء الشرق الأوسط إلى الاهتمام بهذا الجانب.

وأجدد دعوتي لزملائي الكتاب للاضطلاع بمهام إنسانية من أجل المضطهدين والمظلومين في كلّ مكان.هذا جهد المقل الذي يمكن أن نفعله.وأدعو زملائي الكتاب السودانيين واللبنانيين على وجه الخصوص لاحتواء هذه الأزمة وتشريح أسبابها والضغط الفاعل من أجل إجراء تحقيق شفّاف ونزيه.

فلا شك أن حادثة (الأوزاعي) التي وثقتها صحيفة (الأخبار) اللبنانية مفزعة للغاية.الجاني جهة رسمية ينبغي أن تحفظ الأمن وتحافظ على سلامة الناس.والجاني لم يكتف بترويع الحاضرين، بل اتخذ جنسيتهم هدفا لسخريته وعنصريته الفجّة.وهي حادثة يجب التوقف عندها طويلا.فلا معنى أبداً لشكوى الشعوب العربية من عنصرية الإسرائيليين أو الأوروبيين وهي تغض الطرف عن عنصرية أجهزة رسمية في بلد كلبنان إذا خلص التحقيق إلى إدانة قوى الأمن العام، وهذا هو الراجح، لأنني شهدت بأم عيني أفعالا عنصرية بحق عمّال نظافة سودانيين في بيروت أثناء تغطيتي القمة العربية التي عُقدت هناك مطلع هذه الألفية.

وكنتُ كتبتُ مقالاً - آنذاك – نشرته صحيفة (الصحافة) السودانية عن ضرورة تسوية أوضاع السودانيين في لبنان، ووجهته إلى وزير الخارجية السوداني – آنذاك -، مصطفى عثمان إسماعيل.لكن كيف لحكومة هي المتسبب بالأساس في ما آل إليه حال السودانيين داخل وخارج السودان، كيف لها أن تحرك ساكنا؟

السودان، البلد الغني بثرواته المتعددة، أصبح طاردا خلال العقدين الأخيرين، بسبب سياسات حكومة البشير التي وضعت 95% من السودانيين تحت خط الفقر، ولاحقتهم وطاردتهم وعذبتهم إلى درجة أنهم أصبحوا يفضلون الذهاب حتى لإسرائيل !

حادثة (الأوزاعي) أكدت – مرةً أخرى – أن من يهن يسهل الهوان عليه، والحق إن حكومتنا هي التي توجه إلينا الإهانة في كل مرة بسلبيتها وغضها الطرف عن كرامة السوداني داخل وخارج وطنه ! كيف يحصل السوداني على احترام الآخرين إذا كان الطبيب في بلاده لا يحصل إلا على شروى نقير، ويعمل في ظروف بالغة السوء، وحين يحتج، يُضرب ويُعذّب ويُزج به في السجن؟

وعندما تضيق الأرض بما رحبت بالسوداني في بلاده، فيفضّل الهرب إلى الخارج، يتم التنكيل به كما جرى في (الأوزاعي) ! محاصرٌ هو بالتعذيب والإهانة داخل بلده وخارجها. والحكومة السودانية لا تفعل شيئاً إزاء إهانات على هذه الشاكلة.السودانيون هم من تلقفوا تحقيق صحيفة (الأخبار) وصعدّوا القضية من خلال منتدياتهم الإلكترونية، وخاصةً "سودانيز أون لاين"، وطالبوا بمقاطعة المطاعم والمنتجات اللبنانية، بل وطالبوا بطرد السفير اللبناني، وسحب السفير السوداني من بيروت.وهم الآن يجمعون توقيعات لرفعها إلى الدولة اللبنانية ممثلة في رؤسائها الثلاثة، الرئيس، ورئيس الوزراء، ورئيس مجلس النواب.

كلّ ذلك يعبر عن غضب سوداني شعبي بالغ من هذه التصرفات، وإن لم يتم تدارك الأمر سريعا، فقد يحدث ما لا يُحمد عقباه، خاصة أن البعض لمحوا إلى وجودٍ لبناني في السودان، واستثمارات لبنانية في الخرطوم وجوبا.ونقول إن هذا الأمر مزعج.فـ(كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة).اللبنانيون والاستثمارات اللبنانية في السودان يجب أن يكونوا وتكون محلّ تقديرنا، ولا ناقة ولا جمل لهم ولها في ما جرى.وليس كل اللبنانيين سواء، ولا يمكن قطعاً أخذ الكل بجريرة البعض.

لكن، في المقابل، الصمت على ما حدث، بداعي العلاقات (الأخوية) والوشائج لن يجدي، ولن يكون لائقاً، خاصةً أن حوادث مماثلة وقعت بحق سودانيين في أكثر من بلدٍ عربي.كرامة الإنسان - أي إنسان - هي أمرٌ غير قابل للمساومة.ولابد من إجراءات تعيد إلى السودانيين - في لبنان – حقّهم، وإلا أضحى الطريق ممهداً لاتساع هذا الشرخ (الشعبي).ومشاعر السودانيين - الآن - في كلّ مكان متأججة للغاية، الأمر الذي دعا بعضهم إلى توجيه شتائم بحق الشعب اللبناني بأسره.هذا الأمر - أيضا - غير مقبول وفيه تعدٍ من المطالبة بالإنصاف والعدالة وصيانة كرامة السوداني أينما كان، إلى اقتراف الأمر الشنيع عينه الذي أرتكبته قوى الأمن العام في لبنان.

فلنتجاوز هذه الأزمة الكبيرة بإجراء تحقيق شفاف يردع الجناة وينصف السودانيين في لبنان، أو يدينهم بأدلة واضحة تُكشف لأجهزة الإعلام حتى نكون على بيّنة من الأمر.وليعمل المثقفون في البلدين على تدارك أمر العنصرية بحواراتٍ شفافة ومحاولة فهم الآخر ومعرفة تاريخه وثقافته وإسهاماته الحضارية بشكل أعمق.فالعنصرية في وجهٍ من وجوهها هي الجهل بالآخر.

حكى  الكاتب السوداني الكبير  عمر جعفر السوري ، عن سفير لبناني إسمه خليل تقي الدين ، كان يوما سفيرا للبنان في الخرطوم ، والتقاه في سنوات السبعينات:

((في ذلك اللقاء الأول( مع السفير تقي الدين) الذي أمتد لساعة ونيف،  روى لي ولضيوفه بعض ذكرياته هناك، وسأل عن معارف وأصدقاء.
حكى لنا عن استدعاء الفريق إبراهيم عبود رئيس البلاد، له بصورة عاجلة.  قال: "تلقيت مكالمة هاتفية ذات صباح من رئيس المراسم بوزارة الخارجية يخطرني بتحديد موعد لي مع الرئيس عبود لأمر عاجل بعيد الظهر، وأن الأمر لا يحتمل انتظار إرسال مذكرة دبلوماسية.
لم تكن بين لبنان والسودان أزمة حينئذ، ولم يكن في سماء العرب ما ينذر بشر أو يبشر بخير. تملكتني الحيرة، وقضيت كل ذلك الصباح في ضيق شديد، أقلب الأمر يمنة و يسرى.
دار بخلدي أن الحكومة اللبنانية أو الرئيس اللبناني قد بعث برسالة لم أدر عنها، فيها ما فيها. لم أستقر على رأي ولم أصل إلى ما ينير لي الطريق. قررت أن أستعد للأسوأ. 
ذهبت إلى موعدي مع الرئيس عبود، وهو رجل متواضع وودود وخجول. استقبلني فور وصولي ولكن بفتور ظاهر من غير عداء،  ثم دلف إلى الأمر الخطير الذي جعله يستعجل المقابلة.
استطرد السفير تقي الدين في روايته ومضى إلى القول :  "تمخّض الجبل فولد فأرا. لقد كان في خدمتي طباخ سوداني ماهر ولكنه طاعن في السن، فصار ينسى بعض الأشياء ويتجاهل في بعض الأحيان أوامري وطلباتي عن قصد أو غير قصد، مما دفعني في يوم من الأيام إلى تقريعه بحدة متناسياً فارق السن ولطف الرجل، أتبعت التقريع بحسمٍ في المرتب، ولم اكتف بالتوبيخ بل وجهت إليه إنذاراً بالفصل إن عاد إلى ذلك.
لم أحسب قط انه سيذهب إلى رأس الدولة يشكوني إليه، وأن الرئيس سيأخذ المسألة على محمل الجدّ  إلى درجة تدفعه لأن يقوم شخصياً باستدعاء السفير. قال لي الرئيس إن الرزق على الله ولكن كرامة كل سوداني تعنيه هو بالذات، ولا يتسامح فيها أبدا، ولذلك أراد أن يبلغني هذه الرسالة ولفت نظري إلى هذا الموضوع،  وأنه سيكتفي باعتذار للطباخ عما بدر مني، وأن اصرفه عن الخدمة مكرماً معززاً، إن لم أشأ بقاءه في عمله. اعتذرت للرئيس أولا عن ثورتي على الرجل، ثم رويت له بعض أفعاله التي أنستني وقاري.
ووعدته إنني سأعتذر له فور عودتي إلى السفارة، وانه سيبقى على رأس عمله. وهذا ما جرى.
لم يكن ذلك الطباخ من أقرباء الرئيس، كما لم يكن من قبيلته أو منطقته. هزّني ذلك الموقف الإنساني والسياسي والدبلوماسي والاجتماعي وما شئتم من الوصف، حتى يومنا هذا."  تلك رواية خليل تقي الدين، فأين كرامة السودانيين اليوم من ذلك الموقف، في ذلك الزمان؟!))

 

آراء